هي الكتابة ، زمن الثورة ، زمن ان يسيل الدم بين ساقينا جداولا ، زمن ان ترفع الأماسي أوجاع المقاتلين ، أينَ تتمَاسى أوجاعهم ليلاَ بأحلامهم الوردية في انتظار ندى الفجر … زمن صراع ان تكون فيها لحظة الدفاع عن المبدأ الإنساني أقوى من نزيف دمكَ ، أيضا زمن صراع الكلمات فوق أزيز الخذلان و الخيانة و السلاح ، زمن الإيمان بطريقك طويل و انتَ أولّه …
هي الكتابة ، أيضا زمن أنثاي ، زمن فلامنكو رقص يديْكَ على جسد حبيبتي ، فلا ان تستحي من البكاء على صدرها ، لا عليك ، فلكل النهايات تكون بداية جديدة لولادة جديدة ، فلكلّ رحيل قدوم ، و لكل ّ زهر ثمرة ، أغمض عينيكِ و أستمع الى صوت السحب العابرة بهدوء ، الى حفيف اوراق الشجر من اعماق الغابات ، الى صوت ثغر رضيع يرضع من ثدي أمّه ، الى لمسات الموسيقار Yanni على البيانو ، الى جسدي حبيبين تقابلا في لحظة شبقيّة منتهية …
اتعلمين ، كثيرا ما كنت اشعر بالوحدة القاتمة ، كثيرا ما كنت ارتمي تحت ظلال شجرة الزيزفون المطلة على مجرى الوادي خائر القوى ، بالكاد استمع الى ضوضاء اليومي ، بين المُدْرَكِ و الحلم ، اشعر بمسافات بعدي عن مجتمعي مدمن على التدخين و الخمر و الحشيش (الزطلة)، مدمن على الشعر و الحياة و السياسة ، لكنّي مدمن ايضا على الحبّ ، لكنّي وحيد ؟؟؟
-آه ؟ ههه ؟ رجل كاذب ؟ أو انت وحيد ؟ اراك اجتماعيا جدّا ايها الكاذب الصغير ؟ تعال الى صدري حلوي الجميل و دعني ألاعب شعرك الطويل ! أتعلم ايها الكاذب ، انيّ لطالما احببت عينيك و شعرك ، عينيك الخضروايين المثيرتين الغامضتين !
– اتعلمين ، ههه ، كنت في ما مضى اخطط لقتلك دون دليل !
-اوه ؟ لمَ قد تقتل شابّة مثلي ؟ و بدون عقاب ايضا !
-ايه ، كنت اغار عليكِ
****************
في تلكَ المسارات الكثيرة من الحياة ، و تلك المنعرجات الخطيرة تؤدي احيانا للانتحار و اليأس ، يظهر في ذلك السواد الشتوي البارد ذاك النور المضيء ، يدعوك بهمس ، بهدوء ازليّ ، لمواصلة الطريق ، كثيرون ما يسقطون في جحيم الاحباط و تتلاطم انفسهم بين موج الهروب او القنوط ، كنت دوما مؤمنا بان حياتنا مليئة بالشوك و الورود ، بالارض و السماء و نيران العذاب ، اقتنعت ايضا ان على الانسان السعي و البحث ، عليه ان لا يخاف ، من خوض الشكّ ، و السؤال و الحفر في عادات ، تقاليدنا ، سياستنا ، ديننا ، عائلتنا ، ماقتا المسلمّات و الحقائق ، كنت حامدا لله اني احسنت التوجيه الجامعي ، مغرما بالدارات الالكترونية و البرمجياّت ، في تلك المرحلة الخطيرة اخترت طريق السؤال ، ادت بي الى تدمير ما يسلمون به ….
اليوم شعرت برغبة جامحة في كتابة شيء ما ، ، اثناء مروري بجانب احد الاكشاك لاقتناء قلم جاف و كراّس ، قاطعت الكتابة او كما يصف ثلة من الأدباء ذاك الشعور بغياب الإلهام ، تستوقني احيانا تلك المقولة : “ان تاريخ الادب هو تاريخ مواجع” سائرا في المدينة بهدوء ، مدخنّا –كم يعجبني التدخين تحت زخّات الرذاذ- احدى جوانب البار المطلّ على الشارع الرئيسي ، و اتتاتني المضيقة بقهوة اكسبراس ساخنة و زجاجيتين من البيرة ، شكرتها و انصرفت ، …المضيّفة فتاة في العشرينيات ، شعرها طويل ، تحسن مشطه لينساب على كتفيها ، شديدة الحضور و كأنها راقصة في ساحة البار ، اخبرتني كثيرا انّها مغرمة بعملها لدرجة تفننّت في تزويق جدران البار ، تحسن الرسم ، جامعة بين الثورة و الحبّ ، كثيرا ما استوقفتني تلك المقولة التي خطتها بجانب “كونتوار البار” بالخط الوردي وسمت بجانبه : » Un verre de vin c’est bon pour la santé , le reste de la bouteille c’est pour le moral »
************************
لكلّ منّا له تلك اللحظات القليلة التي قد ينفرد بها بروحه ، من تناقضات هذه الحياة اننّا نمنح الكثير من الوقت لغيرنا ، لأصدقائنا ، لأحبائنّا و لم لا أيضا لأعدائنا ، نمنحهم الحبّ و الوئام و الراحة ، وبل انّ كثيرا من مواجعهم نتمنىّ ان يصيبنا القليل منها لنخففّ عليهم ، قد نمنح الاعداء الكره و نخصص ليهم حيزّا من انفسنا ، من تفكيرنا …من الغريب الشديد ان تبقى ارواحنا مهملة لتمنح الغير ما قد لا يستحقّه ….
الكثير من الاصدقاء قالوا لي : من الجيدّ جدّا انك ّ تكتب ، لست مثلنا ، تلك نعمة الربّ عليكَ الكافر به ! على الأقل لديك ما تترجم به ، و بل هم لا يدركون حجم المواجع التي قد تكتب ، و انّ انسان مثلي فشل في الحفاظ على حبّ حياته ، و اصبح سكيّرا عربيدا في تلك الانهج ذات الانوار الخفيفة …صحيح اني قد فشلت في حبي لها ، مع هذا خططتّ لقتلها ، هاجرت مدينتي ، لم اعد احتمل ان اراها مع “زوجها” الكريه و نظراتها الحزينة ، لا ادري اي زواج لجسدين ، دون زواج اروحهما ، ليبقيا كمصابيح السماء ،
********************
جيهان ، تلك البينّة الحلوة ، ممرضّة في مصحة خاصةّ ، نور تدعى و اي نور قد اشرقت في بيت قلبي المملوء بالظلمة الحالكة ، كنت في ذاك المشفى اتعالج من داء السرطان ، ذاك المرض اللعين ، مع هذا هادئا ايامي ، و تلك الكلمات التي يقولها لي زوّاري :”يفرجّ ربّي” ، بالصدفة استحضرت في ايامّ مراهقتي تلك الاغنية التي يستمع اليها ندمائي للفنان “عصام الطويل ” في اغنيته يفرج ربّي ، كثيرا ما همت معه و في كلماته و لحنه ، يقول في تلك الاغنية :
و يفرج ربي يالندرا وقتاش يفرج ربي
و يسعادو ليام يسهى قلبي
صلي ادعيلي بالخير يا يمّا
كثيرا على شاطئ بحر اللوزة ، تشرئب اعناقنا ،ارواحنا الى جزيرة لمبيدوزا ، الى ايطاليا ، الى احلام الشباب ، في تلك اللحظات الخمريّة يعمّ صمت مليئ بالاحلام ، للهجرة الى اوروبا ، قد تبدو احلامنا للأوروبي او للخليجي عاديةّ عندما تتحول الحقوق الى الاحلام ، عمل ، زوجة ، ابناء ، بيت ،سيّارة … و لا طريق اليها الاّ طريق “الحرقة” (الهجرة الغير النظاميّة) .
الثورة حريق و دم و رصاص و آلام و موت و جراح و حبّ و رومانسيات تندلع بين الفينة و الاخرى ،
****************
صديقي مسعود ، مجاز في اللغة الفرنسيّة ، يشتغل كعامل بناء ، بسيط جدّا ، تزوجّ حبيبته ، حبيبة الجامعة ، الاولى و الاخيرة كانت كحبيبية ، انجب منها بنتَا حلوة ، سمّاها زينب ، على زينب اخت الشهيد الحسين ، رغم انه شديد الالحاد ، اخبرني انه سمّاها زينبا لان المواجع تنقيّ القلب ، تمنّى لابنته ان تكون نقيّة ، شفيعتها في ذلك زينب اخت الحسين ،