في مدينة بحجم القلب، محاطة بالماء والملح، تختزل مأساتها في عشرة ايام هي ايام عاشوراء، وتكاد أن تلقي كل أحزانها وتذرف كل دموع أهلها في تلك الأيام، ولم يكن من السهل علينا نحن الصغار ان نستوعب ما يحدث، وفي بيتنا الصغير كانت سحارة الكتب المغلفة بالجلد الأسود تثير فضولنا، تلك السحارة لا تخرج من تحت السرير الوحيد الا في عاشوراء، تعيد امي الملاية شيخة التي تفتخر بتخرجها من مدرسة الملاية فاطمة رحم الله الإثنتين، تعيد ترتيب تلك الكراسات والكتب التي لا يزيد حجمها عن حجم اليد، كنت حينها أراها تقرأ لنفسها وتردد مواويل اشبه بتلك التي اسمعها من الراديو ذي الأزرار الكبيرة والأرقام المتداخلة، وحين أسألها بعد انتهاء كرنفال البكاء والدموع كانت تقول: هو عزاء الإمام…
أسئلة كثيرة تدور في رأسي الحليق الصغير آنذاك، ما هو العزاء، ومن هو الإمام، وما علاقة هذا بذاك..؟
للآن أتذكر يوم أخذني أخي الذي يكبرني بعشر سنين الى ساحة عامة مليئة بالناس ومنهم من كان يرتدي ملابس تزينها الألوان، كان هناك من يحمل بيرقا ومنهم من يحمل سيفاً، لم اعرف أحداً منهم غير حصان جارنا جوهر، صحيح لم يكن الحصان عارياً كما هو الا أني عرفته بالرغم من تزيينه وترتيبه.. قال أخي ذاك حصان الإمام.. وبوعي الصغير رددت مع نفسي أيعقل أن يكون العربنجي جوهر إماماً..؟
لم يمض وقت طويل حتى بدأ العرض، الرجل الطويل الواقف على تلة قريبة كان يقرأ ما كنت اسمعه في قراءات امي، ذات الأسماء، والتفاصيل، وكان الأشخاص حاملو السيوف يتحركون وكأنهم يطبقون ما يقوله الرجل.. لا أكتمكم سراً، كنت خائفاً ويزداد خوفي كلما أنقض الرجال المسيفون على رجل واحد.. وما يزيدني فزعاً البكاء الذي اسمعه من الواقفين، أيعقل أن يكون البكاء على الرجل دون أن ينصروه..؟
انتهى العرض، واشعلت النار في الخيام، ومات الرجال، واصطبغ حصان جارنا جوهر باللون الأحمر، هو دم على ما أظن، وعدت الى بيتي منقبض الصدر، حزيناً على الرجال الذين قضوا، وفي نفسي سؤال حيرني كثيراً، لماذا كان يبكي القاتل الذي يسمونه الشمر وهو جاثم على صدر الإمام..؟ نعم الشمر كان يبكي، بكاءاً مراً، بكاءا مثل بكاء الناس الذين تحلقوا حول الساحة الترابية.
كلما تذكرت تلك السنوات تنتابني الكآبة، وتنقبض نفسي، حتى بعدما عرفت أن ما شاهدته لم يعد سوى إعادة تجسيد للأحداث..
هو اليوم ما يمكن أن نسميه مسرح التعازي.