ان المرء ليتقيأ من شدة الصداع وهو يتابع احاديث السياسيين العراقيين هذه الايام، لكثرة ما يشوبها من تناقض وعدم نضوج وتردد وتخبط، وكأن اطفالا يلعبون في المحلة يتحدثون في السياسة وامورها.
ان تصورا واحدا فقط يمكن استخلاصه من مجمل احاديثهم وحواراتهم وتصريحاتهم وبياناتهم، الا وهو انهم جميعا يتطلعون الى ان يكونوا رؤساء للوزارة القادمة، وبمعنى آخر، انهم يتحدثون بمقياس الصراع على السلطة حصرا، والتهالك على الموقع، وليس بمقاييس حب الوطن والحرص على منجزات العراقيين والتطلع الى تحقيق مصالح الناس وانتزاع السيادة الوطنية وقيادة البلد الى بر الامان، طبعا، ولكل منهم مبرراته الشرعية والوطنية والحضارية والسماوية والارضية وغيرها، والتي تمتلئ بها جيوبهم.
لا احد منهم يتحدث بمقاييس الناخب، فلم يذكر احدهم صوت المواطن الذي ضاع في متاهات اجتماعاتهم العقيمة وزياراتهم المبتذلة وجولاتهم المكوكية المشبوهة.
يتلاعبون بالكلمات ويتداولون العبارات بطريقة تدلل على جهلهم بما يريدون تحقيقه على وجه الدقة، فواحد يطالب بتشكيل جبهة عريضة وآخر لجنة رفيعة وثالث حكومة رشيقة ورابع شيئا آخر نحيفا لم يسمه بعد، وكل هذه المصطلحات تذكرني بايام المعارضة، عندما كنا نسمع بين الفينة والاخرى عن تاسيس تجمع جديد وباسماء عجيبة وغريبة، فبادر بعضهم بتشكيل (جود) لينافسهم آخرون بتشكيل (جوقد) ليبزهم آخرون بتشكيلة (جوع) ثم انتقلت النغمة الى (موع) ليستبدله آخرون الى (موعم) كشرط للالتحاق بالاخير، وهكذا، وكانهم اليوم لا زالوا في المعارضة يعارض بعضهم بعضا ويتعاركون مع ذبان وجوههم، على حد وصف العراقيين عندما يتندرون على احد وهو في حالة عصبية على لا شئ.
ليس بينهم من يجرؤ على قول الحقيقة المرة، ولا احد منهم يتحدث بصراحة الى الناس، ولم نر احدهم وقد وضع اصبعه على الجرح وحدد المشكلة، فالكل يلف ويدور حول الحقيقة والمشكلة، دون ان يتسلحوا بالشجاعة التي تؤهلهم لخوض غمار الامور بصراحة ووضوح وشفافية.
وهنا اتساءل:
لماذا لا يتحلق هؤلاء، وتحديدا زعامات الكتل الفائزة، حول احدى برك الدم التي تنتشر في جل مناطق بغداد بعد كل عملية ارهابية، ليناقشوا موضوعة تشكيل الحكومة العراقية القادمة؟ بدلا من ان يتشاجروا في الفضائيات ويشتم بعضهم بعضا في وسائل الاعلام؟ فقد يساعدهم منظر الدم على الاسراع في ايجاد نهاية لحواراتهم بهذا الشان، من خلال اثارة الغيرة مثلا او الحمية الوطنية او الانتباه او الشرف او الحماسة او الحرص او اي شئ آخر بقي عندهم، او قد توقضهم من غفوتهم، فيتلمسوا المخاطر ليضعوا حدا لحوار الطرشان القائم بينهم الان.
ثم اتساءل:
لو ان عوائلهم كانوا يسكنون في بيوت الى جانب بيوت الفقراء في الاحياء الشعبية التي تنزف دما كل يوم، هل تعاملوا مع العملية السياسية بهذه الطريقة؟ وهل تباطؤوا لدرجة التفريط؟.
فبقاء هؤلاء بعيدا عن الواقع اليومي الذي يمر به العراقيون بسبب تاخر تشكيل الحكومة الجديدة، يصيبهم بالاسترخاء وربما باللاابالية، فليس من يجلس حول بركة دم يفكر بنفس الطريقة عندما يجلس متخما ومنفوخا حول طاولة مستديرة او امام عدسات الشاشة الصغيرة، اليس كذلك؟.
ما يحيرني حقا، هو، هل يعقل انهم لا يتصورون حجم الكارثة التي ستحل بالعراق اذا استمر الوضع السياسي على ما هو عليه الان؟ هل يعقل انهم لا يقدرون حجم المخاطر المحدقة بالعراق اذا ما استمرت صراعاتهم على السلطة من دون ان يرى العراقيون حلا في الافق المنظور او ضوءا في نهاية النفق كما يقال؟.
هل من المعقول انهم لا يعلمون بان الزمن ليس لصالح احد؟ وان تاخر تشكيل الحكومة الجديدة سيفتح الباب على مصراعيه امام كل الاحتمالات السيئة والخطيرة؟ وان ذلك سيدفع بالشارع العراقي الى ان ينفض يديه منهم ومن خيرهم اذا كان وراءهم خيرا يرتجى؟.
لقد تعطلت جل دوائر الدولة، طبعا على راسها السلطة التشريعية فلم يعد في العراق اليوم جهة ما تشرع القوانين، ما يعني ان الحكومة بدورها تنفذ بلا تشريعات جديدة، كما ان الحكومة اليوم بلا رقيب او حسيب، فلا احد يسال وزير او يراقب وكيل او يستجوب مسؤول، وكأن شعار العراق اليوم الاية الكريمة {لا يسال عن ذنوبهم المجرمون}.
على الصعيد الاجتماعي، فحسب آخر احصائيات المنظمات الدولية، فان اكثر من (8) مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، وان قرابة المليون طفل في بغداد وحدها يعيشون متسربين وضائعين في الشوارع، وان الخدمات الحياتية هبطت مرة اخرى الى ادنى مستوياتها، والامن عاد يتدهور بشكل مرعب، اما التعليم والصحة والزراعة وغير ذلك فحدث عنه ولا حرج، اذ بدا التدهور واضحا في هذه الميادين، ما يفسر فشل (القادة) في تحقيق المنجز الذي انتخبهم الشعب من اجله، الا وهو تحسين حياة الناس من خلال تحسين دخل الفرد العراقي وتطوير البلد وحماية ارواح ودماء الناس، وبكلمة موجزة، صيانة كرامة الوطن والمواطن.
وبصراحة اقول، فان العراقيين باتوا يشمون رائحة كريهة تنبعث من طبخة مشبوهة تدفع باتجاه عرقلة تشكيل الحكومة الجديدة، لحين ضمان ولادتها بشكل مشوه يحكم عليها بالفشل مسبقا بسبب ضعفها كونها ستقوم مرة اخرى على المحاصصة، ليبقى العراق في دوامة الضعف والهزال خدمة لاجندات هذا الطرف الاقليمي او ذاك الاخر الدولي، الى ان يصفي كل اللاعبين الدوليين والاقليميين حساباتهم على الاراضي العراقية.
ان العراق، وبعد اقل من مئة يوم، ينتظر استحقاق الانسحاب العسكري الاميركي، تنفيذا لبنود الاتفاقية الاستراتيجية التي وقع عليها العراقيون مع واشنطن، فهل يظن هؤلاء بان البلد سيظل في مامن اذا انسحب الاميركيون من دون ان يستظل بالحكومة الجديدة؟ الا يعتقدون بان الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الاميركي، في ظل عدم وجود حكومة جديدة سيملأه احد ثلاثة:
اما دول الجوار التي اعدت خططا بهذا الشان، سرب بعض ملامحها وزير عراقي لاحدى وسائل الاعلام العربية قبل عدة ايام.
واما التنظيمات الارهابية المدعومة من عدد من دول الجوار وتحديدا المملكة العربية السعودية والاردن ومصر، هذا الثلاثي الذي طالما حلم بان تعود سيطرته على العراق من خلال التنظيمات الارهابية وايتام النظام البائد، على الاقل من اجل تدمير العملية السياسية والنظام الديمقراطي الذي سبب لهم صداعا مزمنا لا يمكن ان يتصوروا له حلا او نهاية قبل تدمير العملية السياسية برمتها والعودة بالعراق الى سابق عهده يحكمه نظاما شموليا يتناغم مع الانظمة التي تحكم الثلاثي.
واما المليشيات المسلحة التي (اندمجت) مع القوات المسلحة العراقية، والتي ستجد في غياب الحكومة الجديدة والانسحاب الاميركي فرصتها الذهبية للعودة الى اصولها (الانتمائية) متمردة على القائد العام للقوات المسلحة الذي ستكون قراراته في هذه الحالة غير ملزمة لاحد لانها لا تحمل الصفة الشرعية باي شكل من الاشكال.
ان تماهل هؤلاء في صراعاتهم السياسية يعرض البلد الى خطير كبير جدا، وهم بذلك يعرضون حلم العراقيين في النظام السياسي الديمقراطي للخطر، هذا الحلم الذي جرت بسببه انهارا من الدماء على مدى عقود طويلة من الزمن، الى جانب المعاناة الضخمة التي لا يمكن وصفها.
كما ان تماهلهم يصيب الشارع العراقي بخيبة امل كبيرة جدا قد تدفعهم الى الكفر حتى بالديمقراطية التي يقول عنها كثير من العراقيين بانها لم تات لهم الا بالفوضى التي يصفها الاميركيون بالخلاقة.
انهم بذلك يحرضون على التشكيك بصحة راي من يقول بان الانتخابات غير مجدية وان صندوق الاقتراع عبث لا فائدة من ورائه.
وفي افضل الحالات فانهم بهذه الطريقة سيعودون بنا الى المربع الاول فيشكلون حكومة ضعيفة تحكمها المحاصصة باسوأ ادواتها.
انهم يتخاصمون اشهرا على السلطة، حتى اذا نالوها لم ينجزوا معشار ما بذلوه من جهد لنيلها.
اما المضحك المبكي في كل هذه القصة، هو رميهم للديمقراطية في حضن الديكتاتورية، فبعد ان كانت الانظمة الشمولية الحاكمة في المنطقة ترتعد فرائصها هلعا من تجربة العراقيين، اذا بهم يرون راس التجربة في حجورهم اتى به زعماءها وقادتها، والا ماذا يعني ان يطلب احدهم من زعيم اوحد ذرف على التسعين وهو بعد رئيسا للبلاد منذ عقود ثلاثة تقريبا، مشغول باعداد الامور الى نجله في اطار نظام (جمهوري) ملكي، يطلب منه ان يمارس نفوذه لدى الامم المتحدة والولايات المتحدة الاميركية للتدخل من اجل الضغط باتجاه اسقاط الحكومة العراقية الحالية وتشكيل حكومة تصريف اعمال؟.
عندما دخل الرئيس اوباما الى البيت الابيض قلت لكثيرين من المسؤولين في بغداد بان العراق سيتراجع في جدول اهتمامات الادارة الاميركية الجديد، وقتها لم يصدقني احد بل ان بعضهم كان متفائلا جدا عندما قال لي بان اميركا متورطة مع هذه الحفنة من المسؤولين العراقيين ولذلك فسوف لن تترك العراق الا بعد ان تراه وقد وقف على قدميه لا تهدده المخاطر، اما اليوم وقد بانت الامور كثيرا وتبين صحة ما تنبأت به، راح الجميع يتحدث عن مخاطر جمة اذا تركت الولايات المتحدة الاميركية العراق في فوضى خلاقة، ولكن هذه المرة بطريقة اخرى، وهو اعتراف ضمني بامكانية حدوث ذلك بعد ان كان الجميع يستبعد وقوعه.
يظن البعض بان الولايات المتحدة (تتالم بطنها) من ملف كالعراق مثلا، ولذلك فهي ستسهر الليالي من اجل ايقاف هذا الوجع، ناسين ان العراق وعشرة من امثال ملفه المعقد قد تتركه الولايات المتحدة في لحظة (كاوبوي) عهدها منها العالم، ليغرق في مشاكله، بل ان الكثير من الملفات تعالجها واشنطن على طريقة التجاهل المعروفة عنها، وفي هذا العالم الكثير من هذه الامثلة، فهل سيفهمها العراقييون، واقصد زعماء الكتل (الفائزة) ليعيدوا النظر في طريقة تعاملهم مع بعضهم؟ ام ستاخذهم العزة بالاثم فيتشبث كل واحد منهم بموقفه ورايه، ثم، وليات الطوفان من بعدي؟.
أخيرا اتساءل:
ترى، لو ضاعت الفرصة لا سامح الله، وانتهى كل شئ، وعاد العراق الى ما كان عليه قبل التاسع من نيسان عام 2003، فهل سيعترف هؤلاء الزعماء بجريمتهم؟ وهل سيعترفوا للعراقيين بانهم السبب الاول والاخير في تضييع الفرصة التاريخية التي ضحى من اجلها العراقيون بالغالي والنفيس؟ وهل سيعترفون لهم بان انانياتهم هي التي قتلت الفرصة؟ وان تهالكهم على السلطة هو الذي اضاع الجهود؟ وان لؤمهم هو الذي فرط بالمنجز التاريخي؟.
ان تصورا واحدا فقط يمكن استخلاصه من مجمل احاديثهم وحواراتهم وتصريحاتهم وبياناتهم، الا وهو انهم جميعا يتطلعون الى ان يكونوا رؤساء للوزارة القادمة، وبمعنى آخر، انهم يتحدثون بمقياس الصراع على السلطة حصرا، والتهالك على الموقع، وليس بمقاييس حب الوطن والحرص على منجزات العراقيين والتطلع الى تحقيق مصالح الناس وانتزاع السيادة الوطنية وقيادة البلد الى بر الامان، طبعا، ولكل منهم مبرراته الشرعية والوطنية والحضارية والسماوية والارضية وغيرها، والتي تمتلئ بها جيوبهم.
لا احد منهم يتحدث بمقاييس الناخب، فلم يذكر احدهم صوت المواطن الذي ضاع في متاهات اجتماعاتهم العقيمة وزياراتهم المبتذلة وجولاتهم المكوكية المشبوهة.
يتلاعبون بالكلمات ويتداولون العبارات بطريقة تدلل على جهلهم بما يريدون تحقيقه على وجه الدقة، فواحد يطالب بتشكيل جبهة عريضة وآخر لجنة رفيعة وثالث حكومة رشيقة ورابع شيئا آخر نحيفا لم يسمه بعد، وكل هذه المصطلحات تذكرني بايام المعارضة، عندما كنا نسمع بين الفينة والاخرى عن تاسيس تجمع جديد وباسماء عجيبة وغريبة، فبادر بعضهم بتشكيل (جود) لينافسهم آخرون بتشكيل (جوقد) ليبزهم آخرون بتشكيلة (جوع) ثم انتقلت النغمة الى (موع) ليستبدله آخرون الى (موعم) كشرط للالتحاق بالاخير، وهكذا، وكانهم اليوم لا زالوا في المعارضة يعارض بعضهم بعضا ويتعاركون مع ذبان وجوههم، على حد وصف العراقيين عندما يتندرون على احد وهو في حالة عصبية على لا شئ.
ليس بينهم من يجرؤ على قول الحقيقة المرة، ولا احد منهم يتحدث بصراحة الى الناس، ولم نر احدهم وقد وضع اصبعه على الجرح وحدد المشكلة، فالكل يلف ويدور حول الحقيقة والمشكلة، دون ان يتسلحوا بالشجاعة التي تؤهلهم لخوض غمار الامور بصراحة ووضوح وشفافية.
وهنا اتساءل:
لماذا لا يتحلق هؤلاء، وتحديدا زعامات الكتل الفائزة، حول احدى برك الدم التي تنتشر في جل مناطق بغداد بعد كل عملية ارهابية، ليناقشوا موضوعة تشكيل الحكومة العراقية القادمة؟ بدلا من ان يتشاجروا في الفضائيات ويشتم بعضهم بعضا في وسائل الاعلام؟ فقد يساعدهم منظر الدم على الاسراع في ايجاد نهاية لحواراتهم بهذا الشان، من خلال اثارة الغيرة مثلا او الحمية الوطنية او الانتباه او الشرف او الحماسة او الحرص او اي شئ آخر بقي عندهم، او قد توقضهم من غفوتهم، فيتلمسوا المخاطر ليضعوا حدا لحوار الطرشان القائم بينهم الان.
ثم اتساءل:
لو ان عوائلهم كانوا يسكنون في بيوت الى جانب بيوت الفقراء في الاحياء الشعبية التي تنزف دما كل يوم، هل تعاملوا مع العملية السياسية بهذه الطريقة؟ وهل تباطؤوا لدرجة التفريط؟.
فبقاء هؤلاء بعيدا عن الواقع اليومي الذي يمر به العراقيون بسبب تاخر تشكيل الحكومة الجديدة، يصيبهم بالاسترخاء وربما باللاابالية، فليس من يجلس حول بركة دم يفكر بنفس الطريقة عندما يجلس متخما ومنفوخا حول طاولة مستديرة او امام عدسات الشاشة الصغيرة، اليس كذلك؟.
ما يحيرني حقا، هو، هل يعقل انهم لا يتصورون حجم الكارثة التي ستحل بالعراق اذا استمر الوضع السياسي على ما هو عليه الان؟ هل يعقل انهم لا يقدرون حجم المخاطر المحدقة بالعراق اذا ما استمرت صراعاتهم على السلطة من دون ان يرى العراقيون حلا في الافق المنظور او ضوءا في نهاية النفق كما يقال؟.
هل من المعقول انهم لا يعلمون بان الزمن ليس لصالح احد؟ وان تاخر تشكيل الحكومة الجديدة سيفتح الباب على مصراعيه امام كل الاحتمالات السيئة والخطيرة؟ وان ذلك سيدفع بالشارع العراقي الى ان ينفض يديه منهم ومن خيرهم اذا كان وراءهم خيرا يرتجى؟.
لقد تعطلت جل دوائر الدولة، طبعا على راسها السلطة التشريعية فلم يعد في العراق اليوم جهة ما تشرع القوانين، ما يعني ان الحكومة بدورها تنفذ بلا تشريعات جديدة، كما ان الحكومة اليوم بلا رقيب او حسيب، فلا احد يسال وزير او يراقب وكيل او يستجوب مسؤول، وكأن شعار العراق اليوم الاية الكريمة {لا يسال عن ذنوبهم المجرمون}.
على الصعيد الاجتماعي، فحسب آخر احصائيات المنظمات الدولية، فان اكثر من (8) مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، وان قرابة المليون طفل في بغداد وحدها يعيشون متسربين وضائعين في الشوارع، وان الخدمات الحياتية هبطت مرة اخرى الى ادنى مستوياتها، والامن عاد يتدهور بشكل مرعب، اما التعليم والصحة والزراعة وغير ذلك فحدث عنه ولا حرج، اذ بدا التدهور واضحا في هذه الميادين، ما يفسر فشل (القادة) في تحقيق المنجز الذي انتخبهم الشعب من اجله، الا وهو تحسين حياة الناس من خلال تحسين دخل الفرد العراقي وتطوير البلد وحماية ارواح ودماء الناس، وبكلمة موجزة، صيانة كرامة الوطن والمواطن.
وبصراحة اقول، فان العراقيين باتوا يشمون رائحة كريهة تنبعث من طبخة مشبوهة تدفع باتجاه عرقلة تشكيل الحكومة الجديدة، لحين ضمان ولادتها بشكل مشوه يحكم عليها بالفشل مسبقا بسبب ضعفها كونها ستقوم مرة اخرى على المحاصصة، ليبقى العراق في دوامة الضعف والهزال خدمة لاجندات هذا الطرف الاقليمي او ذاك الاخر الدولي، الى ان يصفي كل اللاعبين الدوليين والاقليميين حساباتهم على الاراضي العراقية.
ان العراق، وبعد اقل من مئة يوم، ينتظر استحقاق الانسحاب العسكري الاميركي، تنفيذا لبنود الاتفاقية الاستراتيجية التي وقع عليها العراقيون مع واشنطن، فهل يظن هؤلاء بان البلد سيظل في مامن اذا انسحب الاميركيون من دون ان يستظل بالحكومة الجديدة؟ الا يعتقدون بان الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الاميركي، في ظل عدم وجود حكومة جديدة سيملأه احد ثلاثة:
اما دول الجوار التي اعدت خططا بهذا الشان، سرب بعض ملامحها وزير عراقي لاحدى وسائل الاعلام العربية قبل عدة ايام.
واما التنظيمات الارهابية المدعومة من عدد من دول الجوار وتحديدا المملكة العربية السعودية والاردن ومصر، هذا الثلاثي الذي طالما حلم بان تعود سيطرته على العراق من خلال التنظيمات الارهابية وايتام النظام البائد، على الاقل من اجل تدمير العملية السياسية والنظام الديمقراطي الذي سبب لهم صداعا مزمنا لا يمكن ان يتصوروا له حلا او نهاية قبل تدمير العملية السياسية برمتها والعودة بالعراق الى سابق عهده يحكمه نظاما شموليا يتناغم مع الانظمة التي تحكم الثلاثي.
واما المليشيات المسلحة التي (اندمجت) مع القوات المسلحة العراقية، والتي ستجد في غياب الحكومة الجديدة والانسحاب الاميركي فرصتها الذهبية للعودة الى اصولها (الانتمائية) متمردة على القائد العام للقوات المسلحة الذي ستكون قراراته في هذه الحالة غير ملزمة لاحد لانها لا تحمل الصفة الشرعية باي شكل من الاشكال.
ان تماهل هؤلاء في صراعاتهم السياسية يعرض البلد الى خطير كبير جدا، وهم بذلك يعرضون حلم العراقيين في النظام السياسي الديمقراطي للخطر، هذا الحلم الذي جرت بسببه انهارا من الدماء على مدى عقود طويلة من الزمن، الى جانب المعاناة الضخمة التي لا يمكن وصفها.
كما ان تماهلهم يصيب الشارع العراقي بخيبة امل كبيرة جدا قد تدفعهم الى الكفر حتى بالديمقراطية التي يقول عنها كثير من العراقيين بانها لم تات لهم الا بالفوضى التي يصفها الاميركيون بالخلاقة.
انهم بذلك يحرضون على التشكيك بصحة راي من يقول بان الانتخابات غير مجدية وان صندوق الاقتراع عبث لا فائدة من ورائه.
وفي افضل الحالات فانهم بهذه الطريقة سيعودون بنا الى المربع الاول فيشكلون حكومة ضعيفة تحكمها المحاصصة باسوأ ادواتها.
انهم يتخاصمون اشهرا على السلطة، حتى اذا نالوها لم ينجزوا معشار ما بذلوه من جهد لنيلها.
اما المضحك المبكي في كل هذه القصة، هو رميهم للديمقراطية في حضن الديكتاتورية، فبعد ان كانت الانظمة الشمولية الحاكمة في المنطقة ترتعد فرائصها هلعا من تجربة العراقيين، اذا بهم يرون راس التجربة في حجورهم اتى به زعماءها وقادتها، والا ماذا يعني ان يطلب احدهم من زعيم اوحد ذرف على التسعين وهو بعد رئيسا للبلاد منذ عقود ثلاثة تقريبا، مشغول باعداد الامور الى نجله في اطار نظام (جمهوري) ملكي، يطلب منه ان يمارس نفوذه لدى الامم المتحدة والولايات المتحدة الاميركية للتدخل من اجل الضغط باتجاه اسقاط الحكومة العراقية الحالية وتشكيل حكومة تصريف اعمال؟.
عندما دخل الرئيس اوباما الى البيت الابيض قلت لكثيرين من المسؤولين في بغداد بان العراق سيتراجع في جدول اهتمامات الادارة الاميركية الجديد، وقتها لم يصدقني احد بل ان بعضهم كان متفائلا جدا عندما قال لي بان اميركا متورطة مع هذه الحفنة من المسؤولين العراقيين ولذلك فسوف لن تترك العراق الا بعد ان تراه وقد وقف على قدميه لا تهدده المخاطر، اما اليوم وقد بانت الامور كثيرا وتبين صحة ما تنبأت به، راح الجميع يتحدث عن مخاطر جمة اذا تركت الولايات المتحدة الاميركية العراق في فوضى خلاقة، ولكن هذه المرة بطريقة اخرى، وهو اعتراف ضمني بامكانية حدوث ذلك بعد ان كان الجميع يستبعد وقوعه.
يظن البعض بان الولايات المتحدة (تتالم بطنها) من ملف كالعراق مثلا، ولذلك فهي ستسهر الليالي من اجل ايقاف هذا الوجع، ناسين ان العراق وعشرة من امثال ملفه المعقد قد تتركه الولايات المتحدة في لحظة (كاوبوي) عهدها منها العالم، ليغرق في مشاكله، بل ان الكثير من الملفات تعالجها واشنطن على طريقة التجاهل المعروفة عنها، وفي هذا العالم الكثير من هذه الامثلة، فهل سيفهمها العراقييون، واقصد زعماء الكتل (الفائزة) ليعيدوا النظر في طريقة تعاملهم مع بعضهم؟ ام ستاخذهم العزة بالاثم فيتشبث كل واحد منهم بموقفه ورايه، ثم، وليات الطوفان من بعدي؟.
أخيرا اتساءل:
ترى، لو ضاعت الفرصة لا سامح الله، وانتهى كل شئ، وعاد العراق الى ما كان عليه قبل التاسع من نيسان عام 2003، فهل سيعترف هؤلاء الزعماء بجريمتهم؟ وهل سيعترفوا للعراقيين بانهم السبب الاول والاخير في تضييع الفرصة التاريخية التي ضحى من اجلها العراقيون بالغالي والنفيس؟ وهل سيعترفون لهم بان انانياتهم هي التي قتلت الفرصة؟ وان تهالكهم على السلطة هو الذي اضاع الجهود؟ وان لؤمهم هو الذي فرط بالمنجز التاريخي؟.
3 مايس (أيار) 2010