ليس القصد هنا المقارنة بين الانتخابات العراقية والبريطانية، لأن الديمقراطية في العراق ناشئة وفتية، وشعبه مازال يعاني من تركة حكم البعث الساقط، وتداعيات سقوطه من الإرهاب وحرب الإبادة، بينما الديمقراطية البريطانية ناضجة وعريقة عمرها ثمانية قرون أي منذ ولادتها عام 1215 بإصدار الميثاق العظيم Magna Carta الذي اعتبر نواة للديمقراطية الحديثة، ولكنها مناسبة لمراجعة الخطوات التي تلت الانتخابات البريطانية من أجل الاستفادة منها، فهي أشبه بدورة دراسية عملية في ممارسة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة من حزب إلى آخر، قدمها شعب عريق إلى شعوب العالم الثالث، ومنها شعبنا حديث العهد بالديمقراطية، نقلت وقائعها عبر تقنية الاتصالات على مدار الساعة. فالثورة التكنولوجية في الاتصال والمواصلات عامل مهم في التقارب بين الشعوب، وإطلاع بعضها على تجارب البعض والتعلم منها، وتسريع وتيرة التقدم ونشر الديمقراطية والحداثة في هذه القرية الكونية الصغيرة.
وأول ما يلفت النظر في الانتخابات البريطانية، أن تنبؤات وسائل الإعلام بنتائجها كانت دقيقة جداً في جانب واحد فقط. فقبل عدة أسابيع من يوم الاقتراع تنبأ الإعلام بعدم إمكانية حصول أي حزب من الأحزاب الرئيسية الثلاثة (العمال والمحافظون والديمقراطيون الأحرار) على الأغلبية المطلقة، أي أن النتائج ستؤدي إلى برلمان معلق Hang parliament، ولا بد من تشكيل الحكومة إما عن طريق التحالف بين أي حزبين، أو تكليف الحزب الأكثر عدداً من المقاعد بتشكيل حكومة الأقلية، وفي الحالة الأخيرة ستكون الحكومة ضعيفة وغير مستقرة لا بد وأن يضطر رئيسها إلى إعادة الانتخابات بعد عام. وهكذا جاءت النتائج مطابقة للتوقعات بالشكل التالي:
حاز حزب المحافظين على 306 مقاعد من بين مقاعد البرلمان البالغ عددها 650 مقعدا، أي 95 مقعدا إضافيا عما حققه في انتخابات عام 2005، ولكن بما يقل بـ 20 مقعدا عن الأغلبية المطلوبة لكي يشكل الحكومة بمفرده،. أما حزب العمال فقد حصل على 258 مقعدا، خاسراً 91 مقعدا، أما الديمقراطيون الليبراليون فقد حصلوا على 57 مقعدا مقابل 62 عام 2005. وحصلت الأحزاب الأخرى الباقية على 28 مقعدا، وأجلت الانتخابات في الدائرة 650 حتى يظهر مرشح بديل عن الذي توفي بعد قفل باب الترشيح.
أما الخطأ في استطلاعات الرأي، فقد توقع كثيرون مجيء حزب العمال بالمرتبة الثالثة، أو حتى بهزيمة شنيعة لن ينهض منها إلا بعد وقت طويل!! أشبه بهزيمته عام 1983، وأن حزب الديمقراطيين الأحرار سيأتي بالمرتبة الثانية، وعدد المقاعد التي سيحصل عليها ما بين 90 و150 مقعداً، خاصة بعد الأداء الجيد لزعيمه نيكولاس كليغ Nick Clegg في المناظرات التلفزيونية التي تميَّز فيها وكسب إعجاب المشاهدين بقدرته الفائقة على السجال والاستفادة من الشاشة الصغيرة، خاصة وهو شاب متحدث لبق سريع البديهة، وخطيب مفوه، (هذه الصفات موجودة في منافسيه أيضاً ولو بدرجات متفاوتة)، ولكن خلافاً للتوقعات هذه، في نهاية الأمر فاز الأحراربـ57 مقعداً فقط، أي بخسارة خمسة مقاعد عن الانتخابات السابقة عام 2005، وبذلك فقد أثبت حزب العمال قدرته على التخفيف من الخسارة، فرغم الأزمة المالية، والركود الاقتصادي، ونسبة البطالة العالية، كانت خسارته ليست ماحقة كما توقع كثيرون، بل وحتى استطاع أن يحرِّم المحافظين من الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة لوحدهم.
لقد تصرف غوردن براون زعيم حزب العمال بفروسية عالية وشجاعة وعزة نفس وحكمة، متمسكاً بمواقفه التي يؤمن بصحتها دون أي تنازل من أجل السلطة. ففي اليوم التالي من الانتخابات، وبعد إعلان نتائجها مباشرة، وتأكده من خسارة حزبه، أعلن أن من حق الحزبين (المحافظون والأحرار) التداول لتشكيل حكومة إئتلافية، ولكن في حالة عدم توصلهم إلى نتيجة، فإنه على استعداد للتفاوض مع حزب الأحرار.
كان بإمكان براون وحزبه البقاء في السلطة عن طريق التحالف مع حزب الأحرار والأحزاب الصغيرة الأخرى، خاصة وإن حزب الأحرار أقرب إلى العمال في برامجهما، ولكنه فضل التنازل عن السلطة على تقديم التنازل إلى حزب الأحرار، على عكس من ديفيد كامرون زعيم المحافظين الذي قدَّم تنازلات كثيرة للأحرار في سبيل تشكيل الحكومة برئاسته، ولذلك وباعتراف الجميع، فقد غادر براون السلطة مرفوع الرأس، دون أي تنازل عن برنامجه الانتخابي الذي وعد به الشعب.
ولأول مرة منذ عام 1974 تأخر تشكيل الحكومة إذ المعتاد وفق التقاليد البريطانية تشكيل الحكومة الجديدة في اليوم التالي للانتخابات دون فترة انتقال، ولكن بسبب عدم فوز أي حزب بالأغلبية المطلقة، تأخر ذلك لخمسة أيام تمت خلالها مداولات مضنية بين الأحزاب الثلاثة. وأخيراً قاطع براون التفاوض مع حزب الديمقراطيين الأحرار، و اتصل بزعيم المحافظين ديفيد كامرون ليخبره عن عزمه على استقالة حكومته، طالباً منه تشكيل الحكومة، وكانت مفاجئة سارة لكامرون. وهكذا توجه براون إلى القصر وقدم استقالة حكومته التي دامت 13 عاماً إلى الملكة، واستأذنها في تقديم نصيحته لها بأن تستدعي غريمه ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين لتشكيل حكومته باعتباره صاحب أكبر عدد من مقاعد مجلس العموم، وهكذا كان.
توجه براون إلى قصر الملكة بموكب رسمي لأنه رئيس الحكومة، وغادر القصر بدون هذا الموكب لأنه صار مواطناً عادياً وفق التقاليد البريطانية، متوجهاً إلى مقر الحكومة لآخر مرة حيث قدم كلمة أمام جمهور غفير من الإعلاميين عن تقديم استقالة حكومته، متمنياً لكامرون وحكومته النجاح والموفقية لخدمة الشعب، ومن ثم توجه إلى باب المقر ليصطحب زوجته وطفليه، متوجهاً إلى مقر حزبه في سيارته الخاصة. وفي مقر الحزب كان في انتظاره حشد من قادة الحزب وجماهيره، حيث قدم كلمة مؤثرة حافلة بالمشاعر الجياشة، معرباً عن شكره لهم على جهودهم، لاقياً اللوم والمسؤولية على نفسه وحده في الخسارة، معلناً استقالته من قيادة الحزب أيضاً، واعتزاله السياسة ليتفرغ إلى الأعمال الخيرية.
ومن الجانب الآخر، توجه كامرون إلى القصر كمواطن عادي بدون موكب رسمي، وبعد تكليفه من قبل الملكة عاد من القصر متوجهاً إلى مقر الحكومة بموكب رسمي لأنه صار رئيساً للحكومة، فألقى كلمة موجزة أمام حشد من الإعلاميين، يبلغهم بقبوله تكليف الملكة له بتشكيل الحكومة، والجملة الثانية في هذه الكلمة كانت تقديم الشكر إلى سلفه على ما قدمه من خدمات جليلة للشعب، متمنياً له ولعائلته حياة هانئة وسعيدة.
وهكذا، وكالعادة في هذه البلدان المتحضرة، جرت عملية تداول السلطة بصورة سلسة وسلمية وحضارية مثيرة للإعجاب. فمنذ إعلان نتائج الانتخابات، ورغم أن حزب المحافظين فاز بأغلبية المقاعد (وليست الأغلبية المطلقة) إلا إن زعيمه لم يلجأ إلى التهديد، تلميحاً أو تصريحاً، بانفجار العنف ما لم يستدع هو لتشكيل الحكومة، بل اتبع الإجراءات الدستورية، فراح يتفاوض مع الديمقراطيين الأحرار، ويقدم لهم التنازلات تلو التنازلات إلى أن نجح في كسبهم. وهذا الدرس الذي يجب على زعماء الكتل العراقية تعلمه.
مستقبل التحالف والحكومة الإئتلافية
السؤال الذي يشغل الرأي العام البريطاني الآن هو: ما هو مستقبل التحالف بين المحافظين والأحرار؟ وهل ستنجح الحكومة الائتلافية التي هي الأولى من نوعها منذ 70 عاماً؟
لحد الآن، وإنصافاً للحقيقة، فقد تصرف زعيما الحزبين المتحالفين بمنتهى الحكمة، ودون التباهي بأية نشوة انتصار، أو غرور، أو شماتة، مؤكدين غرضهما الأساسي من السلطة هو خدمة الشعب. والحقيقة ربما سيخفف أحدهما من غلو الآخر في مواقفهما المختلفة من قضايا كثيرة. فالمحافظون مثلاً مع خطة راديكالية متسرعة لتخفيض الديون عن طريق الاستقطاع في الخدمات، وهم ضد الاندماج بالوحدة الأوربية، وتوحيد العملة، والعكس مع الأحرار.
ولكن أهم شرط من شروط حزب الأحرار في هذا التحالف هو إجراء استفتاء شعبي لتغيير النظام الانتخابي، من النظام الحالي (First past the post) إلى نظام التمثيل النسبي (Proportional Representation=PR). ففي النظام الحالي تنقسم بريطانيا إلى 650 دائرة انتخابية، نائب واحد لكل دائرة يتنافس عليه المرشحون، حزبيون ومستقلون، والذي يحصل على أكثرية الأصوات (وليست الأكثرية المطلقة) في الجولة الأولى هو الفائز. أما النظام الأخير PR والذي يعارضه الحزبان الكبيران، المحافظون والعمال، فتطالب به الأحزاب الصغيرة وبالأخص حزب الأحرار. فمثلاً لو أجريت الانتخابات الأخيرة وفق التمثيل النسبي لحصل حزب الأحرار على 149 مقعداً بدلاً من 57 الذي حاز عليه الآن. وافق كامرون على إجراء استفتاء شعبي لتغيير النظم مع الاحتفاظ بحق حزبه في شن حملة ضد التغيير. وإذا نجح الأحرار في تغيير النظام الانتخابي، فهذا يعني أن عهد حكومة الحزب الواحد قد انتهى في بريطانيا، وأن حزب الديمقراطيين الأحرار سيكون “صانع الملوك” ويقرر مع أي حزب يتحالف لتشكيل الحكومات القادمة، سواء كان على رأسها زعيم المحافظين أو العمال، أي كما يعيب عليه البعض: مثل المومس ستنام مع كل من يدفع لها أكثر!!
مشكلة أخرى يمكن أن تواجه تحالف الأحرار والمحافظين وهي أن حزب الأحرار هو أقرب في مواقفه ورؤاه السياسية إلى حزب العمال، بل وحتى بعض أعضائه القياديين كانوا في حزب العمال سابقاً، وهو أكثر يسارية واشتراكية، وإنصاف ذوي الدخل المحدود من حزب العمال، فكيف يتحالف مع المحافظين؟ ومن هنا يعتقد البعض أنه ربما سيحصل تمرد في صفوف بعض نواب وقواعد الأحرار، وأن كثيرين من الناخبين الذين صوتوا لحزب الأحرار سيهجرونه وسيصوتون في الانتخابات القادمة لصالح العمال نكاية بالمحافظين ولإبعادهم عن الحكم، وبالأخص في إقليمي: سكوتلاندا وويلز المناهضين جداً للمحافظين. ففي سكوتلاندا مثلاً فاز المحافظون بمقعد واحد فقط من مجموع 59، بينما فاز العمال بـ 41 مقعداً والأحرار بـ 11. هذا الاحتمال ممكن، ولكن ممكن أيضاً ولتجنب هذا الخطر، أن يتحالف الحزبان (المحافظون والأحرار) في المستقبل في الدوائر الانتخابية الهامشية marginal seats أي التي يكون فيها حظ فوز مرشح أحدهما أو كليهما ضعيفاً، فالحزب الأقل حظاً بالفوز يمتنع عن الترشيح في تلك الدائرة ويدعو أنصاره للتصويت إلى مرشح الحزب الحليف، وبذلك سيتغلبون على مرشح العمال المنافس. وإذا ما تبنوا هذي الإستراتيجية، فبإمكان الحزبين البقاء في السلطة لمدة طويلة وربما إلى أجل غير معلوم.
ما هو مستقبل حزب العمال؟
كما بينت أعلاه، كان بإمكان غوردن براون أن يبقى في السلطة لو أعطى بعض التنازلات لحزب الأحرار، ولكنه رفض ذلك، وربما لأنه يعرف صعوبة حل المشاكل الاقتصادية التي تواجهها بريطانيا في الوقت الحاضر وحلوله لها، وخاصة مواجهة مشكلة العجز المالي والديون، ولأن شروط حزب الأحرار ستفاقم المشكلة وتحيلها إلى ما يشبه الوضع في اليونان، ولا يريد أن يورط حزبه في هذه المحنة. فقد أثبت براون حكمته ومكانته الدولية في هذا الخصوص عندما اجتاحت الأزمة المالية العالم قبل عامين، فوضع خطة ناجعة لمواجهتها أثبتت صوابها في نظر الخبراء الاقتصاديين إلى درجة أن تبنتها دول العالم، وصار براون نجماً عالمياً في هذا المجال، ولكن الناخب المحلي لا يعير هذه الأمور أي اهتمام، بل يهتم بالمشاكل التي تمس حياته مباشرة، سواءً كانت هذه المشاكل من صنع الحكومة أو هي عالمية شاملة.
ومن جهة أخرى، فحزب العمال مقدم على اختيار زعيم جديد له، وهناك مرشحون لامعون مثل: ديفيد ميليباند (44 عماً) وزير الخارجية السابق، وأخيه إد مليباند (40 عاماً) وزير المناخ سابقاً، وإد بول وزير التعليم سابقاً وآخرون، وكلهم من الشباب النشطين الواعدين، يتمتعون بالحيوية والطاقة والذكاء. والأكثر حظاً بالفوز هو ديفيد مليباند. لذلك فسيجدد حزب العمال نفسه مرة أخرى لما يلائم ظروف المرحلة المتسارعة في التغيير والتجدد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
وأول ما يلفت النظر في الانتخابات البريطانية، أن تنبؤات وسائل الإعلام بنتائجها كانت دقيقة جداً في جانب واحد فقط. فقبل عدة أسابيع من يوم الاقتراع تنبأ الإعلام بعدم إمكانية حصول أي حزب من الأحزاب الرئيسية الثلاثة (العمال والمحافظون والديمقراطيون الأحرار) على الأغلبية المطلقة، أي أن النتائج ستؤدي إلى برلمان معلق Hang parliament، ولا بد من تشكيل الحكومة إما عن طريق التحالف بين أي حزبين، أو تكليف الحزب الأكثر عدداً من المقاعد بتشكيل حكومة الأقلية، وفي الحالة الأخيرة ستكون الحكومة ضعيفة وغير مستقرة لا بد وأن يضطر رئيسها إلى إعادة الانتخابات بعد عام. وهكذا جاءت النتائج مطابقة للتوقعات بالشكل التالي:
حاز حزب المحافظين على 306 مقاعد من بين مقاعد البرلمان البالغ عددها 650 مقعدا، أي 95 مقعدا إضافيا عما حققه في انتخابات عام 2005، ولكن بما يقل بـ 20 مقعدا عن الأغلبية المطلوبة لكي يشكل الحكومة بمفرده،. أما حزب العمال فقد حصل على 258 مقعدا، خاسراً 91 مقعدا، أما الديمقراطيون الليبراليون فقد حصلوا على 57 مقعدا مقابل 62 عام 2005. وحصلت الأحزاب الأخرى الباقية على 28 مقعدا، وأجلت الانتخابات في الدائرة 650 حتى يظهر مرشح بديل عن الذي توفي بعد قفل باب الترشيح.
أما الخطأ في استطلاعات الرأي، فقد توقع كثيرون مجيء حزب العمال بالمرتبة الثالثة، أو حتى بهزيمة شنيعة لن ينهض منها إلا بعد وقت طويل!! أشبه بهزيمته عام 1983، وأن حزب الديمقراطيين الأحرار سيأتي بالمرتبة الثانية، وعدد المقاعد التي سيحصل عليها ما بين 90 و150 مقعداً، خاصة بعد الأداء الجيد لزعيمه نيكولاس كليغ Nick Clegg في المناظرات التلفزيونية التي تميَّز فيها وكسب إعجاب المشاهدين بقدرته الفائقة على السجال والاستفادة من الشاشة الصغيرة، خاصة وهو شاب متحدث لبق سريع البديهة، وخطيب مفوه، (هذه الصفات موجودة في منافسيه أيضاً ولو بدرجات متفاوتة)، ولكن خلافاً للتوقعات هذه، في نهاية الأمر فاز الأحراربـ57 مقعداً فقط، أي بخسارة خمسة مقاعد عن الانتخابات السابقة عام 2005، وبذلك فقد أثبت حزب العمال قدرته على التخفيف من الخسارة، فرغم الأزمة المالية، والركود الاقتصادي، ونسبة البطالة العالية، كانت خسارته ليست ماحقة كما توقع كثيرون، بل وحتى استطاع أن يحرِّم المحافظين من الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة لوحدهم.
لقد تصرف غوردن براون زعيم حزب العمال بفروسية عالية وشجاعة وعزة نفس وحكمة، متمسكاً بمواقفه التي يؤمن بصحتها دون أي تنازل من أجل السلطة. ففي اليوم التالي من الانتخابات، وبعد إعلان نتائجها مباشرة، وتأكده من خسارة حزبه، أعلن أن من حق الحزبين (المحافظون والأحرار) التداول لتشكيل حكومة إئتلافية، ولكن في حالة عدم توصلهم إلى نتيجة، فإنه على استعداد للتفاوض مع حزب الأحرار.
كان بإمكان براون وحزبه البقاء في السلطة عن طريق التحالف مع حزب الأحرار والأحزاب الصغيرة الأخرى، خاصة وإن حزب الأحرار أقرب إلى العمال في برامجهما، ولكنه فضل التنازل عن السلطة على تقديم التنازل إلى حزب الأحرار، على عكس من ديفيد كامرون زعيم المحافظين الذي قدَّم تنازلات كثيرة للأحرار في سبيل تشكيل الحكومة برئاسته، ولذلك وباعتراف الجميع، فقد غادر براون السلطة مرفوع الرأس، دون أي تنازل عن برنامجه الانتخابي الذي وعد به الشعب.
ولأول مرة منذ عام 1974 تأخر تشكيل الحكومة إذ المعتاد وفق التقاليد البريطانية تشكيل الحكومة الجديدة في اليوم التالي للانتخابات دون فترة انتقال، ولكن بسبب عدم فوز أي حزب بالأغلبية المطلقة، تأخر ذلك لخمسة أيام تمت خلالها مداولات مضنية بين الأحزاب الثلاثة. وأخيراً قاطع براون التفاوض مع حزب الديمقراطيين الأحرار، و اتصل بزعيم المحافظين ديفيد كامرون ليخبره عن عزمه على استقالة حكومته، طالباً منه تشكيل الحكومة، وكانت مفاجئة سارة لكامرون. وهكذا توجه براون إلى القصر وقدم استقالة حكومته التي دامت 13 عاماً إلى الملكة، واستأذنها في تقديم نصيحته لها بأن تستدعي غريمه ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين لتشكيل حكومته باعتباره صاحب أكبر عدد من مقاعد مجلس العموم، وهكذا كان.
توجه براون إلى قصر الملكة بموكب رسمي لأنه رئيس الحكومة، وغادر القصر بدون هذا الموكب لأنه صار مواطناً عادياً وفق التقاليد البريطانية، متوجهاً إلى مقر الحكومة لآخر مرة حيث قدم كلمة أمام جمهور غفير من الإعلاميين عن تقديم استقالة حكومته، متمنياً لكامرون وحكومته النجاح والموفقية لخدمة الشعب، ومن ثم توجه إلى باب المقر ليصطحب زوجته وطفليه، متوجهاً إلى مقر حزبه في سيارته الخاصة. وفي مقر الحزب كان في انتظاره حشد من قادة الحزب وجماهيره، حيث قدم كلمة مؤثرة حافلة بالمشاعر الجياشة، معرباً عن شكره لهم على جهودهم، لاقياً اللوم والمسؤولية على نفسه وحده في الخسارة، معلناً استقالته من قيادة الحزب أيضاً، واعتزاله السياسة ليتفرغ إلى الأعمال الخيرية.
ومن الجانب الآخر، توجه كامرون إلى القصر كمواطن عادي بدون موكب رسمي، وبعد تكليفه من قبل الملكة عاد من القصر متوجهاً إلى مقر الحكومة بموكب رسمي لأنه صار رئيساً للحكومة، فألقى كلمة موجزة أمام حشد من الإعلاميين، يبلغهم بقبوله تكليف الملكة له بتشكيل الحكومة، والجملة الثانية في هذه الكلمة كانت تقديم الشكر إلى سلفه على ما قدمه من خدمات جليلة للشعب، متمنياً له ولعائلته حياة هانئة وسعيدة.
وهكذا، وكالعادة في هذه البلدان المتحضرة، جرت عملية تداول السلطة بصورة سلسة وسلمية وحضارية مثيرة للإعجاب. فمنذ إعلان نتائج الانتخابات، ورغم أن حزب المحافظين فاز بأغلبية المقاعد (وليست الأغلبية المطلقة) إلا إن زعيمه لم يلجأ إلى التهديد، تلميحاً أو تصريحاً، بانفجار العنف ما لم يستدع هو لتشكيل الحكومة، بل اتبع الإجراءات الدستورية، فراح يتفاوض مع الديمقراطيين الأحرار، ويقدم لهم التنازلات تلو التنازلات إلى أن نجح في كسبهم. وهذا الدرس الذي يجب على زعماء الكتل العراقية تعلمه.
مستقبل التحالف والحكومة الإئتلافية
السؤال الذي يشغل الرأي العام البريطاني الآن هو: ما هو مستقبل التحالف بين المحافظين والأحرار؟ وهل ستنجح الحكومة الائتلافية التي هي الأولى من نوعها منذ 70 عاماً؟
لحد الآن، وإنصافاً للحقيقة، فقد تصرف زعيما الحزبين المتحالفين بمنتهى الحكمة، ودون التباهي بأية نشوة انتصار، أو غرور، أو شماتة، مؤكدين غرضهما الأساسي من السلطة هو خدمة الشعب. والحقيقة ربما سيخفف أحدهما من غلو الآخر في مواقفهما المختلفة من قضايا كثيرة. فالمحافظون مثلاً مع خطة راديكالية متسرعة لتخفيض الديون عن طريق الاستقطاع في الخدمات، وهم ضد الاندماج بالوحدة الأوربية، وتوحيد العملة، والعكس مع الأحرار.
ولكن أهم شرط من شروط حزب الأحرار في هذا التحالف هو إجراء استفتاء شعبي لتغيير النظام الانتخابي، من النظام الحالي (First past the post) إلى نظام التمثيل النسبي (Proportional Representation=PR). ففي النظام الحالي تنقسم بريطانيا إلى 650 دائرة انتخابية، نائب واحد لكل دائرة يتنافس عليه المرشحون، حزبيون ومستقلون، والذي يحصل على أكثرية الأصوات (وليست الأكثرية المطلقة) في الجولة الأولى هو الفائز. أما النظام الأخير PR والذي يعارضه الحزبان الكبيران، المحافظون والعمال، فتطالب به الأحزاب الصغيرة وبالأخص حزب الأحرار. فمثلاً لو أجريت الانتخابات الأخيرة وفق التمثيل النسبي لحصل حزب الأحرار على 149 مقعداً بدلاً من 57 الذي حاز عليه الآن. وافق كامرون على إجراء استفتاء شعبي لتغيير النظم مع الاحتفاظ بحق حزبه في شن حملة ضد التغيير. وإذا نجح الأحرار في تغيير النظام الانتخابي، فهذا يعني أن عهد حكومة الحزب الواحد قد انتهى في بريطانيا، وأن حزب الديمقراطيين الأحرار سيكون “صانع الملوك” ويقرر مع أي حزب يتحالف لتشكيل الحكومات القادمة، سواء كان على رأسها زعيم المحافظين أو العمال، أي كما يعيب عليه البعض: مثل المومس ستنام مع كل من يدفع لها أكثر!!
مشكلة أخرى يمكن أن تواجه تحالف الأحرار والمحافظين وهي أن حزب الأحرار هو أقرب في مواقفه ورؤاه السياسية إلى حزب العمال، بل وحتى بعض أعضائه القياديين كانوا في حزب العمال سابقاً، وهو أكثر يسارية واشتراكية، وإنصاف ذوي الدخل المحدود من حزب العمال، فكيف يتحالف مع المحافظين؟ ومن هنا يعتقد البعض أنه ربما سيحصل تمرد في صفوف بعض نواب وقواعد الأحرار، وأن كثيرين من الناخبين الذين صوتوا لحزب الأحرار سيهجرونه وسيصوتون في الانتخابات القادمة لصالح العمال نكاية بالمحافظين ولإبعادهم عن الحكم، وبالأخص في إقليمي: سكوتلاندا وويلز المناهضين جداً للمحافظين. ففي سكوتلاندا مثلاً فاز المحافظون بمقعد واحد فقط من مجموع 59، بينما فاز العمال بـ 41 مقعداً والأحرار بـ 11. هذا الاحتمال ممكن، ولكن ممكن أيضاً ولتجنب هذا الخطر، أن يتحالف الحزبان (المحافظون والأحرار) في المستقبل في الدوائر الانتخابية الهامشية marginal seats أي التي يكون فيها حظ فوز مرشح أحدهما أو كليهما ضعيفاً، فالحزب الأقل حظاً بالفوز يمتنع عن الترشيح في تلك الدائرة ويدعو أنصاره للتصويت إلى مرشح الحزب الحليف، وبذلك سيتغلبون على مرشح العمال المنافس. وإذا ما تبنوا هذي الإستراتيجية، فبإمكان الحزبين البقاء في السلطة لمدة طويلة وربما إلى أجل غير معلوم.
ما هو مستقبل حزب العمال؟
كما بينت أعلاه، كان بإمكان غوردن براون أن يبقى في السلطة لو أعطى بعض التنازلات لحزب الأحرار، ولكنه رفض ذلك، وربما لأنه يعرف صعوبة حل المشاكل الاقتصادية التي تواجهها بريطانيا في الوقت الحاضر وحلوله لها، وخاصة مواجهة مشكلة العجز المالي والديون، ولأن شروط حزب الأحرار ستفاقم المشكلة وتحيلها إلى ما يشبه الوضع في اليونان، ولا يريد أن يورط حزبه في هذه المحنة. فقد أثبت براون حكمته ومكانته الدولية في هذا الخصوص عندما اجتاحت الأزمة المالية العالم قبل عامين، فوضع خطة ناجعة لمواجهتها أثبتت صوابها في نظر الخبراء الاقتصاديين إلى درجة أن تبنتها دول العالم، وصار براون نجماً عالمياً في هذا المجال، ولكن الناخب المحلي لا يعير هذه الأمور أي اهتمام، بل يهتم بالمشاكل التي تمس حياته مباشرة، سواءً كانت هذه المشاكل من صنع الحكومة أو هي عالمية شاملة.
ومن جهة أخرى، فحزب العمال مقدم على اختيار زعيم جديد له، وهناك مرشحون لامعون مثل: ديفيد ميليباند (44 عماً) وزير الخارجية السابق، وأخيه إد مليباند (40 عاماً) وزير المناخ سابقاً، وإد بول وزير التعليم سابقاً وآخرون، وكلهم من الشباب النشطين الواعدين، يتمتعون بالحيوية والطاقة والذكاء. والأكثر حظاً بالفوز هو ديفيد مليباند. لذلك فسيجدد حزب العمال نفسه مرة أخرى لما يلائم ظروف المرحلة المتسارعة في التغيير والتجدد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com/