تظهر تجربة الشاعر أديب كمال الدين في مجموعته: (أربعون قصيدة عن الحرف) على درجة عالية من الحس الصوفيّ وقد بانت أيقونات القصائد على شكل قصيدة لغوية فلسفية. ولعل عملية الغور في تفاصيل الحرف العربي يفتح منافذ عديدة في الجملة الشعرية، وهذا ما ركّز عليه الشاعر وهو يقوم بين الحين والآخر بكشف مكامن وأسرار الحرف العربي شعرياً، بمعنى هناك وظائف وإحالات ومسمّيات مكتشفة، استطاع أن يوظفها بالطريقة الفنية التي يراها ملائمة لمميزات النص الشعري الحديث. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الوظيفة الأساسية التي يقوم بها الشعر وهو يعطي للفلسفة ذلك الرونق الأخاذ، فإنّ العلاقة الجدلية بين الطرفين (شبه علاقة الفكرة بالنغم، اللّحن بالوتر، أو الصورة باللّون) كما يقول ( د. عبد القادر بو عرفة).
من ذلك، كانت المجموعة الشعرية هذه انطلاقة للكشف عن خفايا الحروف وهي تتمتع بمميزات كثيرة، ولكن هل أعطى لنا الشاعر دلالة شاخصة ومؤثرة لتلقي النصوص هذه؟ ذلك لأنه ما قدّمه في التجارب السابقة أفاض الكثير عن مكونات الحرف العربي شعرياً إلاّ أن الواعز الحقيقي الذي يجعلنا في إعطاء علامة استفهام للتساؤل عن جديد الشاعر، هو قراءة تجربته الحروفية لما بعد الاشتقاق الحروفي، بمعنى أنّ التجارب السابقة كشفتْ عن دلالة الحروف وفق مكوناتها الاشتقاقية، في حين أنّ المجموعة التي نحن بصددها انطوت على فعلٍ مغاير في التناول الشعري، وقد هيمن إطار الموضوع على إطار الحرف، أو بالأحرى ثمّة قصدية عميقة طُرِحتْ بشفراتٍ فلسفيةٍ داخل الجمل الشعرية في تجربة الشاعر هذه. فعلاقة المضمون حين يأخذ دوره داخل النصوص، فإنه يكشف عن علاقة فاعلة لطبيعة الخطاب الشعري ومكوناته الفكرية والفلسفية، وأيضاً بالقضايا التي يستنشقها الجوهر الشعري ويفعلها لتخرج في النتيجة النهائية وفق بنية جمالية مجرّدة لأنها استدعت تحولات العناصر المستعارة لتستلهم آفاقاً جديدة، فالتجارب الشعرية المحدثة والمنفتحة على مساحات واسعة لجميع اللّغات تدرك مدى أهمية تأجيج البنى المكوّنة للشعر كتجربة الحرف شعرياً، ذلك لأنها تفجّر المخيلة عبر استجابة وافية للعواطف وتلقائية التأمل فيها.
أديب كمال الدين اشتغل عبر مخيلته ومكوناته المعرفية وحالات تأملاته في كتابة القصائد الحروفية وحاول جاهداً لأن يجعل أيقوناته الشعرية ذات إحساس صوفيّ واضح بالمعنى الدلالي والفلسفي وما نبع من صفاء قصدي في بنية القصائد، جعلنا نستعير الجملة التي تقول بأنّ (التصوّف حسّ شعري، ومعظم نصوصه نصوص شعرية صافية)، فهل الاشتغال على منواله هو استعادة لتراث النص الشعري؟ أم هناك قراءات مختلفة؟ بطبيعة الحال تتجسد أمامنا تجربة الشاعر أديب كمال الدين على درجة كبيرة من الكشف وهذا ما سنطبقه إجرائياً.
(في الجانب التطبيقي)
في (أربعون قصيدة عن الحرف) تبرز شعرية أديب كمال الدين من خلال الأخذ بجمل القصائد من مكامن موضوعاتها لتتنامى وتتصاعد أثناء عملية التلقي، وقد شكلت علامات واضحة داخل المضمون المكثف بإحساس عالٍ، وما يبرهن جدلية الشعر المنفتح بمخيالية عالية أنه ليس (نظماً للقوافي وسبكاً للأوزان) بل الشعر شعور وفكر، وفي الوقت نفسه تحدّث (هيدجر) عن الشعر والفلسفة وربطه بالميتافيزيقيا ارتباطاً ضرورياً وأنطولوجياً، لأنه اعتقد أن الكلمة هي مسكن الإنسان من خلال ذلك ينهض الشعر بدلالاته الحروفية وهو يعكس تأملاته وحكمه بسياقات الحس الوجودي المشبع بتناصات مشروعة بموضوعات عديدة، إذ نقرأ في القصيدة الأولى : (جاء نوح ومضى):
ستموت الآن.
أعرفُ يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن.
لم تعد نقطتكَ الأنقى من ندى الوردة
تتحمل كلّ هذا العذاب السحريّ
والكمائن وسط الظلام
والوحدة ذات السياط السبعة. (ص7 )
ما نلمسه في المقطع البائن أمامنا أن الشاعر سعى للغور في عمق الإحساس الشعري للكشف عن قصدية حوارية مشاعة عندما تبرز الكلمات: (ستموت الآن.. أعرف يا صديقي الحرف.. لم تعد نقطتك.. العذاب السحريّ.. الكمائن) كلها نسجتْ نصاً شعرياً له دلالاته المفعمة صوفياً. ذلك أن إحالة الحرف العربي إلى منطقه استخدامية جديدة إنما يدلل على إمكانية وضعه في مناطق إشكالية عديدة، وهذا ما أخذ أدواراً عديدة في القصائد الأخرى. في حين نقرأ في قصيدة: (تناص مع الحرف) كيف يأخذ السياق الشعري منحى يشفّ عن رؤيا مجازية هائمة، رؤيا تتجاوز إدراكات الواقع وتشكلاته بعيداً عن المباشرة، حيث الحرف يتجاوز مألوفه بأنسنة واضحة وبرغبة لقائه مع الشاعر لتصبح القصيدة فاعلة من حيث مضمونها وهي طريقة صيغتْ بإسلوب فلسفي، وكأنّ هناك إحالات مشرعنة للشاعر وهو يقوم بتوظيف ذلك:
حين أراد الحرفُ، ذات يومٍ، أن يلعب
جاءَ إليّ
فوجدني ضائعاً أكثر مما ينبغي
فتركني.. (ص43 )
نلاحظ سياق الكلمات: (حين أراد.. جاء إليّ.. وجدني.. تركني)، كلّها مدركات فعلية تنطوي على إقرار شعري مؤثر، وهذا ما يجعلنا نلمس الحدث الشعري من داخل المضمون فلسفياً. بمعنى أنّ الحرف له حضور مثالي في ذهنية الشاعر، ولو دخلنا إلى القصائد الأخرى لنجد الكثير من الالتقاطات البارزة في ذلك كما في قصيدة (اعتذار) في المقطع (4): (في حياتي/ قرأتُ الكثيرَ من قصائد الشعراء الموتى/ حتّى امتلأت باليأسِ والموت/ فمت)(ص41)، وفي قصيدة (عن المطر والحبّ) في المقطع (6) (سأكتب عنكِ، إذن، قصيدة الموت:/ قصيدة حرفها البحر والحُبّ ونقطتها المطر) (ص53)، وفي قصيدة: (طاغية): (الحرفُ الذي لا معنى له / سيشعلُ للنقطةِ حرباً لا معنى لها) (ص75).وحين نبحث عن جدلية حضور الحرف الكبير كعنصر وجودي فاعل لدى القارئ، فإنّ (العلاقة بين الحرف والإنسان كالعلاقة بين قطرة الماء والبحيرة أو بين التراب والصحراء) كما يقول: (د. عمر عبد العزيز) ، لذا يدخل الحرف في شعرية (أديب كمال الدين) من بؤرة موضوعية، وفيها تصبح الجملة الشعرية ذات خطاب فلسفي، وفي ذلك نقرأ في قصيدة: (لا فائدة)، كيفية تناول الحرف داخل إطار المعنى:
حين وِلدَ الحرفُ (هل لولادته فائدة؟)
نزل ليسبح في بحر اللّغة
حتى كاد يغرق في بحرها المتلاطم العجيب.
قيل له: ابحثْ عن نقطتكَ يا هذا!
قال: هل من فائدة؟
قيل له: لا معنى لكَ دونما نقطةٍ فإنتبهْ ! ( ص96 )
بهذا تطرح شعرية ( كمال الدين) بإيقاع المعنى المكوّن للنص في كل قصيدة ، ثم عملية إيجاد أكثر من وظيفة تتدارك مع الحس الداخلي المحكوم بتشكلات لغوية وموضوعية معاً، ولعل التساؤلات المضمونية بـ (هل لولادة الحرف فائدة؟) أو (هل من فائدة لولادة النقطة؟) وغيرها مما تضمنتها القصائد الأخرى، إنما تفتح شفرات شرعية لجعل ثنائية الحرف والنقطة في دوامة أزلية ملاصقة، وهذا ما ميز تجربة الشاعر وهو يكتشف بين الحين والأخر فحوى المكون الأساسي للشعرية الحروفية.
خلاصة:
بعد إن كُتِبتْ الكثير من الدراسات والمقالات النقدية حول تجربة الشاعر أديب كمال الدين الحروفية، فإن ذلك يُعدّ بحد ذاته ملاحقة لما يقدمه من اكتشافات متواصلة في مضمون الحرف شعرياً، وقد حقق طفرات بارزة بين تجربة وأخرى، رغم أنّ الحرف والنقطة يشكلان علامتين ذاتا خصائص مفارقة.
وفي مجموعة: (أربعون قصيدة عن الحرف) الصادرة عن دار أزمنة للنشر والتوزيع بعمّان، ظهرت إضاءات تحمل خصائص الجملة المحملة بأطر فلسفية (كما ذكرنا) ومنفتحة بدلالات الحس الصوفي، والتنقيب النقدي استطاع أن يشخّص ذلك من خلال رصد ما يمكن رصده من انعطافة مركزة للكينونة الشعرية التي يتمتع بها الشاعر وهو يقوم بهذا الدور. كما لمسنا التحولات الجديدة في قصائد المجموعة تناظراً مع مجاميعه السابقة، بمعنى أن اللّغة المجردة التي اعتمد عليها سابقاً تحوّلتْ إلى رصد، عبر مخيلة واسعة وتطبيق أكثر عمقاً. بقي أن ننتظر ما سيقدمه لنا في قادم الأيام من تحوّلات جديدة في الحرف العربي وهو يتبادل الأدوار مع البنية الشعرية.
*******************************
(1) د. عبد القادر بو عرفة / الفلسفة والشعر .. التماثل والاختلاف .
* أربعون قصيدة عن الحرف– شعر: أديب كمال الدين– أزمنة للنشر والتوزيع- عمّان- الأردن 2009
زهير الجبوري – العراق- بابل