الورقة المشاركة في (مؤتمر الدراسات النقدية المنعقد في بغداد / 25/ 10/ 2017)
تحاول ورقتي أن تسهم في تحرير المعنى من النص، ومنطق قراءتي يرى أنّ مفهوم الشعرية تعرض للغموض والأخطاء أسوة بغيره من المفاهيم ..فإن نفهم المفهوم أي أن نتعامل مع (القراءة بوصفها بناءً) شيء وأن نستعمل المفهوم في نصوصنا شيء آخر ..وأن نشتغل على المفهوم نقديا من خلال نماذج عربية في الشعر والسرد شيء ثالث. ومن الجدير بالتنويه هو أنتشار مفردة ،،الشعرية ،، في كل الكتابات بَدءا من علم الأدب ولغة الأعلام وأنتهاءً بالتواصل اللااجتماعي ..وهكذا تفرّغ مفهوم الشعرية من فحواه وتعطل عن أداء وظيفته كرمز لغوي ..من هنا سنتدرّج بالكشف حول مفردة ،،الشعرية،،
علينا أولا التمييز بين (الشعرية ) و(الشعرية التاريخية )، الثانية معنية بالجانب التاريخي وهي أحدى الأتجاهات الأربعة الكبرى المتبعة والشعرية التاريخية : معنية ،، بتاريخ الأدب بالمعنى الخاص وتحديدا أصناف الخطاب الأدبي وتأليفها المستقرة،، أما الشعرية : فهي بشهادة تودوروف كمفهوم فقد (تنوع عبر التاريخ ) لكن تودروف نفسه يميل إلى تعريف فاليري الذي رأى في الشعرية (..أسماً لكل ماله صلة بإبداع كتب ٍ أو تأليفها حيث تكون اللغة في آن واحد الجوهر والوسيلة / 23) ..وسؤالي هنا هل نحن هنا أما نوع من أنواع الشعرية التي يمكن أن أطلق ُ عليها (الشعرية اللسانية ) ؟! إذ يبدو هناك شعرية أخرى تشتغل على منحى آخر من العمل الأدبي هو البحث عن كنهه الأواليات التي تنتظم سيرورة العمل الأدبي ..( ..لا تسعى إلى تسمية المعنى بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل علم ..وليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب الأدبي.) والشعرية لدى تودوروف بأختصار..(تلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي. أي الأدبية )..إذن لنتوقف قليلا عند (الأدبية)
(*)
ثمة وحدة وصراع الأضداد تكتنه الأدب بذاته ، هذا الضد لا ينفي الأدب بل يتجاوزه ليؤثل الخطاب الأدبي وهذا الخطاب يتصف بمشطورية جهوية مختلفة وهما :
*التفسير
*التنظير
في التفسير لدينا منظومات متنوعة في تفسير القرآن الكريم وهناك دراسات متنوعة لفاجعة الحسين منها (تراجيديا كربلاء) وقراءات تأويلية لسيرة سيف بن ذي يزن ، وألف ليلة وليلة ..إلخ .
أما التنظير فمازال ملتبسا بعض الشيء لأنّ الطريق ليست سالكةً دائما ..(فبدلا من هذا الموضوع الذي يخلفه التاريخ مبوّباً، لايرتابنا أي شك في هويته وتحديده، نجد موضوعا يكون من إنشاء الخطاب الذي يصفه عندما يكون موضوع التأمل هو المجاز أو الحكي أو التطهير، فأن هذه الوحدات لا تُعطى لنا مسبقا،، إلا إذا حدث ذلك بواسطة خطاب نظري سابق،،../ 10- 11) وحتى في حالة عودتنا للقرآن الكريم أو أدب الدعاء (دعاء كميل بن زياد) أو الصحيفة السجادية ،فليس في ذلك أي تكرار (فنفس الموضوع له عدد لامتناه من الخصائص) والتنظير لا يشتغل على نصوص شعرية أو سردية ، ولكن على الأدبية أعني على (مقولات عامة لموضوعات معطاة ).. وهذه الحراثة التنظيرية (في الأختيار بين الخصائص التي يهددها الاعتباط هي مصدر الشكل الأساسي للنظرية الأدبية )..وهذا التوازي بين التفسير والتنظير يجعلهما يستمران في سيرورة التقابل لا التلاقي (وهذا الأختلاف يمكن أن يقرأ كنتيجة للكيفية التي يكوّن فيها كلّ واحد موضوعه )
(*)
ما أن يلفظ أحدنا كلمة الشعرية ، حتى ينبري أحدهم بالكلام عن قواعد المرزوقي التي أنتجها لعمود الشعر .. قبل مئات السنوات ، وكأن العمود الشعري نفسه مكث في جبته الأولى .. أكرر لسنا مرغمين على الألتزام بتعليمات المرزوقي ولا تصنيفات أبو زيد القرشي أو طبقات ابن سلام أو ابن قتيبة، ولا نستهين بجهودهم أو بجهود من يجاورهم في المنظور. التراث،مازلنا نغترف منه ما يلائم لحظتنا المعرفية الراهنة ..نتوقف طويلا وعميقا عند ينابيع الوعي الشعري الخلاق لدى حازم القرطاجني في (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) وكذلك نستضيء من ابن رشد في (تلخيص أرسطوطاليس في الشعر) ولا نهمل الدرس الشعري (فن الشعر) لأبن سينا .. وشخصيا لا أتوقف عن الأغتراف من المنجز الثر للعلاّمة عبد القاهر الجرجاني… ف( دراسة المعنى اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني، قمة جهوده وثمرة طول نظرهِ فيما قال العلماء السابقون إلى أن أخرج نظريته الراسخة الأسس المتكاملة الأبعاد في دراسة المعنى اللغوي …/219- دكتور البدراوي زهران )..إذن منجزالجرجاني يمثل نقلة نوعية في إشتغال المعنى .. ويرتبط ذلك بدور الكلمة في سياقها كما نقول نحن الآن ،فهو يرى (الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم وعنها يحدث وبها يكون.. فلايتصور أن يكون هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف َ مع غيره…/ دلائل الإعجاز – 300)..
(*)
في كتابه ،، مفاهيم نقدية ،، يقول رينيه ويليك ..(يبلغ موضوع الرمزية ،، والرمز،، كاصطلاح ومفهوم من الاتساع ما يجعل حتى وصف ملامحه الرئيسة أمراً مستحيلاً ضمن حدود البحث الراهن، والكلمة تعود إلى العصور القديمة، وكان لها فيها تاريخ معقد لم يتتبعه التاريخ الوحيد الذي كتب حول الاصطلاح ألا وهو تاريخ الرمز (1912) ../264) وبعد سبع سنوات من كتابة تاريخ الرمز.. وبشهادة الناقد تزفيتيان تودوروف
سيعُلن عن ،، الشعرية (لقد أطلق ياكبسون سنة 1919هذه القولة التي أصبحت مُذاك شهيرة ،،ليس موضوع العلم الأدبي هو الأدب وإنما الأدبية،، أي مايجعل من عمل معين عملاً أدبياً. إن المظاهر الأشد أدبية، والتي ينفرد لوحده بامتلاكها، هي التي تكون موضوع الشعرية .إن استقلالية الشعرية رهينة بقيام الأدب بذاته ../ 84/ تودوروف – الشعرية ).. وجهويا يرى تودوروف رؤية رينيه ويليك، فكلاهما يتفقان على القدامة : ويليك ينسب الرومانسية للعصور القديمة بلا تحديد ، ويزيد عليه تودرووف بتثبيت علامة وجود على الشعرية ..(ولكي نبرر استعمالنا لهذه اللفظة يمكننا التذكير بأن أشهر الشعريات شعرية أرسطو، لم تكن سوى نظرية تتصل بخصائص بعض أنماط الخطاب الأدبي …/ 24) ..
(*)
كلمة الشعرية ، دائما في ذهني تعني (الشعرية البصرية) التي فيها جماليات التعايش السلمي بين الشعر والموسيقى والرسم ، وتبادل الاستعمالات بين الفنون الثلاثة ،يتجسد ذلك في ديوان(نشيد الكركدن) للشاعر صادق الصايغ ورسومات كاظم حيدر وفي التشجير/ أتوقف مع جهود الناقد طراد الكبيسي / كتاب المنزلات / الجزء الأول والثاني / منزلة النص وكذلك يتجسد أستعمالات القصيدة للرسم : المهندس قحطان المدفعي، جمعة اللامي في (الليل في غرفة الآنسة ن..) بنسختها المنشورة في مجلة الكلمة أوائل سبعينات القرن الماضي ..الأشكال الهندسية في قصائد جبار الكواز ، وتوزيع النصوص في مستطيلات ومربعات ومثلثات
(*)
ونحن في حضرة الشعرية التي تأثلت منها القصيدة العربية القديمة، وبالتجاور مع هذا التأثيل يقف المنظور النقدي المتزامن معها ، هنا نعاني من التفارق بين الكفتين ، والتفارق من سمات خصوصيتنا العربية فقط، فالغرب / بشهادة الناقدة يمنى العيد : لايشعرها وانعطافة هامة تعود من جهة إلى نشوء فن الرواية، وتعود من جهة ثانية إلى تطور العلوم والمعارف التي تخص اللسان واللغة والمضامين والأشكال…والتي أفادت منها، نوعياً، الدراسة النقدية الأدبية وفتحت مجالا للتنظير لجماليّة المكان في بناء عالم الرواية المتخيّل .فالنقد هنا كان يتوفرّ على مايخوّله في متغيرات الرواية الجمالية .. بالنسبة للنقد العربي المعاصر هناك معوقان :
*التضاد الاتصالي بين التراث والنهضة
*الاستعارة الاداتية للنظرية النقدية الغربية، التي سنلفق استعمالنا لها بذريعة كونية المعرفة
هل علينا أن نطوّق مفاهيمنا في الشعرية، بمشروطية : المرزوقي في مقدمته لشرح حماسة أبي تمام..المرزوقي يثبّت لنا محددات الشعرية وهويوصينا بالمطابقة بين الدوال ومدلولاتها المتوارثة : شرف المعنى، المناسبة، الاستعارة، المقاربة في التشبيه .. والسؤال الآخر هل مكثت الشعرية في مكانها المروزقي ؟ ألم يحدث قطعا معرفيا / إنفصاما لدى الشعرية ذاتها في الفترة العباسية التي أزدهر فيها الفكر المعتزلي والذي أحدث صدمة معرفية آنذاك ..وقد نجد صدى ذلك في تهكم أبو نؤاس الشعرية المعتصمة بالمعنى الموروث وشرفه ..
(قل لمن يبكي على رسم ٍ درس واقفا ماضرّ لو كان جلس ؟) هنا السؤال النواسي حول الوجود والموجود والأنوجاد وبشهادة يمنى العيد( هو سؤال العلاقة بين الحياة والموت أو بين حياة تموت في ثباتها المكاني – الزماني، وحياة ٍ تولد في تحولّها التاريخي فتولّد جمالية َ علاقتها الشعرية بالمكان ../ 111- يمنى العيد – في الرواية العربية – دار الآداب – بيروت – ط1 – 1998) والشعرية علينا أن نتمعن فيها من خلال النتاجات الأدبية للأديب نفسه، بدءاً من تاريخية الأديب في عيشه ، صعودا إلى الثقافة كتاريخ صناعي يقوم على الاطلاع والتأثر والتجديد ، كما يرى شربل داغر ../ 247 ) والسؤال الآخر هو : هل مفهوم الشعرية ليس سوى صوغ جديد لمصطلح ،،عمود الشعر،، يرافق الصوغ الجديد، الأختلاف بينهما في الجوهر والدلالة فإذا كان على العمود الشعري أن يلتزم بصرامة القوانين السبعة التي صاغها المرزوقي كتابو مقدس وهي مفروضة على النص من خارجه، فأن الشعرية تتكشف عن أتصاليات قوانينها في الظاهر النصي وباطنه ، والشعرية تفحص النص بسؤالها التالي : هل في هذه الرسالة الكلامية عملا أدبيا ؟ ماالذي يميز هذا النص شعريا؟ مَن يحقق شعرية النص : الإيقاع؟ الأنزياح الدلالي في اللفظ والتركيب؟ أم عبر البنية الداخلية بحضورها وغيابها ، برمزية الكلمات وتراتبيتها الخطية على الورقة، أم عبر كل مايجري في داخل النص وصولا إلى خارج النص المتجسد بالمبثوث له هذا النص ؟
(*)
ومقارنة ضمن العائلة اللغوية ،الأصطلاحية فأن (اللغة الشعرية )أكثر قبولا من مصطلح (لغة الشعر) ، فالأولى وبشهادة الناقد محمد رضا مبارك،( أكثر تعبيرا عن فحوى الشعرية من الثانية / 10) ..والشعرية ليست اللغة البديل الأنضج بل هي نوع في اللغة ذاتها .. وتجسيدها البيّن في الصورة السردية أو المشهد السردي في الرواية ، في الشعرية إذن تنعقد اتصالية : فكرية/ لغوية .. منبثقة من ذات خبيرة بالأثنين ، تتقن عبور التوصيل اللغوي، لتعطي (الذات حيزّا يمكنها أن تتحدث منه) – حسب لاكان ..
(*)
كقارىء نوعي كيف أستلم الشعرية في النص ..؟ أولا ً عليّ بقراءة النص، بعيدا عن قراءات سواي، وهذا البعد يشترط التمهل من أجل تجهيز استجابتي الخاصة لمرافقة النص،لحظتها سيعينني النص نفسه من خلال مايتقوّم هو به من جماليات أنفعالية تنبث نحوي وهنا سيتم التحاول فيما بيننا : محمولات النص ———— تربيتي في التلقي النصي
وهذا التحاور يمر ولايمكث عند المحطات التالية :
*الدلالة المعجمية
*العلاماتية
*التفهيم
سيكون مكوث قراءتي عند : ماأثاره النص فيّ مِن موجهات : الغيرة والحيرة والتشهي النصي ..بأختصار سأعلن كقارىء نوعي : ليتني أبّ لهذا النص .. وسأحاول أمنية ثانية حين أبث ُ قراءتي المنتجة حول النص / النصوص التي أدهشتني واتسع عالمي بأنوارها ..
أكرر…وأقوّس تكراري (ما أثاره النص فيّ ..) ..فالشعرية هي مسافة بين قطبين :
*جهامة المنهج ————— أجنحة التنفيذ الشعري
وأجنحة التنفيذ الشعري : تتجسد بجناحيها الرئيسيين : التعبير ———- التوصيل ..
ربما بالطريقة ينهض التناسج الشبكي المتحالف مع
: الإيقاع — النحو —- الكثافة — التشتت —- التماسك ——التجريد — الوقعنة
على هذه المفردات / المفهومية، ستمارس عروجها على سلم القياس الوظيفي ..
مع كل هذا وذاك علينا ، تكون الأولوية الشعرية هي من نصيب أجنحة التنفيذ الشعري
شخصيا أرى الشعرية كالتالي :
* نحذف قفص المنهج من أشتغالنا : بعد أن نستعمل ما يفيدنا منه
* نجترح سماءً صالحة ً لتدريب النص على الطيران
فالنصوص الجميلة هي التي تجيد الهديل، إذن علينا أن لا نحتكرها في الأقفاص ولا نتركها بلا مأوى ..
فالشعرية لها خصوباتها المتنوعة : الحسية، الحيوية، الدرامية، الرؤيوية ..وهناك شعرية تغترف من هذه الشعريات : شعريتها ..أعني بذلك الشعرية التجريدية المشتغلة على الكوني والأشراقي ..
لمن السيادة في الشعرية العربية الآن …؟ لا توجد سيادة مطلقة ..بل ربما هناك محاولة إنتقائية وهذه المحاولة تغترف من التنويعات لتثبّت بصمتها الخاصة الآن في التراتبية الأدبية العربية المعاصرة ..
(*)
قراءات متنوعة تجعلني أعتبر العالم نصا مرئيا يتكون من نصوص شتى، ولكل نص نسق قراءة شعرية فمن يتبحر في علم الفلك سيتمكن من تفكيك شفرات البحار والمحيطات ومعرفة القراءة الهادئة أو الصاخبة للأنواء.. وليس المتعلم أو المثقف مَن لا يتيه في الصحراء بل البدوي فهو يقرأ الأرض عبر التراسل المرآوي مع نجوم السماء، ولا يحتاج شبكة عنكبوت النت . البدو وربابنة البحر يلامسون نص العالم من خلال عيونهم وما تستلم هذه العيون من الدماغ من نظام معلوماتي بهذا الخصوص .. أليس هكذا نصل إلى قراءة نص العالم بالملامسة بكل مافيها من رهف.
الملامسة هي الأتصالية الأولى بين الكائن والأشياء العين . تلامس المرئيات والقدم تلامس مرتكزها فتزداد طمأنينة واليد في ملامستها معان شتى أولها (إذا ما لامستم النساء ../ ) والأذن تلامس الأصوات بحفيفها وتغريداتها ..وكل هذه الملامسات تتوزع على فصوص من نص العالم ،الذي نعيش فيه / وله / ومنه … لكن الآن مع التطور المتسارع تقنيا، هل تبقى شيئا من ذلك النص الأول للعالم؟ رقصات العقل البري التي نثرت العالم بشعرية باذخة .. الجسد شبه العاري يكتب نصا في الهواء .الجسد هنا هو النقطة والدائرة هي عيون الآخرين والآخريات..
الجسد البري : يتصبب شعرا وعرقاً واللهاث والهياج : معا .. والشعرية الراقية واعية لذاتها فهي ليست الشيء بل ما يتجاور معه، فقد وجدوا في قاعدة تمثال غوديا الكلمات التالية :(،، أنا ،، بدل غوديا ../82- الأبجديات الثلاث ) ..الآن نص العالم بنسخته الأولى :تراكمت عليه ألواح الكتابة والرقم الطينية وحروف المطابع والأرقام والشفرات ومبثوثات الأقمار الصناعية ؟ ماذا تبقى من ذلك العقل البري لنص العالم؟ ..من تلك الشعرية العذراء..؟ هل نضبت شعرية مياه المعرفة تلك ؟! المنبجسة من الينابيع الأولى ..من ذلك النكاح المعنوي بين القلم واللوح ؟ ذلك النكاح الذي أستولد : ذرية من الحروف ؟ ..لكن متى أنتهكت عذرية نصية العالم ..أو العالم كنص ؟ يخبرنا كلاريس هيرينشميت ..(يربط بعض المؤلفين ظهور أسلاف المعلوماتيين بتدجين الأنواع النباتية ثم الحيوانية إبان العصر الحجري، ويربط آخرون بابتكار الابجدية ../ 533)..
(*)
لا نقول (الشعرية) إلاّ علينا أن نشفعها بأسمين أسلاميين عظيمين : عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني فهما من أئمة هذا المفهوم وأعني الشعرية : الجرجاني والقرطاجني سلكا الطريق نفسه جماليا : كلاهما مكثا عند المعاني ..ثم عند المباني ..ثم … الأسلوب وهكذا أثل العبقريان أتصالية أسلوبية ماتزال في طراوتها وفتوتها فألأسلوب هو جسر ممدود بين :
المعنى ————– المبنى
فالأسلوب : هيأة تحصل عن التأليفات اللفظية
ويضيف القرطاجني : الأسلوب صورة وهيأة تحصل ،، بكيفية الاطراد في المعاني ،،
أما الجرجاني وضمن نظرية النظم التي هي بحق من أعظم ما اجترحه، فهو ضمن : لايأخذ الكلمة خارجة عن السياق ولايهتم بالمعنى وحده ولكنه يرجع إلى ائتلاف اللفظ بالمعنى ودخولهما في تعبير واحد مرتبط بمقامه ..وهو يبنى عمارته الدلالية السياقية كالتالي
: النظم – الترتيب – البناء – التعليق – مقام الاستعمال – مقتضى الحال ..
(*)
إذا كان ياكوبسن في الشعرية يرى : اسقاطاً لمبدأ التماثل من الشفرة إلى الرسالة، فأن ريفاتير في مقالته ،،اللسانيات والشعرية،،التي كانت أقوى المصدات آزاء أطروحات ياكوبسن في هذا الصدد، وفي أختلاف ريفاتير وافتراقه عن ياكوبسن في مقالته اللسانيات والشعرية وكذلك مقالته الثانية (وصف البنى الشعرية) في المقالتين يفترق عن ياكوبسن لكنه لايتحرر من مؤثرية أطروحاته ..فكلاهما يراهنان على ضرورة استفادة المنهج ذاته من التطورات الفاعلة في علم اللسانيات وهذا فتح ٌ أعلنه من جانبه روجر فاولر في كتابه (اللسانيات والرواية )..نعود إلى نقطة أختلافه مع ياكوبسن، حول الشفرة / الرسالة / التماثل : هنا يرى ريفاتير ،،أن أسلوب رسالة ما، سواء أكان ،،أعتياديا،،أم شعريا هو أكثر من كونه مجرد بنية تماثلات. وبدلا من ذلك فهو يمتلك بنيته الفريدة الخاصة التي تختلف عن تلك التي تتمثل في الشفرة. اذ تمتلك هذه البنية اساساً نهائيا لوظيفة الأسلوب في عملية التواصل ../ 115- ريفاتير والأسلوبية العاطفية / تالبوت ج تايلور/ ترجمة فاضل ثامر) ..
(*)
الشعرية ..
تزفيتان تودوروف : ينسّبها إلى العلوم التي تهتم بالخطابات،ويؤكد على أتصالية الشعرية كخطاب مميز بالخطابات الأخرى : الخطابات السياسية والفلسفية والدينية وكذلك يعقدّ تودروف أتصالية بين الشعرية والمنطوق اليومي والسينما والمسرح …ثم يصهر كل ذلك في إطار مشروع شعري عام ..الذي هو : انتاج علم الخطابات مهما تعددت وكذلك علم شروط المعنى مهما بدت متغيرة .وسؤالي هنا : حين تتسع الشعرية كل هذه السعة !! أين خصوصيتها في سماتها ؟ وهل هذه السمات في تجاوز مستمر؟ وإذاكان الأمر كذلك كيف يمكن اللحاق بهذه الشعرية ؟ وسؤالي هذا أنبجس من مقدمة تودروف لكتابه (الشعرية) فالكتاب منشور في 1967(في مؤلف جماعي عنوانه : ماهي البنيوية ؟) وحين صدرت طبعته الثانية في 1973 أجرى تودروف متغيرات على النسخة الأولى ، وفي الطبعة الثالثة 1983 أجرى متغيرات أخرى، وهذا يعني أن الشعرية كمفهوم في توسع دؤوب ..
2-2
مؤيد الرواي يرى الشعرية في غياب المنطق من النصوص، والمنطق هو كلب الأثر الذي يلاحق حياتنا من القماط إلى الكفن ، ويعني مؤيد الرواي بالمنطق :هو وعي السلوك وأنظمة الوعي المشروطة بتراكمات الوعي الاجتماعي ..وبشهادة الراوي (أقصد بالمنطق تلك المعارف البشرية المنقولة والمتوارثة، وتلك الاشتراطات والقوانين التي تراكمت في خط تصاعدي لتحكم الناس وتحدد خطوط حياتهم ../7) ..أما الشعرية فهي (كل الأساطير القديمة والفنون المتروكة لنا منذ فجر التاريخ لم تكن محكومة بالمنطق الذي يحكمنا الآن.لذلك هي مثيرة وباعثة على التأمل والدهشة. إنها شعرية إلى حد بعيد..)..أما الشعر فهو الأزمة وتجاوز الأزمة دائما، فالشعر يولد وهو مصابٌ بأزمته الخاصة دائما وبشهادة مؤيد الراوي( لأنه ُ يقع دوما في قلب أزمته الخاصة التي يريد تجاوزها) شعرية الشاعر توأمها شعرية الوجود ومشروع الشاعر (محاولة الخروج من سجن المواطنة الجماعية التي تم تدجيننا فيه، والنأي عن المؤسسة وهرمها المثقل عليه ..)..وحده الشعر والتناول الشعري للحياة اليومية وحدهما من ينقذان الشاعر من حياته ، ويكرسانه لمحاور الأشياء .وحده الشاعر يمسك ويقشرها من رواسخها وينظفها من سكونيتها..وحدها شعرية الوعي من تجد للغة وظيفة أخرى خارج هذه الوظيفة الرثة المستعملة لتبادل المنافع بين الأطراف ..
مؤيد الرواي يشعر حياته فتستحيل نصا، يدخلها بصيغتها العذراء ومن هذا التموضع الجديد تتلألأ نجوم قصائده ، يتجسد ذلك في قصيدة (العرافة ) فحين ترمي العرافة أحجارها تختلط المرايا وتبكي العرافة وتخاطب الشاعر:
(يابني لقد خرّبت حياتك منذ البدء)
نلاحظ أن القصيدة تتناوب بين صوتيّ: العرافة / الشاعر ، فبعد السطر الذي خاطبت العرافة الشاعر، يخاطبنا الشاعر وكأنه يفكك سطر العرافة فيقول، بنسق ثلاثي :
( زمني متروك بدلو
في قعر بئر عميق
في كهوف من المرايا يتكرر)
نلاحظ أن الزمن الذاتي الخاص بالشاعر : يتموضع في حيّز ضيق مهمل : متروك / بدلو
وهذا الدلو ليس في الهواء الطلق بل (في قعر بئر عميق ) نلاحظ الحيز الزمني للشاعر مطوّق بحيز آخر أكثر سعة لكن أعمق حجما مقارنة بالدلو فهنا : بئر عميق
نلاحظ أن هذا الزمن مشلول تماما ومطوق بثلاث أطواق من الفضاء المغلق
*دلو
*بئر عميق
*كهف
وهذا الزمن يرواح في انعكاساته : في المرايا يتكرر
نكاية بكل ذلك القهر الاجتماعي يواصل الشاعر مخاطب قارىء النص
(تلك الصبية العرافة
أردت منها
أن تقرأ حكمة الماضي والآتي
كي أحدق في وجه شظايا الأعمار
لأتلمس ُ أي عظم تكسّر فيه
ليهوي
كومة قش ٍ
في النار
ويترك لي
تفاصيل الرماد )
رغبة واحدة تراود الشاعر: عملية تطهير الذات، والمرموز لها :بالنار
لكن النار تلتهم كلية الأشياء وبقول العرافة :
(ماذا فعلت بنفسك يابني؟
أحرقت الطريق فاحترقت،
ماالماضي، ما الآتي،
أسودٌ مفترسة تنتظرك
لأنك خربت حياتك منذ البدء )
نلاحظ أن العرافة تبدأ وتنتهي بالسطر نفسه
(خربت حياتك منذ البدء)..
هذا السطر يكتنز : تنمية مجددة لقول كافافيس (مثلما خربت حياتك هناك ستخربها في كل مكان ).. إذاكانت لغة مؤيد الراوي هنا متهمة بلغة الحياة اليومية، فأن ذلك ميزة جيدة لشعرية الشعر الذي يكتبه..(فوضع لغة الحياة اليومية هو أنسب الأوضاع جماليا لتخليق التوتر بين مستويات التعبير الشعري ../86- د.صلاح فضل – أساليب الشعرية المعاصرة) ينتقل الراوي إلى الهاجس نفسه، مع قناع آخر للحياة هنا نكون مع الوقت.. تتنوع الاستعارة بخصوص الوقت وأحيانا يلتقط الوقت َ بعريه الشرس ..ثم يزاوج بين الوقت والزمن والزائر الأخير، كل ذلك بنسيج ٍ من شعرية الشعر التي تمكث ُ وتطيل المكوث في السطر الشعري الواحد المكتنز بشعرية تتجدد بتكرار القراءة :
(الوقت إسفنجة ٌ، للنوم، للانتظار،
لتفحص مارميناه في بئرنا المهجور)
(أي وقت ٍ غريب ٍ هذا وأنا لم أمسكه بعد
وأدعوه ُ إلى الحوار، أو أطعمه ُ من زادي
كنت ُ يافعا أبني عُشّي
فيمّر هاربا مثل طائر ٍ مهاجر ) ..
(لكن الوقت َ وقت ٌ، سيد نفسه ِ،
لاعب ٌ ماهر ٌ
لايتساءل عن العدالة ِ ولا يعرف المماطلة
يستل سيفه، في الغياب وفي الحضور
ويلعب به مثل بهلوان
مبهم النوايا يجتذب الجميع )..
قد تبدو السطور الشعرية للوهلة الأولى تتجاور مع لغة الشاعر محمود البريكان وعوالمه الكونية ..لكن لكل منهما بصمته في قصيدته ..
حين يدخل القارىء الفطن في حضرة قصيدة (بستاني الأزل) يتحول الفضاء المفتوح في متنزه(فريدريش هاين) بعد لعبة توهيم .إلى فضاء مغلق أخضر يفتك بذات المتكلم في النص
(بدأ اللون الأخضر يلطخني
يلون شعري
وجبيني
وأسمالي
أضحت عشبا ٍ تتجول فيه
مخلوقات صغيرة
وتورّقت يداي
وعلت الأغصان كتفيّ
فأثمرت فواكه فجة
أشعر بمرارتها في فمي
المخضوضر ../ 123)
القصيدة تبدأ بالميداني اليومي (في متنزه ،،فريدريش هاين ) في السطر الثالث من القصيدة يبدأ اللاواقعي في المشهد الميداني والمتكلم في النص لايشعر بالمتغير، ولا قراءتنا الأولى للنص ، الشاعر مؤيد الرواي من خلال اللاواقعي يظهر ماهية الواقع ..(أي تكثيف تصديق الحرفية اللاعقلانية / 314- كارلوس يوسونيو) ومع تراكم السطور يتلاشى الواقع ويتسيد اللاواقعي اللاعقلاني في شعريتة حادة وفي النهاية (ماهو لاواقعي يحتل مكان ماهو واقعي / 315/ كارلوس يوسونيو) ..
النهار في قصائد مؤيد الراوي: يهرب حاملا معادن ثقيلة، والشاعر سيدخل كركوك (بسفينة تحرسها الغواصات) سيرى من المدينة جفاف النهر والسواقي المطمورة وينتظر النهوض الجديد للمدينة لعلها (تعيد اسماءها )
هذه الورقة النقدية مدينة للكثير الكثير من المصادر منها المصادر التالية :
*حازم القرطاجني / منهاج البلغاء وسراج الأدباء/ وزارة الثقافة والمحافظة على التراث/ سلسلة الذاكرة الحية/ الاعمال الكاملة للدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة / تونس / 2008
* عبد القاهر الجرجاني /أسرار البلاغة / تح ه .ريتر/ مكتبة المثنى / بغداد/ 1978
* د. جميل سعيد/ ابن جني والجرجاني/ مجلة المجمع العلمي العراقي/ مج 31/ ج1/ 1980
* د. عواطف كنوش المصطفى / الدلالة السياقية عند اللغويين / دار السياب / لندن /ط1/ 2007
* د.قاسم المومني/ شعرية الشعر/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ عمان – الأردن/ ط1/ 2002
* فاضل ثامر/ الوحدات السردية للخطاب / دراسة مترجمة/ دار آراس/ أربيل / ط1/ 2012
* رينيه ويلك / مفاهيم نقدية / ترجمة د. محمد عصفور/ عالم المعرفة
* شربل داغر/ القصيدة والوطن / دار رؤية / القاهرة/ ط1/ 2015
* كلاريس هيرينشميت / الأبجديات الثلاث / ترجمة د. جمال شحيّد/ هيئة البحرين للثقافة والآثار /ط1/ 2006
*د. يمنى العيد/ فن الرواية العربية / بين خصوصية الحكاية وتميّز الخطاب / دار الآداب /بيروت/ ط1/ 1998
* د. البدراوي زهران/ عالم اللغة عبد القاهر الجرجاني/ دار المعارف/ كورنيش النيل/ القاهرة/ 1987
*د. صلاح فضل /أساليب الشعرية المعاصرة/ دارالأداب/ بيروت/ ط1/ 1995
*محمد رضا مبارك/ اللغة الشعرية في الخطاب النقدي/دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ ط1/ 993
* تودوروف / الشعرية / ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة / دار توبقال / تونس /ط2/ 1990
* رشيد يحياوي / الشعرية العربية : الأغراض والأنواع/ دار أفريقيا الشرق / تونس / ط2/ 1991
* مؤيد الراوي/ سرد المفرد / منشورات الجمل/ بغداد/ ط1/ 2016
* كارلوس يوسونيو/ اللاعقلانية الشعرية / ترجمة علي إبراهيم منوفي / مراجعة : حامد أبو أحمد / المجلس الأعلى للثقافة / القاهرة / 2005
—