يتحدثون عن اليابسة والجثث تغرقُ تباعاً
قراصنة، ومجانين،وانبياء، واولياء
وملوك، وصعاليك
أمسح مخاط كوخي بكمٍّ تائه
وأفتح خرائطي على سعتها (تاج النملة –فيما مضى-)*
ان الشاعر –عقيل علي – مولدة شعرية أحرقت مراحلها عند وجوديات أدبية لم تهتم ولم تنتبه اليه ، وزمان لم يزل لا يقرءه بأمعان شعري ، لكنا نقر وبصريح العبارة كونية عقيل الشعرية التي نبهت الى كيفية العمق الشعري في تعبيريته ومن خلال نادره الشعري –المبعثر-، والذي لقيمته راح المقدرين لها بلمها وطبعها في سنة 2009 من دار- الجمل -.
لقد صب هذا الشاعر في دقائقية اللب الشعري و تعمقاته الغائرة بوسع لغة ماثلة امامنا بدون تغريب بأنزياحية عملها، لكنه فجر طبيعية هذه اللغة عند المنطقة التعبيرية الغائرة الدلالة ، فكم تعب في لم شتاته واحكم تفاصيله التي اوجزت شاعرية منسجمة في ميتاحياته، حتى أجادت في كيفيتها الأبداعية الكاتبة للشعر لما يملك من هيمنة في ذهنيته الشعرية ودرايته رغم تبعثر محيطه المشوش والمجانب لعدته الشديدة الوضوح لديه ،لقد أتى بدون هنا وهناك من المتعكر والمتعثر من ضعيف الشعر… فالجملة الشعرية المختزلة لديه ، ادت بجدارة وسعها الشعري إلينا ومن خلال عطاها الشديد الكثافة الإبداعية ،وهذه قصيدته –الشجعان- من مجموعته الشعرية – جنائن أدم –
لقد كنتم مأثرة
وها انتم صرتم نواح وصباحاً قاتماً للاوفياء
صرتم شظايا محنطة تنقض بلا رحمة
على الموتى الذين
يتقدمون
متلفعين بالامل نحو حياتهم
صرتم غسقا خربا
وايادي تلوح بلا سبب.
لقد خسرنا الشاعر – عقيل علي – كرحيل شعري سريع ، كأسلوب وامكانية قبل الأوان عنا لما له من ضرورات انبثقت به وحملته نصوصه من كيفية في المشهد الشعري العراقي ، هذا المشهد الحاضن للكثير المنتج ومنه المعظم الفاشل الذي ملأنا باكوام كتب صفراء وليس باكوام دواوين شعرية،فهو القائل الشبيه لذهابنا في هذه اليقين لنا.(كان علينا أن نرتفع بعمق..فهذه ليست الشمس كلها).
وقد ازدحمت هذه الازدحامات اللاشعرية عند تلهف ذائقتنا الشعرية وملأتنا بدخان الكلمات ،بدل تجميلها بأريجها الشعري لذواتنا الذائقة للشعر ،ولما يحيط بهذه الخسارة من تفاصيل خاصة وحيثية ضمت فجيعتنا ، كون الشاعر غادر و لم يمنحنى إلا القليل من عطاءه الشعري الملوح بجديدة الينا ،فقرأناه بدهشة المتلقي الباحث عن لذيذ الشعر وجديده ، والذي يعد شعراً نادر المواصفات ،لما يحمل من تنشيط وأغوار لروح التصريح الشعري، حيث تميز اسلوبه الكتابي للشعر بتعامله اللغوي الإذكائي والمؤدي لوسع دلائليته ودقيقها وبتعبير جمالي عالي الشأن ، لم يعتمد في تعامله هذا ومنه على صنع فضاءه الانزياحي اللغوي بل فضاءه الواسع في عمق التعبير اللغوي الطبيعي لكنه غائر في اتون المنطقة التصريحة المتفرد ، ويمكن اعتباره انزياح في عمق الشعر ووسعه الدلائلي.
احب الشاعر القصيدة و أَمن بها َ وصدقها حتى التصق بها والتصقت به ، لذا ادهشنا في حملها واحضارها لكثير حياته ، هذه الحياة الأليمة والمتماهية مع الحلم الذي يريد و تريده القصيدة، وكم شاهدنا ذلك التجسيد لمحور حياته العدمي الذي امتاز وامتحن بها ، وقد نبتت كتخوم نصوصية ،حيث محيطه الرافض له وبدون سماح لكثيره الانساني و الميتا إنساني له كذلك ، لذا ظل واقفاً ً طويلاً في فردوس نصوصه ومصدقاً بها وهو يطرد عن حياته الويلات وينش عنها الفؤوس ،
فهو شاعر سطر ايام حياته ومددها على ورقه لكتابتها شعراً ، وكان مستنكراً وبعيداً عن الكذب والتزويق في نصوصه الحياشعرية التي ماثلها في نوباته هذه…
«لا تستنهض نفسك لغيرِ ما أنتَ مقبل عليه
كن رفيق عمرك المخلص
، ولا تسلم خُطاك لغير صبواتك
كلّ ما حولك، كلّ ما خلفته غير جدير بالتلفّت
أسرع… أسرع…
كفاك وهناً
الحكمة غافية
والصباحات تتفاقم (رائحة الذكرى – طائر اخر يتوارى)
هذا ما يؤكده الشاعر – عقيل علي-وتبقى جمالية مراده الشعري هو مراده الحياتي الخفي الذي تركه يقضأ لتيهانه وهتافه الساكت الذي لا يريد المحيط الحياتي في سماعه و تلبيت اي من مطاليبه، التي القى بها على الرصيف من جزع استوطنه، خاصة وهو يحاكي اسبابه من هشيش ذاته الصغيرة المستنقعة والمنادية لقمة جبل حلمه العالى المرتفع الذي يريد ،ولم يعد مخفياً ما يحلم به وما حملته نصوصه من دعوة الى لذيذ العيش ذو البساطة العالية الشأن ،نعم لقد تماهت حياة الشاعر مع شاعريته ،وهذا وان صح الكثير المتناول على تأكيد شيء من التطابق ، لكن لم يشيروا الى البعض من هوسه وهجسه ال!
جميل. فهو القائل –لشهير- موقفه للمشهد الشعري ونعته له بالرديء الزنخ والتي تؤكد احتواء الشاعر للموقف النظيف والجمالي في الحياة والحياة الشعرية له…
(لا أتعاطف مع الكثير مما يخرج هذه الأيام، ثمة محاولات عديدة تجري لتجعل الشعر عقيماً… اكثر الشعر لدينا جسد زنخ بثياب نظيفة) وكما خبرنا به شعره من افتتان لحلم جميل صرح او اشار اليه من بين زحمة اًلامه التي طغت على حمل نصوصه، والتفكير كثيرا بحملها والرحيل بها خشية تخديشها وتصديعها من الاخرين…
حالة الافتتان تنادي
أن احمل قدمي وأمضي
ولكن…
منذ أن صاح بي…
أحترس
صار الظلام نصيبي
هذا ما صرح به الشاعر الراحل الذي غادرنا بأصرار حياتي ، حيث قال عنه أحد مريديه من الأدباء…
“أعلن الحرب علي الضياع بالضياع”؟ وقد قالها في رثاء حزين عليه .
لقد كان الشاعر عقيل علي – مشتت في معرفيته الشعرية ، لذاتوية لمته وحملت حياته لتتماها وتدخل في نصوصه التي ولدت وحضرت وأثارت حولها (القيل والقال) لحسد علو كعب كيفيتها الأبداعية ، وإنفراده في كثير المشهد الشعري العراقي ،هذا المشهد الذي سكت عن ذكر جيده ،لكنه لم يسكت عن اثارة و اطلاق الشك الشعري لديه، لحسد اشكالية ثورة نصوصه ، بالرغم من أمتلاء المشهد بالشعراء والمتشاعرين على حد سواء،ومن بعض الذين وقفوا شعرياً ووضفوا نماذج لمدح مسؤول هنا او جزار، وهنالك البعض من اولائك الواقفين بعيد عن ثقافة التهريج المؤسسي ومنهم الشاعر – عقيل علي –الذي عبر الى ثقافة الرصيف وعاش تفاصيلها. خالعاً ربطة عنق ما يريدون له كثقافة شعروية ليربطونه من خلالها لهم ولمؤسساتهم ، هذا الاهمال والتشكك الذي احيط به ،في وقت راح النقاد العرب بأهتمامهم به وتذوقهم اليه،ومنهم الشاعرالكبير –محمد بنيس – الذي فضله على الاخرين وأفرده ،حتى قال عنه الناقد – علي البزاز – وبعد قرب دراسي اليه (انه شاعر لايجيد السطو حتى على ممتلكاته ) ذاكراً من قصيدة له لم تنشر …
أنا الذي دمرتُ أشياء كثيرة
وفي نيتي أن ادمر الكثير
سأكف عن ملء حياتي بالفخاخ
سأكف عن اطلاق الذكريات للنزهه
وتعد هذه القصيدة تعبير عن شخصيته التي لازمت همه اليومي بحميمية معمقة ، اصبحت او تحولت كعدمية او بوهيمية نبعت منه ووقفت في معظم نصوصه.
وبودي ان اذكر ذكراً عقليا ً لابد منه بتناول مفاصل عن ما اثير عنه هنا، كي يرسي ما لم يرسي عليه من الباقي الضبابي عند العقل المحاور لاشكاليته الشعرية ،وبسببية إزالت البقاي من بعض ضنون المحصلة وارتجاجها عند سواحل البعض ،ومن قربنا الحسي لها نبدء فيها اولاً من حيثية الشاعر –كاظم جهاد – التي اخبرناها تباعاً وقرئناها والتي تقول ،ان – كاظم جهاد – حفظ جل تفاصيل الشاعر الشعرية والأخرى الحياتية ، له وللاخرين من اصحاب الشأن الشعري القريب منهم كاصدقاء ورفاق نشأته ومنهم كذلك الشاعر المعايش– عبد العظيم فنجان –و الشاعر المتهم به –خالد الامين- و باقي تفاصيل المشهد الادبي القريب و البعيد عند شارع الشعر والادب في مدينتهم الناصرية ، وما لهذا الأديب (العصامي)–كاظم جهاد- كما وصفه المعظم الادبي والشعري وما- لجهاد –من طبيعة التدقيق والفحص والتقليب والمتابعة التي عرفه بها القريب خاصة من مدينته حيث مدينة ومسقط رأسه وراس شاعرنا –عقيل علي – ، و لما له من أمانة في ذكر وأقرار الصادق منه، وهو المحايث والقريب لكل تفاصيل- عقيل علي – والمتابع لدقيق الاشياء والقاريء لقريب وبعيد ما يريد .
وهنا يبان ان وقوف الاديب العصامي –كاظم جهاد- وشارعه الشعري والاخر اللاشعري المتعلق ذي العلاقة ،ليؤكد ان ما نطق به الشاعر هو منتجه الحق عرفناه بذراته الدقيقة ، وهو من الأهمية التي يستجلي من خلالها ونستجلي نحن تباعها حقيقة أشياء- عقيل علي –الشعرية وابداعه لها ، وبالتالي صرح بكثير هذا الصدد وأسرع لدعم طباعة ديوان- جنائن ادم – سنة 1990 والأخر –طائر أخر يتوارى – 1992عن دار – توباقال المغربية – ، وأخيراً سكنا بصحيحها بعد تأكيد صحتها الاديب والمثقف المرجعي والصدوق هو الاخر – احمد الباقري – الذي يشار اليه بالبنان .
ان لغة عقيل علي تنط دائما بعافيتها النشيطه ،حيث راح مختزله اللغوي بدلائلية شعرية عميقة الوسع ، اي ذات كثافة عملها بثقل غائر لإيحائية جوانية قد اكتنزها واخلسها لنا واعلنها امامنا واسمعنا انينها، ومهد كثيرها لذلك المتلقي المتشوق للفن الشعري ومحصلته الجمالية، لذا قدر لها أن تحمل ما يريد هذا الشاعر وما يهيج به من رؤى وأقوال،وهي من دواخلية الشاعر التي يلج ويريد بتصريحها والأدلاء بمعناها الشمولي ،مثل السعادة والحبيبة والغناء وغيره ، والتي تتطلب دقيق المفردة المنتقاة وكثافتها حيث حَمَلها بصدق دائم ، وهذا ما يحصل عند الشعراء المجيدين ، ومن قابلية الشاعرالنفسية في الشعر وكما قال…
فرحي ان يكون لي شبيه
اعطيه عافتي
يضع اصابعه الطرية على فمي القاسي ، منايا
ويتشمم الرجال تحت ابطيه
فرحي ان يشير باصبعه
اصبعه الطرية
نحو كل ايامي التي ولت سدى – ( حتى يستنفد النور قوته –في –حياة تزن طيرانها)
ان عقيل علي-هو الشاعر والانسان المحمل بالبلوى وثقيل الأسى الحياتي الذي راح متجولاً على طول نصوصه وعرضها،حيث يروح بأيمائياته وتداعياته عبر توريات هيئها عقله الشعري المتزن النشيط في شارعه الشعري والمترنح المتعكر في شارع حياته المليءَ ضجراً،فهو القائل…
وأنا أركض نحو نفسي
أتناول أول وأقرب مركب لأدخن سارياته
وأرتجل أقرب جثة من متناول يدي
أتعثر وأنا أركض نحو نفسي
وأعد على أصابعي..
ومن خلال تجلينا المتلقي لما قال وفحصنا له كحراك تعبوي لشاعريته ، نلاحظ عدم قابلية الاخرين من تدخين سارية مراكبهم ،لابتعاد مخيلتهم من العثور علي صورتها الشعرية الغائرة في دقيق اللغة الشعري المكون له، حيث محورية مكونه البنائي للنص وتفرده فيه ، وكما ذكرنا جوهره في الناشط الدلالي المكنون في لغته الشعرية ، لذا قدرت لغته على التصريح والرسم لصعب مستوره العذب والمعذب فيه ، وهو من البارع اللغوي و الأتي بفتنة الصنيع النصي الذي يروح احيانا مبتسر في مختزله لكنه متفوه بدلاليته لباحات شعرية شاسعة القول.
. فمك أمام المرآة يقف
مدلى في الكلام
ونومك الجميل
يرسمه النهد العادل
بلا ظل
تحت الأشجار المعكوسة في الملح
وفي نقاوة الخبز
بلا أفساد أرسمك أيها الوفي. .
كان الشاعر بعيداً عن جميع تداعيات صياح المشهد اللاشعري المشتغل ضياعاً ، وبالتالي ضل بعيد عن الرسميات الاعلامية ، في حين حضيت مجموعتيه الشعريتين بأهتمام النقاد العرب مثل ما حضي بالاشكالية التي لمها عليه الكثير في الداخل العراقي.
وقد اعطى دوي الصرخة الهادئة من خلال اناته اللغوية الشفيفة السطوح والتي تعبر عن هول ما يضمه ويلمه من رديء الحياة، وهذا من العالي التعبير والموجز في توليفة رؤاه المعبر عنها،لذا اجاد الشاعر في انتاقيته للمفردة الأليفة لكنه راح في عمله التعبيري لتشكيل خيمائي لمولداته المتداعية في الطرف التعبيري اللغوي كما هو الشاعر – أمبرتو ايكو- و الرسام العالمي – مايكل بيرس- كذلك و غيرهم، ومن خلال التورية والاشارات التي اتقنها عند جميع جوانب نصوصه،وكما اشار الشاعر هنا…
ما جدوى كلمة شجرة
أن لم تكن شجرة بحق
أعالي الشواطيء انكبت على ظهرها
وتركتنا
صرخة مدوية…
لقد بان وضوح قدرة الشاعر على صياغة واعادة دلالة المفردة المستعملة وتركيبها ووضع جمالية لها تروح الى عالم الفتنه اللغوية المعبرة لديه وبحضوره الرؤي الوجداني المحاور للفنولوجيا المشرحة امام ايامه بحزنها الأليم…كما أكده في قصيدة ( إسمعْ –جنائن أدم)
اسمع يا حبيبتي بعثرة المفاتيح في الصحراء
أسمع عويل الشرفات
ثغاء القصائد
اسمع استنجاد الشفاه
وتلويحة الحقول بدماء بكارتها
أسمع نحيب الاشباح
لقد حمل –عقيل علي – أيامه الشعرية بفهم كوني له لا شبيه له غير في اعترافات له لم نجدها إلا في نصوصه ، فهو الذي نصحنا كثيراً واصاح بنا (( كفى تقليب المفاتيح بلا هواة ))
——————————-
*مجموعه الشعري المعنون – جنائن أدم – الذي يضم جميع اعماله الشعرية اصدار دار الجمل سنة 2009 م ،وهي جنائن ادم، طائر اخر يتوارى، فيمامضى ،حياة تزن طيرانها