إليه الذي خرج من ضيق السعة إلى سعة الضيق
شاقا حجب ظلمات ثلاث
صارخا…
رافضا…
متمردا
إلى ولدي…
معتصم
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
سورة الأحزاب
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقران ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)
سورة التوبة
نحن نقف اليوم أمام طود شامخ، وجبل ثابت، أمام بحر زاخر، فيه من الحنان ما يسير الفلك، وفيه من الحزم أن يضم في قلبه عالم غامض غريب. أمام شخص تطاول بهامته حتى استطاع أن يلتقط النجوم والكواكب بيديه، ويوزعها حبات زيتون وسرو وكينا وزنزلخت للأرض. أمام رجل قلما يكون مثله من رجال، رفض أن يقول ما لا يفعل، ورفض أن يكتب بالحبر خوفا على نفسه من عدم الوفاء، ففتح وريد قلبه وأملى على التاريخ أن يكتب عنه من دمه. ووقف التاريخ طائعا يكتب. نحن بالإجمال أمام – إنسان – فقط.
نحن اليوم أمام الشاعر الكبير الشهيد عبد الرحيم محمود.
لم يخلف لنا الشاعر الشهيد إرثا كبيرا من الكلمات، لأنه عرف أن الكلمة فعل، وهو لم يخلق ليقول إلا ما يود أن يفعل، وبذلك صدق مع نفسه فصدقه الناس. لم يترك لنا سوى ديوان صغير، صفحاته ثلاث وثلاثون صفحة، تضم في قلبها سبعا وعشرين قصيدة هي كل ما خلفته قريحة الشهيد.
قلنا أن ارث الكلمات صغير، ولكن، هل يجسر قائل أن يقول: أن الإرث المعجون بالفعل يقاس بالصفحات فقط؟ لا، لان عملا مجيدا غير مشوب بالذاتية والأنانية يطوح بملايين الكتب والخطابات، فيخرجها من ذاكرة التاريخ لتدخل عالم النسيان، لان تلك الذاكرة لا ترضى بان تضع القول في مصاف العمل، لتعطي ذاتها لقب الظلم والجور وعدم الإنصاف.
فالصفحات القليلة التي بين أيدينا بعددها، كبيرة فيما تحمل من أنفاس ودماء، عزيمة وصدق، وفاء وإخلاص. وأنني اقر معترفا منذ البداية بان ما سأكتبه عن أنفاس الشهيد هذه، والتي اسمع صداها في لقمة الخبز التي آكلها، ورشفة الماء التي ارتشفها، ونسمة الهواء التي أتنسمها، وغمضة العين التي أغمضها، وصحوة الصباح التي أقابلها، واشراقة الشمس التي تغمر الكون، وفي همسات الأعشاب وعصير الزيتون وهلاليات البرتقال، في الزعتر البري، في النرجس الساكن فوق القمم، والماء المنساب في الوديان. اعترف وبثقة مطلقة باني لن أستطيع أن أوفي تلك الأنفاس العالية الصدى حقها، لا، بل جزء حقها.
ولكني اكتب – فقط – من اجل زيادة هذه المنارة شعاعا بسيطا، في وقت أصبح فيه كل متشاعر متشدق هدف الأقلام والكتب. في وقت نسي الناس فيه مناراتهم وانتبهوا لأقزام مدعين، فجنوا على التراث أيما جناية، وأعطوا القدر لمن لا يستحقه، فضاع الحق وترعرع الباطل. إنها محاولة فقط لرد الاعتبار لهذه الروح الشريفة، وليس من اجل إيفاء الحق لمن أوفى الحق لوطنه وشعبه، فمثل هذا الشاعر هو الذي يستطيع أن يوفي الحقوق، ومثلنا يقف ليرى ويشاهد كيف يكون الوفاء بين الشهيد وبين الروح والوطن، لان الكلمات لا تستطيع أن تعطي الشهادة صورة اصدق من الموت في سبيل المبدأ، مهما كان الكاتب بارعا ومهما كانت الكلمات دقيقة.
عبد الرحيم محمود شاعر متعدد الجوانب، لكنه ذو بعد واحد في جميع ما كتب، كرهه ومقته الشديدين للظلم. وهو شاعر ملتزم يدرك قيمة الكلمة وأثرها في النفوس، لذا ترفعت كلماته عما يشين النفس الطاهرة الأبية، وتعالى فوق الوصف البلاغي الحاوي للصور الفضفاضة غير المجدية، وتسامى حتى أعطى حروفه دفقات حيوية متوثبة من عصارة قلبه النابض بالشمولية والإنسانية التي تحث الجماد على مواجهة الظلم وهدمه. فارتفع بإحساساته فوق طاقة الحروف وقدرتها على حمل ما يود قوله. وترك بين الحروف كلاما تلمسه الروح، ولا تراه العين، ويتسلل إلى القلوب ليعيش في نبضاتها حياة جديدة، تزكي النفوس وتعطر الدماء. حتى أنك لتسمع أنين الحروف واضطرابها كلما أصخت السمع لبيت من شعره، تشكو ضيقها وعجزها للمعنى الذي يريده الشاعر، ولا تجد عزائها إلا في همسات روح المعنى لروح القارئ.
” البطل الشهيد” عنوان قصيدة قالها الشاعر في رثاء زميله القائد المجاهد” عبد الرحيم الحاج محمد (1) من قرية ذبابة، وكأنه كتب على هذه القصيدة أن تنشد صوتين في صوت الشاعر، صوت صديقه في رحلة الجهاد، وصوت الشاعر نفسه حين استشهاده.
أإذا أنشدت يوفيك نشيدي
حقك الواجب يا خير شهيد؟
انه تساؤلا، وليس أي تساؤل، بل تساؤل العارف قيمة الاستشهاد حق المعرفة. وكيف لا يكون ذلك، وهو الذي خاض الصعاب مع المرثي، وعاش وإياه لحظات الجهاد العنيفة المتوترة، التي تقذف الموت في كل ساعة بالآلاف من الشظايا وعلى كل الجهات وفوق كل المساحات. تساؤل رجل عرف معنى التنقل من جذع شجرة إلى صخرة، ومن مساحات القصب إلى غابات الزيتون، ومن بين أغصان البرتقال إلى حقول القمح. تنقل مقاتل متوشحا بندقيته المعبأة بالرفض والتمرد، تنفل إنسان يرى دماء أهله تسال على الطرقات، تنقل شاعر يرصد الألم الناتج عن ضياع أجزاء الأرض جزءا خلف الآخر، ليرسم القهر خارطته فوق العيون وتحت أعطاف المشاعر. تساؤل رجل حباه الله رقة الإحساس ونداوة المشاعر لكل جميل وحزين. وهو في النهاية تساؤل مقاتل يعرف تماما الفرق بين الكلمة التي ترافق الرصاص وبين الكلمة التي تأتي من شعراء وأناس التصقوا بوثير الفراش وعاج الرفاهية، تساؤل شاعر عرف الفرق بين قيمة الماء وبين قيمة الحروف.
أي لفظ يسع المعنى الذي
منك أستوحيه يا وحي قصيدي
نعم، أي لفظ هذا الذي يستطيع أن يجمع معنى الشهادة في سبيل المبدأ؟ وأي حروف تستطيع أن تحمل ثقل هذا المعنى الذي صاغه القائد بعزمه وتصميمه. إن اللغة لتشفق على نفسها من حمل مثل هذه الأمانة، لان المعنى لا يخضع للحس المادي، وإنما يتسامى فوقه ليصوغ الروح الخالدة في ضمير الحق.
لا يحيط الشعر فيما فيك من
خلق زاك ومن عزم شديد
كملت فيك المروءات فلم
يبق فيها زيادة لمستزيد
هذا هو التقدير، وهذا هو الاعتراف للمرء بقدره. إن الشعر الذي يكتبه الشاعر ليس هو المخلد للقائد الشهيد، وانما الخلود الذي تحظى به الكلمات قادم من تلمسها لروح الشهيد وأخذ نضارتها وشبابها وجمالها من نضارة وجمال دماء الشهيد التي تسربت لروح كل شيء في الأرض والناس والتاريخ. من البطولة التي يقف الشعراء على امتداد العصور أمام ألقها وقوف المستجدي الذي لا يستطيع غير وصفها بكلمات صغيرة تتضاءل أمام صور البطولة والفداء. وهذا هو الوصف الدقيق لرجل اختار الشهادة وتنازل عن الحياة وزهد فيها وهي تستحثه البقاء، لكنه ينتزعها من بين جوانحه ليروضها على معنى الحياة الحقة، ولكي يعلمها كنه البقاء والسرمدية.
ويسترسل عبد الرحيم محمود ليصل الذروة في تأجج مشاعره وحزنه على صديق جهاده، حين يصف حالة الوطن بعد استشهاده فيقول:
لم أكن قبلك أدري ما الذي
يرخص الدمع ويودي بالكبود
كل بيت لك فيه مأتم
تندب الناس به أغلى فقيد
وهنا تظهر القدرة الفائقة للشاعر في التوغل داخل المعاني توغلا عفويا يتناسب مع مفهوم النفس التي تحيا حياة البطولة دون محاولة اكتسابها. لان البطولة لا يصنعها الفرد، كما إنها تخرج عن اطر الصناعة الجمعية. بل موجدة داخل الإنسان كمكون أساسي وطبيعي من مكوناته وتركيبته. وللبطولة خصائص قد تبدو للإنسان العادي متناقضة متضاربة، لكن الأبطال يعرفون المعنى القائم بين ما يراه الناس من تناقض وتضارب، ويدركون الحد الفاصل بين التركيبة الخاصة بالبطولة والخارجة عنها. فالدمع الذي ينهمر من العين خوفا ورعبا، هو دمع تنأى البطولة عن الاعتراف به أو اعتباره شيئا يستحق الاهتمام أو النظر. لكن الدمع المنهمر على شهيد كان السلاح مرافقا لكل خطوة من خطواته، والاندفاع نحو الموت هو الهدف الأسمى الذي يتوسط مركز رؤاه، هذا الدمع الذي يسترخصه الشاعر في وقت لا يكون فيه معنى لبقاء الدمع في العيون. ولان فقدان الأبطال فجيعة لكل بيت، وليس لبيت واحد، فقد حق على القصيدة أن تجمع دموع البيوت في شكل الوطن الباكي فرحة انطلاق الروح من جسد الشهيد لتلحم بعليين حيث عرش الإله الذي يفرح بلقائها، فيأمر السماء كلها بالفرح. وهذه القصيدة تطفح بالصدق لأنها جاءت من مجاهد شاعر، وليس من شاعر يحاول أن يتصور معنى الجهاد ومعنى البطولة تصورا من خلال ما يرى ولكن دون أن يحس معنى الذي يراه، بل هي رثاء شهيد لشهيد، لذلك يمكن القول بان هذه القصيدة ليست لازمة للقائد ذاته، وانما هي رثاء خاص عام، القائد الشهيد صديق الشاعر ذاته شكل رمزا صلبا للحياة النابضة بحروفها.
وتشكيل الكلمات بالأسلوب الذي ورد في القصيدة يدل على عفوية كاملة للشاعر وابتعاد تلك العفوية عن الاهتمام بالحبك اللفظي، لذا جاء الصدق واضحا في حروفها أوضح من الحروف ذاتها. “اإذا أنشدت يوفيك نشيدي”، تساؤل استنكاري يهيئ القارئ للدخول في المعنى، وهذه صفة ظاهره ومتكررة في ديوان الشاعر، والاهم من ذلك كله ان القارئ لا يرى الحروف بل يعيش الشعور الذي يريده الشاعر من خلال العرق المتصبب من الكلمات…
خمدت نار لقد أضرمتها
لعدى كانوا لها بعض الوقود
إنها رؤية روحية مباشرة من القارئ للمعنى، وقفز سريع من المخيلة للصورة التي رسمها الشاعر بريشة فنه لاستخدام الحروف.
وعبد الرحيم محمود صاحب الكلمات النارية تلك، يعرف كيف يستخدم الكلمة الملتهبة في حينها، وكيف يستخدم الكلمة العذبة الرقراقة في موضع آخر. فها هو في قصيدته ” العيد ” ينتقل بنا إلى كلمة عذبة خفيفة، لتعبر عن معنى عميق بعيد الغور…
إذا رق إحساسنا في الوجود
وفاضت أحاسيسنا الشاعرة
انسياب عذب لكلمات تكاد من خفتها أن تطير لتلامس وجه السماء وتنثر على الأرض شذى عبير كوني يضيء أنفسنا بأضواء النجوم. صورة نقية تلمس بالأصابع الخمسة، فتنتعش اليد احساسات فياضة تنتقل إلى الروح، فتحولها إلى دوري يقفز فوق رواب من سعادة واستبشار…
إذا ما صهرنا قيود العبيد
بنار من القوة القاهرة
وأي دعوة للحرية أفضل صياغة من هذه الدعوة، وأي توضيح لثمن الحرية أفضل من هذا التوضيح…
إذا ما نعمنا بلقيا المنى
وقرت رغائبنا الحائرة
إذا كان هذا فثمة عيد
وتلك مظاهره الساحرة
وثمة يحسن وجه الحياة
فتصبح فتانة ناضرة
وتجمل دنيا زهدنا بها
وإلا…فموعدنا الآخرة
تسلسل منظم، يبدأ برقة الإحساس، وفيض المشاعر، ويمر بصهر قيود الأسر ولقاء الأماني، ويتوقف قليلا عند حيرة الروح، ثم يأتي القرار بعد كل المراحل، بان الحرية وملك الذات هي العيد، وليس هناك عيد آخر دون الحرية. فان تم هذا فوجه الحياة مشرق جميل يسرنا إشراقه وفتنته، والا فجمال الشهادة أحق بالمعانقة والتوحد.
وهل يقف الشاعر الشهيد أمام جمال الحرية فقط، لا، فهو يملك بجانب حسه الوطني المرهف، إحساسا مفرطا نحو الإنسان في نضاله مع الحياة. فها هو يخط قصيدة تنطق بالظلم الاجتماعي، وتصور الحالة الاجتماعية المتداعية، وتبحث دقائق النفس الإنسانية المرائية، كل هذا من اجل حمال شاهده الشاعر ميتا على قارعة الطريق في حيفا، يمر الناس به ولا يشعرون بموته….
قد عشت في الناس غريبا وها
قد مت بين الناس موت الغريب
والناس مذ كانوا ذو قسوة
وليس للبائس فيهم نصيب
إنها حقيقة يعيشها الإنسان أينما كان على وجه الأرض، لان الطبع الإنساني لا يسالم الفقير ولا يهادنه، لا في حياته ولا في مماته. فهو مثقل بهموم الاضطهاد وهو حي، ومثقل بهموم الإهمال في الموت.
وينتقل الشاعر ليصور بكلمات رشيقة مرض النفاق المسيطر على الإنسان….
لو كنت في حبلك شناقهم
لولولوا حزنا عليك وشقوا الجيوب
أو كنت من سلك رزاقهم
لقام عند السل ألفا خطيب
ونزهوا حبلك عن عيبه
وبللوا السل بذوب القلوب
هذا لو كنت ذا تأثير معين، حتى لو كنت تنتزع أرواحهم على أعواد المشانق، أما أنت….
لكنك الحمال- لم يطمعوا
فيك ولم يخشوا أذاك الرهيب
لذلك لا داعي لتكليف العين مشقة النظر إليك، ولو على سبيل الاستغراب والتمتع. مع أنك تفوق معظم الناس شرفا ورفعة. لان الخبز الذي تأكله معجون بعرقك الزاكي الشاهد على عفتك وصفاء يدك….
رغيفك الطاهر غمسته من
عرق زاك ودمع صبيب
ما كنت سلابا أخا غصبة
بل كنت ذا حق سليب غصيب
ولأنك لم تكن صاحب جاه أو سلطان، ولم تملك حولا ولا قوة….
فرحت، لم يسكب عليك امرؤ
دمعا ولا قلب رقيق يلوب
ولم يودعك حبيب، وقد
يهون الصعب وداع الحبيب
إن الأبيات السابقة قد قررت حالة اجتماعية شاذة بأسلوب يملك شغاف القلوب، حتى انه يمسك بالمشاعر الإنسانية بقوة وعزم، وينزعها من مكمنها ليفليها باحثا عن معنى الإنسانية أمام هذا الحدث الذي هز الشاعر فأخرجه عن طوره، وجعله يشعر بتفاهة الحياة أمام هذا الموت الرهيب، أمام ثورة الإنسان على نفسه في صورة غيره…
إن قوافي- على قحطها-
تلقى بمرآك المجال الخصيب
برودك الهادئ قد هاجها
فجررت غضبي ذيول اللهيب
يا موقظ النقمة في أضلعي
بشعت في عيني الجمال العجيب
انه الصدق الإنساني لدى الشاعر، هو الذي أعطى الكلمات رنتها، وذوب الفؤاد. حتى أن القارئ يستشعر القشعريرة تسري في جسده، فينتفض، إلا أن الحزن يظل ساكنا فيه لا يذهب، وكيف يمكن أن يذهب أمام كلمات تذوب أسى ولوعة، وتقطر دمعا ساخنا يصلي الأرض حين يلمسها فيرتجف التراب معلنا حزنه وسخطه في آن، على من تكون منه ونسي أصله، فتعالى عنه في صورة الحمال.
إن هذه القصيدة تثبت البعد الواعي لنظرة عبد الرحيم محمود الإنسان، النظرة التي لا يمتلكها بمثل هذه الشفافية والحساسية الشديدة إلا من كان شاعرا بحسه وطبعه، قبل ان يكون شاعرا بلغته ومفرداته. والتصوير في هذه القصيدة ينم عن قدرة فائقة على امتلاك الشاعر عنان اللغة، وتطويعها لأغراضه الشعرية وفق إرادته، وبسهولة متناهية، وعفوية ملازمة للشاعر كما قلنا، تلك العفوية التي تنقلك إلى روح الشاعر الناطقة بالمعاني والإيحاءات النفسية وليس بالمفردات والحروف.
وحين يكتب الشاعر الغزل، لا تجده مرتميا تحت أقدام محبوبته يستجديها كالشعراء المخنثين، بل تجده يطبع قصائده الغزلية بطابع شخصيته آلت تأنف أي خضوع، لأي كائن كان، فهو ثائر في وطنه، ثائر على أحوال الإنسان الاجتماعية في وطنه، ثائر على الذل، ثائر على كل ما يمس بالرجولة والكرامة. وها هي قصيدته ” كبرياء الحب ” توضح لنا شخصيته أمام الإغراء الأنثوي الذي يتساقط عنده اغلب الشعراء…
اسمعي يا من لقد خنت الهوى
ونسيت أو تناسيت الودادا
إن قلبا بالجوى أحرقته
سوف اذريه بعينيك رمادا
وخضوعا كان بي فيما مضى
سيصير الآن كبرا وعنادا
وإذا حن فؤادي للقا
فسأجتث من الصدر الفؤدا
واهجريني وابعدي عني فلا
ارهب الهجر ولا أخشى البعادا
وتناسي كيف شدنا عشنا
قد هدمنا ما بنى الحب وشادا
وسأنساك ولا اترك في
ذكرياتي لك ذكرا مستعادا
وتطالعك نفس النبرة الصارمة في قصيدة أخرى له بعنوان ” روحي ” حيث يقول…
دمعي الذي أذللت كفكفته
أواه كم أذللت لي من دموع
وجرح هذا القلب لملمته
وأطفئ المحرق بين الضلوع
وعقلي الهائم أرجعته
ولم أكن آمل منه الرجوع
روحي
نزعت من قلبي نبات الهوى
وتحت أقدامي لقد دسته
وخفت من قلبي ظلال الهوى
ورجعة الماضي فحطمته
ان عاد قلبي للذي مضى
أتيت بالنار وأشعلته
هذا هو عبد الرحيم محمود، لا يعرف الهوان، ولا يرضى بأي صورة من الصور كان، لأنه طبع على الشجاعة والإقدام، وعلى أن يكون سيد نفسه، لا مسودا ولو لأهوائه. وهذا مثال الرجولة والكمال، الذي يصلح لان يقول كلاما ليس لمجرد الكلام، وإنما كل كلمة مقرونة بألوان طباعه التي تحضه على العمل في سبيل الصدق مع النفس، ليحظى بتقدير نفسه لنفسه.
والشاعر المطبوع على الصدق في احساساته، مطبوع على الصدق في طريقة وعيه للحياة. لذلك كان عبد الرحيم محمود مدركا طبيعة النظرة المنطقية للأمور، لذا كان فهمه لمشاكل الحياة والمجتمع يصور الحقيقة في كلمات نابضة تمور بالانفعالات النفسية البارزة. فتاتي القصيدة لتهز القارئ وتجعله يعيش تلك الانفعالات، فيحترق لصداها ووقعها. وهذا اظهر ما يكون في قصيدته ” في حالة غضب “.
هل غير سبيل من دم دافق
يروي غليل الساخط الحانق
أم غير لألأ الظبا والقنا
يزيل من قلبي دجا الغاسق
كرهت ذا العالم- هل مأبق
في عالم أخر للآبق
كلمات نارية، تحمل صورة انفعال نفسي قد وصل الذروة، فضاق به الشاعر ولم يستطع تحمله، فنفثه على الورق كلمات سخط متفاعلة كي تصل إلى صدر القارئ، وتجعله يعيش حالة الغليان، فيتمنى لو كان قائلا تلك القصيدة. ولكن، هل هذا كل الذي يقال…لا
ضاقت بي الدنيا واني بها
أضيق، يا لي من فتى ضائق
روحي عبء مثقل عاتقي
أيان ألقي العبء عن عاتقي!؟
إنها حالة الاستهتار بالحياة، رغم فتنتها وجاذبيتها، وهي حالة استنكار هذا العالم والإحساس بالغربة عنه رغم وجوده فيه. هي اللحظة التي يكون الموت فيها لدى الشاعر خيرا من حياة لا معنى لها ولا قيمة. لأنه يرأف بروحه أن تعيش وسط عالم الزيف والدجل الذي لا تطيقه طبيعتها الأدبية، انه التمرد، تلك الصفة الواضحة في كل لمسة من لمسات عبد الرحيم الشعرية على الأوضاع المقلوبة والشعارات الزائفة والمظاهر الهابطة، والأوضاع التي يكون الشريف فيها ضائعا بين ركام الأصنام المتحركة، تلك الأصنام التي تسرق خبز الجائع، وتصل بكذبها وخداعها إلى كل ما تشتهي، فتنشر الظلم باسم العدل، وتهدم قيم الأخلاق، وتقوض أركان الحقيقة، وتنبش مكامن الأمانة، وتحرق جوامع الصدق، فغدا العالم عالمها، تعيش فيه وفق أهوائها ونوازعها.
في مثل هذه الحالة الاجتماعية، كيف يمكن للصادق أن يعيش؟! وان عاش، فهل غير عيشة القهر والكمد، إنها معيشة الموت خير منها، لأنها عيشة…
يحظى به الكذاب بالمشتهى
والتعس للمخلص الصادق
الخير والخبز غدا حكرة
لبعضهم، والويل للسارق
هم أوجدوا السارق من حاجة
وقيل هذي قسمة الخالق
يا منطقا لم يرو عن عاقل!
العي خير منه للناطق
قد محق العدل، فلا عادل!
أما لأهل الأرض من ماحق
متى أرى الحق وأصحابه
يعلون من أدنى إلى شاهق
وأبصر الشر وأربابه
يهوون من أعلى إلى ساحق
انه التساؤل الطبيعي من شخص ملك الصدق فيه كل جارحة، صدقه في كفاحه للعدو، صدقه لصورة الحمال النفسية، صدقه في غزله، صدقه في حبه لإعلاء الحق وإسقاط الباطل.
وان كان عبد الرحيم محمود قد تألق في كل قصائد الديوان، فان له قصيدتين هما ذروة تألقه، قصيدة ” الشهيد ” وقصيدة ” دعوة الى الجهاد ” وهما في نظري اجل ما كتب الشاعر، حتى أنك لا تبدأ بالبيت الأول من قصيدة الشهيد، لتجد السامع- أي سامع كان- يفاجئك بحفظ بقية الأبيات عن ظهر قلب، حفظا غير مقصود، وإنما هو حاصل بالفطرة. وهذا أسمى دليل على قرب قلب وفكر الشاعر من قلب وفكر شعبه الذي لا يزال يقدره من خلال هذه اللمحة الفطرية. ويكفي الشاعر فخرا ومجدا أن يكون معروفا بالفطرة، لا بالقراءة المستمرة من اجل حفظ بيت يميل الناس إليه.
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى
انه تقرير توكيدي، وأي تقرير؟! تحسه من جوانح الكلمات صادقا كل الصدق، بعيدا عن التفاخر الكاذب، والتشدق المبتذل، ومع انه تقرير خطير يحمل معنى الفداء والتضحية، إلا انه جاء بسيطا أمام الحقيقة الكبيرة… (فإما حياة تسر الصديق) حياة تضمن لإخوته من شعبه الحق في عيش كريم حر، الحياة التي يكون فيها سيد نفسه، كي يتسنى له ان يكون إنسانا. إنسان له حق حياة الإنسان، (وإما ممات يغيظ العدى) فلا قيمة للحياة أمام هذا المعنى السامي النبيل. لان الموت حينئذ لن يكون موتا طبيعيا، إنما هو الموت الذي يرهب صمته قلوب الأعداء، ويجعل تلك القلوب تتلظى على نار الرهبة من مثل هذا الاستهانة بالحياة، ولكن ليس هذا كل ما في الأمر… لا…
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
وهذا البيت تلخيص كامل لفلسفة الجهاد منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا، والى ابد الآبدين، فلم يترك الشاعر مجالا لزائد يستطيع أن يزيد على هذا البيت معنى جديدا لمعنى الجهاد. لأنه حدد في بيته تفصيلا شاملا من- النفس الشريفة- فقط- غايتها الموت-أو الحياة الحرة- لا أكثر ولا اقل، ودون أي مهاترات للاصطلاحات السائدة حول مفهوم الجهاد، وما العيش…
وما العيش؟ لا عشت إن لم أكن
مخوف الجناب حرام الحمى
وان لم أكن كذلك، فكيف؟
إذا قلت أصغى لي العالمون
ودوى مقالي بين الورى
وهل القول يكفي؟ وماذا إذن لو واجه الشاعر الموت؟ أيفر هاربا؟
لعمرك إني أرى مصرعي
ولكن أغذ إليه الخطى
لان الموت لن يكون عبثا، بل هو غاية الغايات…
أرى مقتلي دون حقي السليب
ودون بلادي هو المبتغى
ولان الموت تضحية في سبيل الحق…
يلذ لأذني سماع الصليل
ويبهج نفسي مسيل الدما
وجسم تجندل فوق الهضاب
تناوشه جارحات الفلا
فمنه نصيب لطير السماء
ومنه نصيب لأسد الثرى
ولان الدم السائل هو دم الحق وروحه…
كسا دمه الأرض بالأرجوان
وأثقل بالعطر ريح الصبا
وعفر منه بهي الجبين
ولكن عفارا يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسام
معانيه هزء بهذي الدنا
ونام ليحلم حلم الخلود
ويهنأ فيه بأحلى الرؤى
هذا الموت، والشرف، والبقاء، والخلود، لمن؟ لكل أبي لا يحتمل الذل ولا يستمرئ الخضوع، ولكل من تهون الروح عنده من اجل إحراق العدو بلظاها وسعيرها…
لعمرك هذا ممات الرجال
ومن رام موتا شريفا فذا
فكيف اصطباري لكيد العدو
وكيف احتمالي لسوم الأذى!
أخوفا؟! وعندي تهون الحياة
وذلا؟! واني لرب الإبا
بقلبي سأرمي وجوه العداة
فقلبي حديد وناري لظى
واحمي حياضي بحد الحسام
فيعلم قومي باني الفتى
نعم، قد علمنا، وإنك لأي فتى!
أما قصيدته ” دعوة إلى الجهاد ” فسأثبتها دون أي تعليق، لتكون للقارئ كما يريدها، فقط على القارئ أن ينتبه للبيت الأول حيث يقول للشهيد…
دعا الوطن الذبيح إلى الجهاد
فخف لفرط غبطته فؤادي
ولقد كانت فرحة قلبه في لقاء ربه حين استشهد في معركة الشجرة عام 1948م.
دعوة إلى الجهاد
دعا الوطن الذبيح إلى الجهاد
فخف لفرط غبطته فؤادي
وسابقت الرياح- ولا افتخار
أليس علي أن افدي بلادي؟!
وقلت لمن يخاف المنايا:
أتفرق من مجابهة العوادي؟
أتقعد والحمى يرجوك عونا
وتجبن عن مصاولة الأعادي؟
فدونك خدر أمك فاقتعده
وحسبك خسة هذا التهادي
وللأوطان أجناد شداد
يكيلون الدمار لكل عادي
يلاقون الصعاب، ولا تشاكي
أشاوس في ميادين الجهاد
بني وطني! دنا يوم الضحايا
أغر على ربى ارض المعاد
وما أهل الفداء سوى شباب
أبي لا يقيم على اضطهاد
أثيروا للنضال الحق نارا
تصب على العدا في كل وادي
فليس أحط من شعب قصير
عن الجلى، وموطنه ينادي
فلسطين – مخيم طول كرم- 1976
تنويه:
استعمل الشاعر في قصيدته ” البطل الشهيد ” كلمة مأتم على معنى مناحة، والصحيح أن ” المأتم “: يذهب الناس إلى انه المصيبة، ويقولون: كنا في مأتم، وليس كذلك، إنما المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر، والجمع، مآتم، والصواب أن يقولوا: كنا في مناحة، وإنما قيل لها مناحة من النوائح لتقابلهن عند البكاء، يقال: الجبلان يتناوحان: إذا تقابلا، وكذلك الشجر، قال الشاعر:
عشية قام النائحات، وشققت
جيوب بأيدي مآتم وخدود
أي بأيدي نساء.
” أدب الكاتب” لابن قتيبة، تحقيق محمد الدالي، الطبعة الأولى، سنة1402ه، 1982م. مؤسسة الرسالة/ بيروت. ص ( 24 ).
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج