في محطة القطار كنت أنتظر….. كنت مبكرا كي لا أتسابق مع الزمن ولا أكون ضحيّة الزحام، خصوصا وأنا عازم على رحلة الى مكان بعيد…. فما أسهل من الوقوع في غياهب ضيق الوقت!
جلست على إحدى طاولات الإنتظار أتفحص أوراقي… بطاقة سفري، جوازي، محفظتي، نقودي ودفتر مذكراتي…. ففقدان أيّ منها يعني إلغاء هذه الرحلة وكم من مرّة خرّب السهو الملذات…. نظرت الى ساعتي وقنعت بالإنتظار …. أخرجت جريدتي من حقيبتي وبدأت أقرأ ما يستهويني من عناوين، فما أسرع أن يذوب الوقت في سخونة الأخبار!
على حين غرّة خطف نظري قمر هادىء يتهادى بين أمواج المسافرين…وجه سبحان الخلاّق… رشاقة تبلل العروق…. وأناقة تبهر العقول… وعيون تخطف النفوس…. تسمّرت نظراتي وتقهقرت قدراتي وتململت أوراق جريدتي بعدما يئست من إسترجاع نظري وفكري !
يا للصدفة، فقد وقفت قريبا مني…. ربما تنتظر نفس القطار أو تنتظر أحدا سينزل منه، أو أن القدرالمشاكس قادها لتخطف إحاسيسي وفكري…. بحركة طارئة لا شعوريّة هممت أن أنهض من مكاني وأتحدث اليها …أسألها عن كم هو الوقت كما يفعل الشباب !. لكن في المحطة أكثر من ساعة معلقة هنا وهناك فما أسخف ما أفعل !. رجعت الى مكاني قبل أن أسلك سلوك المراهقين، وقد تيقنت بأن عواصف الهوى أقوى من عواصف الهواء إن هبّت على النفوس الخفيفة!
في عربة القطار المكتظة بالمسافرين شاء الحظ أن نجلس في مكان واحد…. جنبا الى جنب ، كتفا بكتف… لا يفصلنا غير حاجز الصمت. تحرّك القطار وقلبي قد تحرّك قبله بل صار أسرع منه….الآن لابد لي أن أصنع السؤال وألغي الصمت، لكن بطريقة حضارية متزنة كي أحفظ ماء الوجه، فالطريق طويل والفرصة سانحة وما عليّ إلاّ أن أتقن تنفيذ المهمّة. لابد أن أبدأ…. لكن البداية أصعب من كلّ شيء ! فقد تصيب وقد تخطىء وإذا أخطأت فشل المشروع…. يجب ألاّ أدعها تشعر بالقصد وتهرب من اللحظة الأولى، وأن يكون سؤالي عفويّا غير موجها وبطريقة دبلوماسيّة لائقة خالية من التلعثم والإرتجاف، فهل يا ترى سأقدر على ذلك….!؟. كنت أدرك أصول اللعبة وأعرف حيثياتها، لكن ريقي قد جفّ قبل أن أتكلم وأصابعي إهتزت قبل أن أتحرك، وضاعت من رأسي كلّ الأسئلة، إنطفأ كهرباء كياني…. فصار عقلي مشلولا لا يقدر على الإبداع، بل حتى على صنع سؤال يتيم واحد…. فما أسرع أن ينهار المرء أمام جبروت العواطف!.
إرتبك خاطري عندما بادرت هي بـ ” نفسها” بالسؤال….! شعرت أن الدنيا على وسعها لا تحويني…. فقد إنقلبت الموازين هذا اليوم رأسا على عقب، فأموري تجري على ما تشتهي نفسي وترغب روحي وهذا أمر لم أعهد مثله من قبل، فماذا حصل…..!؟.
– هل أنت متجه صوب ” عين البحر” ؟.
– أجل سيّدتي، وهل أنت كذلك؟.
– نعم أنا من عشّاق هذه المنطقة ، إنها جنة الله في الأرض!
– هذه المرّة الأولى التي أزور فيها عين البحر وقد حدّثني الأصدقاء عنها كثيرا وأثاروا في نفسي الرغبة والفضول وها أنا اليوم سعيد بتحقيق أمنية قديمة غازلها الزمن.
– لن تندم على زيارتك، فالمنطقة سياحيّة جميلة لم يسبق لي أن أرى مثيلا لها من قبل!.
– أتوقع ذلك سيدتي، فسفرتي فيها بدايات جميلة وعلامات توحي بالمتعة والنجاح!
أستمر الحديث الممتع بيننا على طول الوقت، لم نتوقف ولم نكلّ أو نتعب أو نمّل …. مضت الساعات كأنها دقائق نتحدث عن كلّ شيء…عن الحياة وفلسفتها، عن الإنسان وطبائعه، عن السياسة ومقالبها، عن الثقافة وآثارها، عن الدين ومفاهيمه، عن العلم وتطور آفاقه، عن المجتمع ومتطلباته، عن الطعام، عن الشراب، عن كلّ شيء جميل….. حتى عرفتها وعرفتني، درستها ودرستني، إستلطفتها واستلطفتني، منذ بداية المشوار!
لم يبق إلآ نصف ساعة ونصل الهدف، عليّ أن أسرع بجلب القفص قبل أن يطير العصفور …الكرة الآن في ملعبي وعليّ أن أصيب الهدف….. سألتها وأنا أتصنع إبتسامة الإستلطاف :
– تكلمنا كثيرا فأنا أشكر لك سعة الصدر وأعترف بأني قد إستمتعت كثيرا بكل أطراف الحديث الذي دار بيننا وسأكون ممتننا بمعرفة اسمك الكريم !
أجابت وإبتسامة ساحرة عفويّة زينت وجهها الناعم الجميل:
– إسمي ” حياة “.
– ما أجمل هذا الإسم وما أجمل الحياة…. فنعم الإسم ونعم الرسم ….أما أنا فإسمي ” مطلب”.
– مطلب !؟…..أنه اسم غريب لكنه جميل !
وهنا قد حاصرني الزمن ودفعني مأزقه الى أن أنطق خلافا لما تستدعيه الرزانه ولما يتطلبه التعقل فقلت وأنا أرتجف :
– هل تعلمين يا حياة بأن لا حياة من غير مطلب ولا مطلب من غير حياة!.
فهمت قصدي واستغربت من سرعة إندفاعي وثقتي بنفسي… حتى صارت أمواج الخجل الحمراء تتلاطم على صفحات وجهها الملائكي الساحر…. رغم ذلك تبسمت ورفعت حاجبيها الى الأعلى وهي تتساءل بغنج :
– وما مطلبك من الحياة يا مطلب ؟.
أجبت ومن دون تردد : تنبعث الحياة في مطلب حينما تحقق الحياة المطلب ونبحر معا في عين البحر….
لم تجبني ولم تنظر في وجهي، لكن سكوتها لم يؤثر على إندفاعي وعلى همتي لأن المثل يقول: السكوت علامة الـرضا…….!
غمرتنا عين البحر بجمالها….فمشينا في أطرافها وثناياها، تناقشنا في كلّ شيء، إختلفنا، إلتقينا، تهامسنا، ضحكنا، تقاسمنا لذة العيش الرغيد بجوار تلك البحيرة الساحرة وهي محاطة بالجبال الزاهية من كل جنب. مضت الأيام كالحلم السريع، لكنه حلما فريدا لن أنساه، فلو جمعت سنين حياتي كلّها لأختصرتها بلحظات ذلك الحلم الجميل!
في رحلة العمر هذه غسلت عن نفسي غبار الأنانيّة، وعطرت خاطري بعطور الإنسانيّة…..فصار شهيقي رحيق ورود وزفيري مشاعر قلب ودود….تجلّى أمامي كنه الحقيقة، فرميت قشور الوهم وتيقنت بعد الشك واستقمت بعد الضلالة….. فرحت بعدما حزنت …أحببت بعدما كرهت…. وأخلصت بعدما غدرت……في حياتي الغامضة سلكت معلوم السبل وخوافيها أبحث عن سعادة تلّمني، لم أجدها ! واليوم، وبعد أن شاء القدر، السعادة هي التي وجدتني، أفليس للإنسان ألاّ ما كُتب !؟. ما أسعد الأنسان عندما يعيش الحب وما معنى حياة الإنسان إن قاطعها الحب !.
عند عودتنا الى الديار….وفي عربة القطار….. سألتُ حياة : كيف وجدتي عين البحر يا صديقتي؟. أجابت ونور الصدق يشع في عينيها :
وجدت عين البحر كما وجدت عينيك يا مطلب، فهي عين ساحرة تأخذك الى أعماق الحقيقة فتبصر من داخلها نور الحياة وتتسلل من خلالها الى أسرار السعادة….. نسيمها شفاء وماؤها دواء….نجومها سامرتني وطيورها حاورتني…. أشجارها عانقتني وروابيها غازلتني…. أحيت الأمل في كياني وضخت الحب في شرياني….فما أجملها من عين وما أجملك من ملاك!
إغرورقت عيوني بالدموع وأنتابني شعور هائم يصعب وصفه، فلم أتمالك نفسي حتى مسكت بيد حياة البضّة البيضاء، الثم فيها مرّات ومرّات….. من كلّ زاوية ومن كلّ ركن، تعبيرا عن نشوتي وإشارة لإنبساطي…..
لقد أضاءت “حياة” أنوار السعادة في ظلمة عزلتي… وأغدقت العطاء في دهاليز حرماني…. فوجدت نفسي غنيّا بقناعاتي، قويّا باراداتي، وديعا بمشاعري وسعيدا بموجوداتي….إنهزم اليأس مني وتوارى القنوط عني وتشاردت آلامي وهمومي….حتىّ تبينت لي رسالة الحياة واضحة جليّة كعيون حياة…..
بعد خمسة عشر عاما كنت مع حياة وإبنتنا الصغيرة ” حوراء” في محطة القطار على نفس طاولة الإنتظار، ننتظر القطار الذي سينقلنا الى منطقة ” عين البحر “. كنا نقص على إبنتنا الجميلة قصة لقائنا الأوّل……!
—