مقدِّمة: يقعُ هذا الدّيوان في 152 ص من الحجم المتوسط – صدرعن دار الوسط اليوم للإعلام والنّشر/ رام اللّه، وهو الدّيوان الرّابع الّذي تُصدرهُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان. استوحَتِ الشّاعرةُ هذا العنوان (أدَمْوِزُكِ تتعشترين) من الأسطورةِ السّومريَّةِ، مُمَثّلةً بإلهِ البحر (دموزي) حارسُ بوّابةِ السّماء، والمسؤولُ عن دورةِ الفصول ورمزُ الذّكورة. وأمّا (عشتار) فهي إلهةُ الجَمال والحُبّ والجنسِ عند البابليّين. في هذا الدّيوان الشّاعرة آمال متأثّرةٌ كثيرًا بنشيد الإنشاد لسليمان الحكيم (العهد القديم)، ففي سِفر الإنشاد المُحبُّ هو العريس، وهو المسيح حسب الشّرح والتّفسير اللّاهوتيّ المسيحيّ، والعروسُ هي الكنيسة، والسّيدُ المسيحُ هو زهرةً الشّعب اليهوديّ وسوسنةُ الشّعوب، جاءَ مِن البَرّيّةِ؛ أي مِن امرأةٍ بتولٍ لم يَمسُسْها رَجُلْ.
في هذا الدّيوان يوجدُ مزجٌ روحيٌّ بينَ العوالمِ الصّوفيَّةِ والمفاهيمِ الرّوحيّةِ المسيحيّة، ومِن مُنطلق شرح وتفسير نشيد الإنشاد بمنظارٍ ومفهومٍ لاهوتيٍّ مسيحيّ، فقصائدُ الدّيوان متواصلةٌ ومُتداخلةٌ ومُتسلسِلةٌ وكأنّها قصيدةٌ واحدة، وهي مستوحاةٌ ومُستمدَّةٌ مِن الأسطورة السّومريَّة.
في الدّيوان نجدُ التّحوّلاتِ في الخطاب الشّعريّ والرّؤيةِ الشّعريّة إلى خطى- ثلاثيّةِ الأبعاد؛ (صوفيٌّ، إسلاميّ،موروثٌ مسيحيّ يهوديّ وأسطوريّ)، والمناجاةُ بين الحبيب في نشيد الإنشاد شرَحَها علماءُ اللّاهوت المسيحيّ في حوارٍ بين المسيح وكنيستهِ – كما ذُكِرَ أعلاه، بيدَ أنّ هنالكَ مُفسرين آخرين يَشرحونَ نشيدَ الإنشاد ويُفسّرونهُ بشكلٍ مختلف، وينظرونَ إليه كأنّه مجرّد غزل محض، ليس فيه المعاني والأبعاد اللّاهوتيّة ونفحات التّصوّف.
ونجدُ تعلُّقَ النّفسِ الكليَّة بالذّات المُقدّسة في حوارها الشّعريّ؛ شوق الحبيب للحبيبة، ويُقابلهُ ويُكملهُ شوقُ الصّوفي للقاء ربّهِ، وكما جاء في نشيد الإنشاد كشوق العشيقة (كالتّفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين)، وفي نشيد الإنشاد تكونُ المعرفةُ باحتساء خمور المعرفة، وفي هذا الدّيوان الشّعريّ يتجلّى الأمرُ بمفهوم الزّهد والعبادة، فتقول (ص82): “أنَّى لِغابِرٍ في الزّهد.. أنْ تَتعفَّفَ بُرُوقُهُ؟”
النّصُّ الشّعريّ عند آمال عوّاد رضوان لهُ جماليَّاتُهُ، وصُورهُ، ولغتهُ الخاصّة، وإيقاعهُ الدّاخليّ والخارجيّ الأخّاذ، مع بُنيةٍ مُركّزةٍ تتّكئُ على افتراضيَّةٍ مُستفِزّةٍ للّحظة، وهي تعتمدُ على التّكثيفِ بالأسلوب الفنّيّ، مع إيحاءاتٍ في حقلِهِ الدّلاليّ فكريًّا ووجدانيًّا، ومع تعدُّدِ ظلالِ الرّؤية بوحدةٍ موضوعيّةٍ مُنسابة، وهذه هي المجموعة الرّابعة للشاعرة آمال عوّاد رضوان، وقبلها أصدرت ديوانها “بسمة لوزيّة تتوهَّج” عام (2005)، الدّيوان الثّاني “سلامي لك مطرًا” عام (2007)، و “رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ” عام (2015). وكان لي الشّرفُ في كتابةِ دراسةٍ مُطوّلةٍ لديوانها “بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهَّجُ”.
كتاباتُ آمال عوّاد رضوان تُعبِّرُ عن حالةٍ شعوريَّة وجدانيَّة، يتداخلُ فيها السّياقُ الجماعيُّ والجمعيّ، ونصوصُ هذا الدّيوان تُحلّقُ وتصولُ ما بين عوالم الإله (ديموزي) كرمز أسطوريّ حارسٍ لبوابة السّماء ومسؤولٍ عن دورة الفصول وعنصر الذّكوريَّة في الطّبيعة، وبين زوجتِهِ (عشتار) إلهة الجنس والحُبِّ والجمال عند البابليّين، ويُقابلُها (إنانا) عند السّومريّين، وأفروديت عند اليونانيّين، وفينوس عند الرّومان. إنّ (دموزي) و (عشتار) في فضاءاتِ الوجود يُشكّلان أسطورةً مميّزةً، بأبعادِها وأسرارِها الجماليّةِ المثيرة، وبأحداثِها المُؤثّرةِ الّتي انعكستْ علاقةً عاطفيَّةً عظيمة.
إنّ النّصَّ الشّعريّ عند آمال عوّاد رضوان يمتلكُ قدرةً تعبيريَّة رائعةً مُترعةً بالجماليَّة، مُتجرِّدةً ومُتحرِّرةً من المألوفِ والقوالب التّقليديّةِ الرّتيبة الجاهزة، مِن خلال ديناميكيَّةٍ مُكثّفةٍ وجديدة، وينمُّ عن هذا شاعرةٌ مُرهفةٌ تدركُ جيِّدًا بذاتها الشّفافةِ المبدعِة، والخلّاقةِ لتجربتها، والمدركة للواعجِها المُتوقِّدةِ عاطفيًّا ونفسيًّا، فنصوصُ آمال الشّعريّةُ هي ترجمةٌ صادقةٌ لمشاعرِها وأحاسيسِها ولواعجِها، ولانفعالاتِها وتفاعلاتِها الكيميائيَّةِ الدّاخليّة، مُشِعَّةً بالإبداع مِن خلال رؤيا عميقةٍ، ومِن خلال توطُّدِ أنماطٍ وتقنيّاتٍ فنّيّة، تعطي حياةً وحركةً نابضةً مُحرِّكةً للنّصّ، وفي طليعتها: 1* الرّمز. 2* أسلوب الاستفهام. 3* التّكراراللّفظي، وفيه يتحقّقُ التّوازن، ويخلق موسيقى شعريَّة.
الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان تُوظّفُ المجاز المعبّر عن لحظاتِ وسويعاتِ التّوهّج، وهي تُحلّقُ في الرّؤيا الشّعريّة، وتعكس القيمةَ الجماليَّة للرّوح الإنسانيّة، وتمتاز كتاباتها بالتّكثيف اللّغويّ والمعنويّ، وفي الصّور الشّعريّة المبطّنة والمُثخنة بالتّورية وببنية السّرد الشّعريّ، وهي تستخدم الطّاقاتِ الحسّيَّةَ والصّوتيَّةَ والعقليَّة.
وممّا يلفتُ النّظر في هذا الدّيوان ان الشّاعرة اختارت ضمير المخاطب المؤنّث بشكلٍ مُستمرّ، وكان عاملًا مُوحّدًا إضافيًّا، على اعتبار أنّ المجموعةَ كأنّها قصيدةٌ واحدةٌ متواصلةٌ ومتسلسلة، وكأن الّذي كتبَ نصَّ هذه المجموعة (الملحمة) هو شاعرٌ وليست شاعرة، وقد استطاعتْ وبكلّ لباقةٍ وفنّيّةٍ هذه الشّاعرةُ الأنثى في عصرٍ ومجتمعٍ ذكوريٍّ محض، أن تتجسَّدَ وتتقمّصَ صوتَ الرّجل وروحَهُ وضميرَهُ، وتنطقَ بلغتهِ وأسلوبهِ وطابعِهِ وميزتِهِ، مِن غير أن تُظهرَ الأنثى الشّاعرةَ ورقّتها، ولا يبدو ضعفُها وخضوعُها وتبَعيَّتَهَا.
لقد أثبتت الشّاعرةُ القديرةُ آمال عوّاد رضوان قدرتَها ولباقتَها، على التّحدّثِ بلغةِ وأسلوبِ وروح الشّاعرِ العاشق، وعبّرتْ عن ميولِها ورغبتها أن يكونَ تعبيرُها هو لغة الشّعراء، وفي صدى وإيقاع الصّياغة الشّعريّة، وبشكلٍ عفويٍّ تلقائيٍّ هي تُقدّمُ رسالةً جماليَّةً للشّعراء، مفادها كيفيّة خطاب الأنثى، وذلك ليرتقيَ ويرتفعَ ويَسموَ الشّعراءُ بمحبوباتِهم وعشيقاتِهم إلى مصاف (عشتار) النّموذج، وللمثال الإلهيّ الرائع المترع والممتلئ بالحبّ والحياة والجمال. تقول الشّاعرة:
“وَمَا زِلْتُ فِي حَوْزَةِ مَاضِيكِ/ أَلُوذُ بِنَبْضِكِ/ ويُشِعُّكِ/ بَيْنَ اعْوِجَاجِ أَضْلُعِي”
ولكي يكونَ نبضُ الاسطورةِ ناجحًا، يجب أن لا يوصفَ بمجرّد المفردات والتّعابير والمعاني الأسطوريّة، بل يجب أن يُوظّفَ كقيمةٍ فنّيّةٍ جماليَّة، وبشكلٍ متناسقٍ ومتناغم، وينطبقُ مع واقعِنا اليوم، فالأسطورةُ هي وسيلةٌ للوصول إلى المطلوب والمعنى والهدف المنشود.
في هذا الدّيوان نجدُ الكثيرَ من الاستعارات والتّشبيهات البلاغيّة الجديدة المبتكرة، والصّور الشّعريّة الحديثة والخلّابة، ومثالٌ على ذلك في هذه الجمل واللّوحات الشّعريّة الفنّيّة (ص95):
* “منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ”/ *”لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!”/
* “وَهَا مُرُوجُ تَمُّوزَ.. هَاجَتْ أَثْدَاؤُهَا/ عَلى امْتِدَادِ مَجْهُولٍ.. أَرْضَعْــتِـنِـيهِ!”
* “رُؤى مَرَابِطِي”، * “لُعَابُ نُورِكِ”، * “مَضَائِقِ كِبْريَائِي”، * “إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!”،
* “لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ؟”، * “عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ”، * “عَلَى شِفَاهِي الْمَبْتُورَةِ”، * “كَيْفَ غَصَصْتُ بِقُبْلَتِكِ؟”.
وتستعتملُ الشّاعرةُ أيضًا العديدَ من الكلماتِ الفصحى الجميلة الّتي لا يفهمُها كلُّ شخص، مثل: * “أَسْمَالُ طُفُولَتِي تَرْتَجِفُ.. تَرْتَعِدُ” (ص122). و “ضَمِّخِينِي.. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ” (ص124) حيث تقول: “أَنَا مَنْ ضَمَّخَنِي حَصَى فَرَاغِي”.
إنه لتشبيه واستعارة جديدة لم تستعمل من قبل إطلاقا. وتقول (ص25):
* “وَاغْسِلِي صَخْرَ قَلْبِي/ بِزَيْتِ حُبِّكِ.. بماءِ عَفْوِكِ”، وهذه الفكرةُ مستوحاةٌ ومُستمدّةٌ من الدّيانةِ المسيحيّةِ واليهوديّة- (المعموديّة والطّهارة).
وتستعمل الشّاعرةُ أل التّعريف بدل الاسم الموصول في العديد من الجُمل الشّعريّة في هذا الدّيوان.. وأمثلة على ذلك،مثل:
* “صُورَتَكِ الْـــــ.. تُـــثِــــيـــرُ فِيَّ كُــــلَّ حِــــرْمَــــانِــي” (ص 11)، بدل (صورتُكِ الّتي تتثيرُ فيَّ كلَّ الحرمان).
* “وَمَا نَسِيتُ غُزْلَانَكِ/ الْـ.. تَنْبِضُ بِرِقَّتِي الْحَالِمَة!” (ص13)
* “فَتَشْتَعِلِينَ خَفْقًا/ كَحَالِ قَلْبِي.. الْــ تَمَسُّهُ أَطْيَافُكِ!” (ص24).
* “غِـــمَـــارُ أُنُـــوثَـــتِـــكِ الْــ أَشْـــتَـــهِـــي” (ص31)، وهذه الجملة قد تُفهَمُ وتفسَّرُ خطأً من قِبلِ بعض النّقّاد أو القرّاء، وكأنّ فيها إيحاً جنسيًّا، وهي بعيدةٌ كلّيًّا عن هذا الموضوع وهذا المجال، وتتحدّثُ عن الخصوبةِ والثمار ودورة الطبيعة والحياة.
* “أَيَّتُهَا النَّشْوَةُ الــ.. تَسْــ.. كُـــــنْ/ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ”.
و “لَا تَغْفِلِي.. عَنْ نَايَاتِي/ الْــــ لَهَا.. عَطَشُ الْحَاجَاتِ!” (ص66).
* “وَكُونِي غَزَالَتِي/ الــْ لَمْ يَزَلْ.. طَـــعْــــمُـــهَـــا/ عَلَى لِسَانِي!” (ص86)؛ أي الّتي لم يزل طعمها.
* “آهٍ مِنْ طُفُولَتِكِ الْــ تَتَشَاقِينَهَا بِي” (ص132)، أي الّتي تتشاقينها.
* “أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!” (ص 104)، أي الّتي يوسوسها السّوس… وفي هذه الجملة جناس غير تام.
* “أَيَا مَنْفَايَ الْــ يَتَوَارَى.. خَلْفَ حَنِينِي الْغَافِي!”، بدل (الّذي يتوارى ) (ص106).
* “أَيَا يَنْبُوعَ الْمُضِيئَاتِ/ اِغْفِرِي لِيَدِ عَبَثِي الْــ وَأَدَتْ/ خَفَقَاتِ عُمْرِي.. مِيزَانَ شِعْرِكِ/ ونَبَضَاتِ حُزْنِي.. شَقِيقِ فَرَحِكِ!” (ص113).
* “يَنْهَشُ غَمَامَ عيْنِي الْـ تَحَجَّبَتْ” (ص118)
* “أَلَا أيْقِظِي جَدَاوِلَ نَوْمِي../ الْــ يَغْرَقُ فِي شَيْبُوبَتِهِ!” (ص121).
قاموس آمال عوّاد رضوان الشّعريّ غزيرٌ،حافلٌ وزاخرٌ أيضًا بالكلمات الفصحى الجميلة، مثل: زمهرير؛ (أي البرد الشّديد القارص)، و(يتسربل؛ أي يرتدي ويلبس)- فتقول (ص107):
* “أَعْتِقِينِي مِنْكِ/ مِنْ إِغْرَاءَاتِ أَوْهَامِي/ مِنْ زَمَهْرِيرِ أَحْزَانِي!”..
وهذا تشبيهٌ جديدٌ ومبتكر، لم يستعملهُ شاعرٌ مِن قبل. ومثل كلمة (جحافل؛أي الجيوش الجرّارة)، وكلمة (يُضَمِّخ)، و (يشرئبُّ)، و (اضمحلال)، و (يتأجّجُ) وإلخ…
وتستعملُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان التّكرارَ اللّفظيَّ، أو تكرارَ أحد الأحرف في نفس الكلمة، لتضيفَ للجملةِ والعبارة الشّعريّةِ تصويرًا للكلمة، وتُضفي جمالًا وسحرًا ورونقًا موسيقيّا، أو لتؤكّدَ على معنى معيّن، أو لتوضيح الصّورة والمشهد الشّعريّ الدّراميّ للقارئ، وبشكلٍ فنّيّ تقنيٍّ ذكيٍّ ومُحكم.. وأمثلة على ذلك، مثل:
* “فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُووووووحُ” (ص12). يتكرّر حرف الواو هنا خمس مرات.
* “آااااهٍ.. كَمْ تَشَهَّيْتُكِ” (ص28). يتكرّر حرفُ الألِف 4 مرّات في كلمة آه.
* “آااهٍ لَوْ تَعْلَمِينَ/ كَمْ يَشُوقُنِي يَنْبُوعُ قُبَلِكِ/ اِسْـقِــنِـيـهَـا.. اِرْوِنِـيـهَـا” (ص 10).
حيث تكرّر الحرف الأول (آ) للتأكيد على المعنى والحالة النّفسية والحسرة..
* ” آآآآآآآآآآه/ نَشْوَةُ آهَتِي الْمَكْتُومَةُ/ مُتْخَمَةٌ.. بِلَدْغَاتِ تَجَاهُلِكِ!” (ص39).
يتكرّرُ حرفُ الألف في كلمة (آه) عشر مرات، وتدلُّ وتشيرُ الكلمة هنا في هذا التّكرار الحرفيّ إلى ذروةِ وقمّةِ تفاقم النّشوة الحارقةِ والمتأجّجةِ والمكتومة..
* “وَيْحِي/ إِنْ كَفَّتْ رُوحِي عَنِ التَّشَظِّي/ فِي مَدَااااااااكِ الْبَعِيــــــــــــــــــــــــدِ” (ص 70).
وتستعملُ في العديد من الجمل كلماتٍ مُفكّكةَ ومُبعثرةَ الأحرف أفقيًّا وعموديًّا، لتُشير إلى الوضع والحالة النّفسية، ولتؤكّدَ المشهدَ الدّراميَّ وغيرها أيضًا، مثل:
* “لَكَمْ يَسْتَهْوِينِي/ تَــ فْـــ كِـــ يـــ كُـــ كِ/ قَبْلَ أَنْ أُعِيدَ إِلَيَّ.. لُـــحْـــمَـــتَـــكِ” (ص29).
وأيضًا مثل جملة: * “بَعْثِرِي شِـــ فَـــ ا هِـــ ي/ عَلَى ضِفَافٍ.. تَلْتَهِبُ بِنبوغِ الْقُبَلِ!”.
ويشعرُ القارئ ويحسُّ بالفعل عندما يقرأ هذه الجملة الشّعريّة، كأنّ الشّفاهَ مُفكّكةٌ بحسب طلبها وأمرها، لأنّ كلمةَ (شفاه) كُتبتْ مُفكّكة ومبعثرة وكلّ حرفٍ لوحده، ويُدخلُ إلى نفسيّة المتلقّي (القارئ) نوعيّةَ المشهد وجوَّهُ والحالةَ النّفسيّة، وأنّ الشّفاهَ مبعثرةٌ ومفكّكة..
وأمثلة أخرى من هذا الدّيوان على كلماتٍ كُتبت أحرفُها مُفكّكة ومبعثرة مثل:
* “أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ../ بَــ ~~ يــْـ ~~نَ../ وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ../ بَــ ~~ يــْـ ~~نَ../ جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!” (ص4)
* “قَلْبِي الْــــ يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ بِكِ/ حينَ../ يَـ~~جْـ~~ـمَـ~~ـحُ../ شَجْوًا” (ص5)
* “وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً/ أَ~ تَـــ~لَــــ~وَّ~ى/.. وَ../ أَ ~ تَـــ~ لَــ~ وَّ~ عُ/ فِي قَفَصِ النِّسْيَانِ!” (ص48).. أي أتلوَّى وأتلوَّع.
* “أَيَّتُهَا النَّشْوَةُ الــ.. تَسْــ.. كُـــــنْ/ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ” (ص56).
* “فَلَا تَقْلِبِي.. ظَهْرَ النَّهْرِ/ وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا/ دَعِيهِ يَــــجْــــرِي/ لِأُتَــوِّجَــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ” (ص62).
وتستعملُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان الكثيرَ من علاماتِ السّؤال وعلامات التّعجب في نهاياتِ
الجُمل، فوُضِعَتْ وَوُظّفَتْ بشكلها الصّحيح الجميل والفنّيّ، تفيدُ الفحوى والمعنى المنشود، وتضيفُ رونقًا وجماليّةً خاصّةً ومميّزةً للجُمل الشّعريّة، ولا تخلو صفحةٌ واحدة في الدّيوان دون وضع بضعة علامات تعجّب واستفهام.. وأمثلة على ذلك مثل:
* “كَأَنَّ حُبِّي وَهْمٌ.. كَإِلهٍ/.. إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟!”(ص6)
* “أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!” (ص7)
* “وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ/ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ!” (ص7)
* “فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ/ عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح!” (ص9)
* “وَأَظَلُّ فَضَاءَكِ الْمُشَرَّعَ../ عَلَى قَيْدِ الاشْتِعَالِ!” (ص11)
* “فَلَا أَغْدُو فَرِيسَةً لِمَجْهُولٍ/ يَصْطَادُنِي فِي غَفْلَةٍ؟” (ص16).
* “لَا تُدْخِلِينِي.. فِي طُقُوسِ الاعْتِرَافِ/ حَيْثُ تَبُثِّينَ الرَّمِيمَ../ بِنَارِ الْحَيَاةِ!” (ص29)
* “دَحْرِجِي النُّورَ/ عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!” (ص41)
* “مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِ الضَّاحِيَةِ/ تُطِلِّينَ.. بِحَيَاءِ ضَحِيَّة!/ إِلَامَ تُقَدِّسُنِي خَطِيئَتِي؟/ إِلَامَ تُؤَلِّهُنِي حَمَاقَتِي؟” (ص43).
ونجد هنا التّشبيهَ النّقيضَ أو المعاكس، أي المشبَّه والمشّبه به متناقضان ومتعاكسان، ولا يوجد أيّ رابطٍ أو شبهٍ بينهما (سلبيّ وموجب).
* “رُحْمَاكِ/ لَا تُضَيِّقِي آهَاتي.. بِانْحِسَارِ دَهْرِي!” (ص57)
* “يَا مَنْ تَفُوحِينَ عِطْرَ رَبِيعِكِ صَبَابةً/ إِلَامَ تُقَلِّدِينَنِي مَحَارَاتِ سُهْدِي؟/ إِلَامَ تُؤَلِّقِينَنِي مَزْهُوًّا.. بِصَفْعِ عِنادِكِ؟” (ص61).
* “أَتَطَالُنِي آلِهَةُ حُزْنِي.. فِي مِصْيَدَةِ الْعَبَثِ!/ أَأَعْتَصِمُ بِلِقَاءِ الصُّدَفِ.. أَمْ بِسَطْوَةِ لَهْفَتِي؟/ كَيْفَ
أَقْمَعُ خَرِيفِي.. بِأُغْنِيَةِ الْمَطَرِ؟/ أَتَخْلُو قَوَادِمُ الْأَيَّامِ.. مِنْ لَهْفَةِ اشْتِهَاءٍ؟” (ص63).
* “رُحْمَاكِ/ أَلْبِسِينِي زُرْقَةَ الْحَيَاةِ.. فِي أَوْطَانِ مَائِكِ النَّمِيرِ!” (ص68).
* “أَيَا أَيَّتُهَا الْفَاتِكَةُ بِي/ أَنَّى أَتَحَمَّلُ ذُنُوبَ فَوَاحِشِ حَرْفِكِ؟/ مُذْ غَادَرَتْنِي.. غُدْرَانُ مُحَيَّاكِ/ انْطَفَأَتْ.. ذُبَالَاتُ عَيْنَيَّ!” (ص75).
* “أَتُنْبِتُ مَوَانِئُ الْعَتْمَةِ آمَالًا../ فِي حَقَائِبِ الْهَجِيرِ؟” (ص85)
* “فهَلْ أَتَعَثَّرُ بِيَنَابِيعِكِ.. لِتَرْثِيَ خَوَاطِرِي الْمُتَكَسِّرَة؟” (ص89).
* “فَـقَــطَــفْــتِــنِـي اشْتِعَالًا/ وَأَطْــفَــأْتِــنِــي أَقْمَارًا مُتَكَسِّرَةً/ لكِنْ.. كَيْفَ أَتْــقَــنْــتِــنِـي جُنُونَ أَبْجَدِيَّةٍ؟” (ص91).
* “منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ/ لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!” (ص95).
* “يَا مَنْ لِحُضُورِكِ الْبَذْخُ/ كَحُضُورِ مَلِيكَةٍ كِنْعَانِيَّةٍ/ كَأُسْطُورَةٍ.. فِي خَيَالِي تَتَبَخْتَرُ/ مِنْ حَوْلِكِ مَلَائِكَةٌ تَتَمَخْتَرُ/ فِي سُبْحَةِ تَرَاتِيلِكِ/ وَرُوحُكِ تَتَجَلَّى.. فَوْقَ يَاقَةِ حُلُمِي!/ أَحُرَّاسُكِ شُدُدُ؟/ أَتَحْرُسِينَكِ مِنِّي.. أَمْ تَحْرُسِينَنِي مِنْكِ؟” (ص102).
* “كَمْ أَتُوقُ إِلَى مَنَابِعِكِ/ لِأَرْوِيَ تَارِيخًا..مِنَ الْعِشْقِ الْمَكْنُونِ!” (ص111).
* “أَلَعَلَّ قِيثَارَةَ الْبَنَفْسَجِ/ تَتَسَايَلُ شَذًى مَسْحُورًا؟” (ص112).
* “وَقْتِي يَصْحُو مُعْتِمًا/ يَشِيبُ بِعِنَادِكِ/ وَلَيْلِي يَتَقَصَّفُ/ مُتَبَرْعِمًا بِيَأْسِي الْأَزَلِيِّ!” (ص115).
* “كَمْ حَنَّ خَيَالِي الْمَهْجُورُ!/ مَا انْحَنَى هَيْكُلُهُ/ وَبَوْحُ نَايِي الرَّشِيقِ/ مَا شَاخَ أَنِينُهُ!” (ص119) إلخ…
وتُكثرُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان من استعمال الفواصل على شكل نقطتين بجانب بعض (..)، وتُوظّف في هذا الدّيوان الكثيرَ من الصّور الشّعريّة الخلّابة، والاستعاراتِ البلاغيّة الحديثة والمبتكرة وبشكل مكثّف، فديوانها حافلٌ وزاخرٌ بالصّور الشّعريّة، وبالاستعارات البلاغيّة الجديدة والمبتكرة الّتي لم يستعملها أحدٌ من قبل، وبالمصطلحاتِ اللّغويّة الجديدة، وأمثلة على ذلك مثل:
* “ففِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!” (ص7).
* “أَنَا.. مَنِ امْتَطَتْنِي وحْشَةُ الْفَقْدِ/ لَمَّا أزَلْ/ أُسَبِّحُ.. سِحْرَ سُكُونِكِ/ مَا نَسِيتُ.. ذَاكِرَةَ عُشْبِكِ الْمُقَدَّسِ/ حِينَ يَسْتَحِيلُ.. لِصَرْخَةٍ فَرِيدَةٍ!” (ص13).
* “سَلَامًا مُدَلَّهًا.. أَعْصِرُنِي/ لِنُورِكِ الْبَهِيِّ/ يَتَأتَّانِي.. مِنْ مُحَيَّا أَتَعَشَّقُهُ/ لَهُ فِي جِرَارِ الْقَلْبِ/ أَلْفُ مَعْنًى.. وَ.. أَلْفُ مَغْنًى!” (ص18).
* “أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ دَعِينِي.. أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ/ أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ/ لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ” (ص24).
* “رُحْمَاكِ/ فِي طَوَاحِينِ خَفْقِكِ الْمَخْنُوقِ/ أَبْجِدِينِي.. بِجُنُونِكِ!” (ص36).
* “يَا الْمُتَسَلِّلَةُ.. كَشُعَاعٍ وَحْشِيٍّ/ إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي/ ضَمِّخِينِي.. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ/ دَحْرِجِي النُّورَ/ عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!” (ص41)
ويبدو هنا بوضوح تأثُّر الشّاعرة بسِفر نشيد الإنشاد لسليمان الحكيم.
* “بَوْحِي.. وَرْدٌ جَرِيحٌ/ عَلَى سِيَاجِ رَبِيعِكِ/ لَا يَحُدُّهُ نَزْفٌ/ وَلَا يَلُفُّهُ وَدْعٌ.. وَلَا حَتْفٌ!/
وَأَنْتِ وَدْعِي وقَدَري!/ أَنْتِ وَدَعِي وَسَكَنِي!/
وَكَنُبُوءَةٍ وَادِعَةٍ../ فِي تَمَامِ الْأَزْمِنَةِ/ تَبْعَثِينَني شَهْوَةً/ فِي لُغَتِكِ الْيَانِعَةِ!” (ص45).
* “أَيَا مُهْرَةَ بَوْحِي/ حَلِّقِينِي إِشْرَاقَةً.. تَجْثُو فِي السَّحَر/ لِأَتَشَدَّقَ بِفِيكِ.. برَغْوَةِ مُرَاوَغَتِكِ/ ولِتَشْرَئِبَّ شِفَاهِي اللَّهْبَى ظَمَأً/ لِعَطَشِ أَلْسِنَةِ لَهَبِكِ/ فَمَا أَرْوَعَكِ.. أَيَا مَاهِرَةَ الْبَوْحِ/ أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً.. وَلَا أَرْتَوِي” (ص52).
* “غمَامًا روحيًّا.. تَتَشكّلينَ/ فِي وَاحَةِ أشْجَانِي/ وأَبَدًا/ مَا كَانَ جَمَالُكِ.. إِلَى اضْمِحْلالِي” (ص53).
* “أَرْغِفَةُ عُمْرِي../ قَدَّدَهَا غُبَارُ أَحْلَامِي!/ كُؤُوسُ جَوَارِحِي.. تَنَاهَبَتْنِي/ فِي دَهَالِيزِ اللَّحْظَةِ!/ وَقَوَافِلُ نبضي.. تَمْضِي مُثْقَلَةً بِشُحِّهَا” (ص58).
* “يُسَاهِرُنِي اللَّيْلُ../ يُرَاقِصُ زَنَابِقَ أَحْلَامِي/ يُدَغْدِغُ مَكْنُونَاتِ رُوحِي/ وَأَتَثَاءَبُنِي.. انْسِكَابَ خُمُورٍ/ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا/ إِلَّا مَنْ نَادَمَ كُؤوسَ أَبْجَدِيَّتِكِ!” (ص74).
* “وَلَمَّا تَزَلْ تَنْسَلُّ.. خُيُوطُ قَلْبِي شَاحِبَةً/ فيَكِرُّ وَجْهِي.. جَمَالَكِ/ ويَتَسَلَّلُ إِلَيَّ.. ضَبَابُ اللِّقَاءِ/ وَأَخْـــشَــعُ سَــاجِــدًا/ حِينَ تَتَدَلَّى ضَفَائِرُ آمَالِي!” (ص76).
* “يَا مَنْ تُفَتِّقِينَ أَكْمَامَ الْبَرْدِ/ بِلَفْتَاتِكِ الْـ.. تَـــثْـــقُـــبُـــنِــي/ كَعُصْفُورٍ كِرْكِسِيٍّ.. مُغَرِّدًا أَنْبَثِقُنِي/ أَتَسَرْبَلُ نِدَاءَكِ/ حِينَ تُسْدِلِينَ.. زَقزَقاتِ حُرُوفِكِ الْمَائِيَّةِ/ عَلَى جِذْعِ لَيْلِي الْمُجَوَّفِ/ وَأُورِقُ.. بِمِيلَادِ طِفْلَةِ الرُّوحِ!” (ص76).
* “أَجْهَشَتْ رَقْصَةُ زُورْبَا.. تُحَاكِي أَطْلَالِي/ تُجَبِّرُ مَا بَطُنَ مِنْ كُسُوري/ فِي هَوَامِشِ خَطوي!” (ص83)… وتوظف الشّاعرة هنا شخصيّة زوربا.
* “زِئْبَقُ الْمَسَافَاتِ يَزُفُّ هَمْسِي/ يَثُورُ وَلَهًا.. يَفُورُ شَغَفًا/ يَتَوَغَّلُ فِي رُكُودِ حِكَايَةٍ جَامِحَةٍ/ وَلَا يَخْنَعُ.. لِمَا بَطُنَ مِنْ جِرَاحِي!” (ص92)، وقد تعني هنا المسافات الطّويلة الّتي لا تحسُّ وتشعر بها، وتختفي وتتلاشى كأنّها عنصر الزّئبق.
* “أَترَاكِ تُمْعِنِينَ فِي فَتْكِي/ وَفَكِّ عَقَارِبِ وِصَالِنا الْقُرْمُزِيِّ؟” (ص93).
* “أَكَأَنَّمَا../ عَجَّتْ أَنْفَاسُ الْمَاضِي الْمَثقُوبِ/ بصَرَخاتِي الْمُنِيفَة؟/ أَيَا غَزَالةَ النَّدَى/ ها ظَمَئِي.. لَمَّا يَزَلْ يَسْتَعِرُ بفُيُوضِكِ النَّوْرَانِيَّة!/ أَنَا مَنِ احْدَوْدَبَ لَهِيبُ أَدْغَالِي.. مُذْ فَطَمَتْهَا نِيرَانُكَ/ مَا تُبْتُ عَنْ ظَمَئِكِ
الْمُدَّخَرِ!” (ص93).
ويبدو هنا بوضوح الصّور الشّعريّة الجميلة والحديثة، والتّعابير والاستعارات البلاغيّة المبتكرة
الّتي لم يستعملها أحدٌ من قبل.
* “منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ/ لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!/ وَهَا مُرُوجُ تَمُّوزَ.. هَاجَتْ أَثْدَاؤُهَا/ عَلى امْتِدَادِ مَجْهُولٍ.. أَرْضَعْــتِـنِـيهِ!/ فِي رُؤى مَرَابِطِي/ تَفَشَّى سَيِّدُ الرَّحِيلِ الصَّاهِلِ!”
(ص95).
* “لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ/ حِينَ هَشَّـتْهَا أَنْفَاسُ (أُحُبُّكِ)؟”(ص96).
* “بِلَيَالِي عَطْفِكِ الشَّمْعِيِّ/ تَضَافَرْتُ.. جَدَائِلَ أَحْلَامٍ مُتَكَسِّرَةٍ” (ص98).
* “دَعِينِي أَلْتَحِفُ.. بِرَوَافِدِ أَسْرَارِكِ/ لأَزْدَانَ بِحَمَائِمِ نَقَاوَتِكِ!” (ص106).
* “بِتَجَاعِيدِ نَدَاكِ/ أَمْتَطِي خُيُولَ خَيَالِي( (ص110).
* “عُذْرِيَّةُ سُيُولِي/ أَضْنَتْهَا مَلَاحِمُ شَفَقِكِ الْنّاعِسِ” (ص112).
* “من مواقدِكِ/ أستمدُّ دَيْمُومَة التّوَقّدِ.” (ص114).
* “وَقتي يصحُو مُعتمًا.. يشيبُ بعنادِكِ/ وليلي يتقصَّفُ.. مُتبرعمًا بيأسي الأزليّ!” (ص115) تعطينا الشّاعرة هنا صورة شعريّة جديدة لليأس.
* ” أأهابُ دَيْنونة التّمَرُّدِ؟؟” (ص114).
* “هَدْهِدي أهدابَ سُحبي.. بدمعةِ شمسِكِ !” (ص120).
* “أنا المُكبَّلُ بتبرِ روحِكِ” (ص124).
* ” وَكَمِثْلِ خَلَاخِيلِ وقْتِي الْجَرِيحِ/ غَدَتْ تَعْزِفُنِي أنْفَاسِي!” (ص127).
* “لِمَ أَعْشَاشُ ذِكْرَاكِ .. فَاضَتْ عَارِيَةً/ زَاهِدَةً .. عَنْ فِرَاخِي الْجَائِعَةِ؟” ( ص 140).
* “هَا انْسَابَ لُعَابُ نُورِكِ/ في مَضَائِقِ كِبْريَائِي”. و *”يُجَرْجِرُنِي.. إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!”، و *”لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ؟”، و *”أَنَّى يَشِينِي مَوْجُكِ الْغَافِي/ عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ؟”، و *”أَنْدَهِشُ وَأَنْذَهِلُ/ كَيْفَ غَصَصْتُ بِقُبْلَتِكِ؟”
وتستعملُ الشّاعرةُ آمال وتُوظّفُ في ديوانها أيضًا الكثيرَ من المُحسّنات اللّفظيَّة والبديعيَّة، وخاصّةً الجناس، مثل:
* “برَغوةِ مُرَاوَغتِكِ”، و *”لتشرئبَّ شفاهيَ اللّهبى” (ص 52).
* “حِينَ تُوَشْوِشُنِي أَهْوَاءُ أَمْوَاهِكِ/ يَلْهَجُ نَبْضُ مَدَاكِ حَيَاةً” (ص99).
* ” أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!” (ص104)
* “أَبِمَائِكِ أَتَحَمَّمُ وَأَحْتَمِي!” (ص127)، وهنا جناس غير تامّ، ولكن كلمة (أتحمَّمُ) غير صحيحة من ناحية لغويّة، وقد وقع في هذا الخطأ الشّاعر والأديب المهجريّ الكبير والعالميّ جبران خليل جبران في قصيدته المواكب حيث يقول: “هل تحمَّمتَ بعطرٍ وتنفستَ بنور”، والصّحيح هو: هل
(استحممت وليس تحمَّمتَ. (نقول: استحمَّ ويستحمُّ وليس تحمَّم و يتحمّمُ).
* “بِتَجَاعِيدِ نَدَاكِ/ أَمْتَطِي خُيُولَ خَيَالِي”(ص110).
* “تتلهَّى بغيِّهَا.. تتغاوى برغوةِ عشقي” (ص113)، جناس غير تامّ.
* “هَا الْمَجْهُولُ الدَّاهِمُ.. يُزَقْزِقُ/ ومَا عَادَتْ أَنْغَامُ الْغَمَامِ.. تَلْكُؤُهُ!” (ص122).
ويبدو هنا بوضوح قدرةُ الشّاعرةِ وعبقريَّتُها الشّعريّة وذكاؤُها، في اختيار الكلمات المعبّرة والهادفة بشكلٍ يعطي المعنى الحسّيّ والذّهنيّ الدّقيق، ويوصِل الرّسالةَ والفحوى للقارئ بشكل صحيح وكامل تقنيِّ وفنّيّ مميّز.
وتستعملُ في هذا الدّيوان وفي غيره من دواوينها الأخرى الفعل بصيغة الأنا، أي أنَّ الشّخص نفسه يقوم بالأمر وبإلقاء العمل على نفسه، وهذا الاستعمالُ اللّغويّ والنّحويّ جديدٌ ودخيلٌ على اللّغة والأدب العربيّ ومنذ فترة قصيرة، والقلائلُ من الشّعراء العرب الحديثين والمجدّدين الّذين يستعملونه، ويتوكّؤون على هذا النّمط كلونٍ وشكلٍ من التّجديد في اللّغة – محلّيًّا وفي العالم العربيّ، وقد يكون غير مستحبٍّ وَمُحبَّذ لبعض الشّعراء والأدباء، ولكن إذا استُعمِلَ بشكل صحيح وفنّيّ، وليس بشكلٍ مكثّفٍ ومُملٍّ، يكون جميلًا شكلًا وأسلوبًا، وعلى سبيل المثال في هذا الدّيوان، مثل:
* “هَاءَنَذَا أَتْرُكُنِي لَكِ قَلْبًا سَاخِنًا/ عَلَى عَتَبَةِ لِقَائِنَا” (ص 99)، أي أَتركُ نفسي لك قلبًا.
* “عَلَى حَافَّةِ الْمَسَاءِ.. غَادَرْتُنِي” (ص127)، أي غادرت أنا نفسي بنفسي
وتستعملُ أيضًا التّشبيهَ العكسيَّ والنّقيض، فلا يكون هنالك أيُّ وجهٍ للشبه أو أي تقارب بين المُشبَّه والمُشبَّه به، أي عكس التّشبيه المباشر والواضح الّذي يكون كالتّصوير الفوتوغرافيّ المحض، والّذي ينتَهجُهُ ويتقيّدُ به معظمُ الشّعراءِ العرب منذ الجاهليّة إلى الآن.
وفي العصر الحديث أصبح العديدُ من الشّعراء العرب المجدّدين، والّذين يسيرون في ركْب الحداثة، يبتعدون عن القوالب الشّعريّة التّقليديّة الجاهزة، وعن التّشبيهاتِ والاستعارات البلاغيّة المتسعملة والمستهلكة الّتي أكل الدّهرُ عليهَا وشرب، وبدؤوا يتعَمَّقُون في الفحوى والجوهر، ويبتكرون الكثيرَ من الصّور الشّعريّة، والاستعاراتِ البلاغيّة، والمُحسّناتِ اللّفظية الجديدة، وخاصّة في مجال التّشبيه، حيث لا يكون هنالكَ تصويرٌ واضحٌ ومباشر، ممّا يصعبُ على القارئ البسيط تحليلَ الصّورة الشّعريّة وفهمها بشكل عميق وشامل.
ويوجدُ العديدُ من شعراءِ الحداثة في العصر الحديث على هذا النّمط، وأمّا في العصور السّابقة فربّما يكون امرؤُ القيس الكنديّ أولَ من جدّد في هذا المجال وابتكرَ، فابتعد عن السّطحيّة والتّشبيهات البسيطة المباشرة والواضحة، وتفنّنَ بكلِّ معنى الكلمة في استعمال تشبيهات وصور واستعارات بلاغيّة لم يستعملها شاعر من قبل، وفي الكثير من الأحيان لم يستعمل أدوات التّشبيه، واستعملَ التّشبيهَ والصّورةَ المعاكسة والمناقضة، وأبدع في هذا المجال أيُّما إبداع، وهنالك من النّقاد والأدباء الأجانب الكبار مَن شبَّهَ امرؤ القيس بالشّاعر العالميّ وليم شكسبير.
يقول امرؤُ القيس مثلا: “وليلٍ كموج البحر ِأرخى سُدوله عليَّ/ بأنواع الهُمومِ ليبتلي/ فقلتُ لهُ لمَّا تمطّى بصلبهِ/ وَأردفَ إعجازًا وناءَ بكلكلِ”
امرؤُ القيس يشبّهُ اللّيلَ بموج البحر، وقد أرخى سدوله، وهو أول شاعر عربيّ استعمل هذا المصطلح (أرخى اللّيلُ سدوله)، ويُشبِّهُ اللّيلَ أيضًا بالجَمل، مع أنه لا يوجد أيُّ قاسم مشتركٍ، أو أيُّ وجه شبه بين اللّيل وموج البحر والجمل، وهو أيضًا أول من استعملَ هذا التّشبيه (مِكرٍّ مِفرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ)… وفي كلمات متناقضة.
ومثال على ذلك من ديوان الشّاعرة القديرة آمال عوّاد رضوان حيث تقول:
* “ما أحيلاهُ مُرَّكِ” (ص100) – النّقيض – المر والحلاوة.
* “ألبسيني أدغالَ سماواتِكِ” (ص 104). المعنى الشّكليّ للكلمتين متناقض، فالأدغال ترمزُ وتشيرُ إلى العتمة، وللمتاهات، وللشّرّ، والصّراع وللأماكن الخطرة. والسّماءُ ترمزُ للنّقاءِ، والصّفاء، والسّلام والعدالة المطلقة.
* “خطيئتي المُقدّسة” (ص 106).. ويبدو النّقيض – القداسة والخطيئة.
* “تُخلّدُهُ نارُكِ.. ولا يؤُولُ إلى رماد” (ص 114).
* “فاضتْ كفِّي المَثقوبةُ” (ص120). * “نهاركِ الكفيف” (ص 127).
وتستعملُ في هذا الدّيوان بعض المصطلحات والجمل التي لا يفهمها القارئُ البسيط والسّطحيّ ويدرك فحواها، ويظنُّ أنّها إيحاءاتٌ جنسيّة، وقد تعني بها الشّاعرةُ أمورًا ومواضيع وقضايا أخرى، وأبعادًا إنسانيّة وتاريخيّة ولاهوتيّة وفلسفيّة، وترمزُ إلى العطاء والثمار والخصوبة والأمومة ودورة الطبيعة والحياة والبقاء، وتلتقي في هذا المنطلق والمنحى مع الشّعراء الصّوفيين، وهي تذكرنا بالشّعراء الصّوفيّين الكبار الغزليّين، وبكتاباتهم وقصائدهم الغزليّة المُوَشَّحَة بالتّعابير الحسّيّة والجنسيّة، ويقصدون مواضيع وقضايا أخرى: فلسفيّة، وإنسانيّة، وروحيّة، وتفاني المخلوق وذوبانه حُبًّا في محبَّةِ الخالق (الحب الإلهيّ):
يقول الشّاعرُ الصّوفيُّ الكبير ابن الفارض: “ومن أجلها طاب افتضاحي/ ولذّ لي اطراحِي وذلي بعد عِزِّ مقامي/ وفيهَا حلا بعدَ نُسكي تهَتّكي/ وَخلعُ عِذاري وارتكابُ أثامي/ فرشتُ لها خدّي وطاءً على الثّرى/ فقالتْ لك البشرى بلثمِ لثامي”.
ومن الشّعراءِ الكبار في العصر الحديث الّذين نجد في شعرهم النّفحات الصّوفيَّة المترعة بالتّعابير والمصطلحات الجنسيَّة، الشّاعر العراقي الكبير (مضفر النّوَّاب)، ويقولُ في قصيدة له من ديوانه (وتريَّات ليليَّة): “في تلكَ السّاعةِ من شهَوَاتِ اللّيل/ وعصافيرُ الشّوكِ الذّهبيَّةِ تستجلي أمجادَ ملوكِ العربِ القدماءْ/ وَشُجَيْرَاتُ البرِّ تفوحُ بدفءِ مراهقةٍ بدويَّهْ/ يكتظُّ حليبُ اللّوزِ ويقطرُ من نهديهَا في اللّيلِ/ وأنا تحتَ النّهدينِ غناءْ”.
ويقولُ أيضًا في قصيدةٍ أخرى: (شبقًا في لحمِ المرأةِ كالسّيفِ العذب الفحلْ).
وتقول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان:
* “.. وَعَتِيقُ رَجَائِي.. مَا انْفَكَّ يَتَأَنَّقُ/ بِرَائِحَةِ بَيَاضِ أُنُوثَتِكِ!” (ص26).
* ” دَعِينِي أُمَرِّرُ شَفَتَيْكِ../ عَلَى شَفَتَيَّ/ لِأَنْذَهِلَ اتِّقَادًا” (ص29).
* “ها تِينُكِ المُعَسَّلُ/ يقطرُ شهدُهُ مُتَّقِدًا/ كَجَمْرَةٍ/ تَفُوحُ مِنْهُ رِائِحَتُكِ/ وَغِمَارُ أُنُوثَتِكِ الــ أَشْتَهِي” (ص31)/ * “غِماري.. في تمامِ نضجِهَا/ مُثقلةٌ.. بلذائذِ فاكهتِكِ المُشْتَهَاةِ/ تشَقَّقتْ.. مُولعَةً بنُضْجِكِ”. وإلخ.. (ص32).
ويبدُو هنا بوضوح تأثّرُ الشّاعرة بسفر نشيد الإنشاد لسليمان الحكيم.
* “أَتَــــمَـــرَّغُ.. بِبَحْرِ جُنُونِكِ/ حِينَ أَنْفَاسُكِ/ تُنْبِئُنِي.. بِجُلِّ خَلَجَاتِكِ/ وَحينَ تَندُّ عَنْكِ.. شَهْقَةُ اشْتِهَاءٍ/ فَلَا أَنْطَفِئُ!” (ص34).
* ” وَأَنَا الْمَسْكُونُ بِرَغْبَةٍ/ تَطْغَى عَلَى رَبِيعِ حِرْمَانِي/ دَفْقَاتِي/ مَا عَادَتْ تَحْتَمِلُ/ أَيًّا مِنَ تَأْجِيلَاتِكِ!” (ص28).
* “ولمَّا يزل طعمُ نهديكِ على لساني../ مذ كنتُ رضيعِكِ/ ولمَّا أزلْ..أفتقدُ بياضَ حليبٍ/ يدرُّ شبقًا على شفاهي! / ما أفُلَتِ اللّذّةُ..في رعشتِهَا”(ص39).
* “رفّئيني.. بوِئامِكِ والهَناءِ!/ ولا تتنصَّلي من دفءِ جَسَدي/ أريدُكِ.. أنثى مُشْبَعَةً بي/ تَهْذي في مجاهلِ الدّفءِ/ بحرارةِ ذراعيّ” (ص134).
وفي الدّيوان نجدُ الكثيرمن الإشعاعات والنّفحات الصّوفيَّة والفلسفيّة عميقة المعاني، جليلة الفحوى والأهداف بأبعادها الإنسانيّة، والعاطفيّة، والفكريَّة واللّاهوتيَّة، ويصعبُ جدًّا فهمها وتفسيرها على القارئ العاديّ، إلا مَن كان مُطّلعًا، ومُلِمًّا، ومُتعَمِّقًا ومُتبحِّرًا في الأدب الصّوفيّ. ويبدُو هنا بوضوح تأثُّر الشّاعرة بالفكر والأدب الصّوفيّ، وبروائع شعرائهِ الكبار المُترعة والمُشِعَّة بالحبِّ الإلهيّ مثل: جلال الدّين الرّوميّ، ومحيي ابن عربيّ، وابن الفارض، والسّهرودي، وشمس التّبريزي، ورابعة العدويَّة وغيرهم… تقول الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان:
* “بِأَوْتَارِ جَنَاحَيْكِ../ أُحَلِّقُ قَوْسَ قُزَحٍ.. خَلْفَ غَمَامِكِ/ حَيْثُ تَسْكُنُنِي السَّمَاءُ/ وَفَوْقَ حُدُودِ الْأَجْسَادِ.. تَطُوفُ بِي خُيُوطُ أَشْجَانِكِ!/ أَنَّى لِغَابِرٍ فِي الزُّهْدِ.. أَنْ تتَعَفَّفَ بُرُوقُهُ/ وَنِيرانُكِ الْمُرَاوِغَةُ عَرّافَةٌ.. فِي مَواقِدِي تَتَأَنَّقُ وَتَتَجَمَّلُ؟” (ص82).
وتقول أيضًا: *”هَا زِئبَقِي راكِدٌ.. فِي قوارير عُزْلَتِي/ يُومِضُكِ حَكَايَا جَامِحَةً.. في فَجْوَاتِ زَمَانِي!”. وتقول: *”لِلْمَقَامَاتِ.. سُبُلٌ مُقَدَّسَةٌ/ تَتَرَجْرَجُ.. وَتُلَامِسُ أَشِعَّتي/ وَتَتَوَغّلُ فِي فُيُوضِ تَقَرُّبِكِ!/ لكنَّ تهَرُّبَكِ/ يَفْتِكُ بِحَمَائِمِ أَعْشَاشِي/ يَقْضِمُ صَوْتِي الْمُتَعَسِّرَ فِي خَرَائِبِهِ/ مُذْ فَطَمَتْنِي عَنَاقِيدُ نَارِكِ!/ هَا نِصْفِي السَّمَاوِيُّ/ غَطَّ.. فِي تَفَحُّمِ ذَاكِرَتِي النَّيِّئَةِ/ يَحْرِقُ هَوَائِيَ الْمُمَغْنَطَ../ بِقَبْضَةِ صَمْتِكِ الصَّاهِرِ” (ص84 – 85).
ونقول أيضًا: *”هَا الْحُزْنُ الْمُخْمَلِيُّ/ يَتَوَسَّدُنِي.. كَوْمَةً شَوْكِيَّةً/ يُوغِلُ فِي مَشِيبِي/ فِي إغْفَاءَةٍ مُقَدَّسَةٍ/ وأَنَا الْمُكَبَّلُ بِتِبْرِ رُوحِكِ/ مَفَاتِيحُ الضَّبَابِ بَاتَتْ بِيَدِكِ!
أَيَا طَاعِنَةً/ فِي رَفِيفِ عِطْرِكِ السَّمَاوِيِّ/ أَنَا مَنْ ضَمَّخَنِي حَصَى فَرَاغِي/ بِنَبْضِ بَحْرِكِ/ بَاتتْ تَعُبُّني جِرَارُ الْحُرْقَةِ عُطُورًا/ وَتُغَنِّي لِلرَّاحِلِينَ/ أَلَا فَابْرِقِينِي.. بِوَمْضِ عَيْنَيْكِ/ غِيمِي حَنَانًا.. هِيمِي مَطَرًا/ وَاغْسِلِي صَخْرَ قَلْبِي/ بِزَيْتِ حُبِّكِ.. بماءِ عَفْوِكِ
لَا تُؤَثِّثِينِي/ لِشِعْرِكِ الْأُقْحُوَانِيِّ/ بَلِ اُنْقُشِينِي.. قَصَائِدَ صَلَاةٍ/ لِيَخْشَعَ.. ضَجِيجُ ضَيَاعِي
رُحْمَاكِ/ لَا تُقَمِّطِي رِيحِيَ.. بِأَسْمَالِ النَّارِ/ لَا تَلْتَهِمِي شُعَاعَ سُوَيْعَاتِي/ بِدَامِسِ ظُلمِكِ/ وَلَا تَغْسِلِي دَمِي.. بِالطِّينِ.. بالْغُبَارِ/ بَلِ اِرْوِي طَرِيقِيَ.. بِخُضْرَةِ أَنَامِلِكِ/ وَانْبُشِي أَعْشَاشَ ضَوْئِكِ/ عَلَّكِ تَبْعَثِينَنِي.. أَنَا الْمَنْسِيُّ/ فِي مِشْكَاةِ عَتْمَتِكِ الْبَهِيَّةِ/ وَعَلَّنِي أَنْبَثِقُ ذَاكِرَةً حَيَّةً/ مِنْ شُقُوقِ النِّسْيَانِ!” (ص124 – 126).
ونجدُ في هذا الدّيوان توظيفَ عناصر الطّبيعةِ: كالعصافير، والضّباب، والسّحاب الماطر،
والشّتاء والعواصف، كرموزٍ دلاليَّةٍ لأبعادٍ وأهدافٍ عديدة، ومثال على ذلك تقولُ الشّاعرةُ:
*”غَيِّبِينِي فِي عَيْنَيْكِ.. دَمْعَةً/ وَدَعِينِي.. أَحِنُّ.. أُجَنُّ/ وَلا أَكِنُّ.. فِي عُرْيِ عَصَافِيرِكِ!/ يَا مَنْ أَسْـتَـغْـفِـرُكِ وَتَـسْـتَـغْـرِبِـيـن!؟/ كُونِي ضَبَابِيَ الْمُسَافِرَ/ إلَى سَحَابِكِ الْمَاطِرِ/ كُونِي.. قُوتَ حُلُمِي الْعَاصِفِ/ كُونِي.. قُطُوفَ شِتَائِي/ لِيَطُوفَ.. بِنَا الدُّوَارُ” (ص42).
ونجدُ أيضًا البعدَ الوطنيَّ واتّحادَ العاشق بالحبيبة الّتي هي الأرض والوطن والهويّة وكلُّ شيء، تقولُ الشّاعرةُ:
*”رُحْمَاكِ/ أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ الْمُقَدَّسِ/ لِأَظَلَّ أَجْمَعُ ظِلَالَكِ/ أُلَمْلِمُ رَعَشَاتِ ضَوْئِكِ/ وَلِأَسْتَظِلَّ بِقَدَرِي!/ أَعِدِّي مَائِدَةَ الْحُبِّ.. لِثِمَارِ حَنَانِي/ اِخْلَعِي عَنِّي مَنْفَايَ/ وَأَلْبِسِينِي وَجْهَكِ/ لِأَنْضُجَ.. بِحَنَانِكِ”. (ص46).
ويتجلَّى بوضوح البعدَ الوطنيّ وذكرَ أسماء بعض المعالم الهامّة في بلادنا مثل: مدينة حيفا ومنطقة الجليل، والنّاصرة والبشارة في هذه الجمل الشّعريّة:
* “مَا أُحَيْلَاهُ مُرَّكِ.. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ/ كَأَنَّ رَحِيقَكِ.. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا/ أَيَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ/ لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي/ لِتَجْبِلَكِ عُيُونِ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ!؟/ يَا أَرَقَّ مِنْ نَرْجَسَةٍ اشْتَمَّهَا شَاعِرٌ/ فَغَدَا مَلَاكًا” (ص100).
وبالإضافةِ للبعدِ الوطنيّ يحوي ويشملُ هذا الدّيوانُ مواضيعَ وأبعادًا عديدةً مثل: البعد اللّاهوتيّ، والبعد التّاريخيّ والميثولوجيّ (الأسطورة)، والبعد الفلسفيّ، والعاطفيّ، والبعد الإنسانيّ والفنّيّ. والشّىاعرة آمال عوّاد رضوان في هذا الدّيوان تتقيَّدُ بالقافيةِ والقفلة أحيانًا في نهاية بعض الجُمل الشّعريّة، وتتقيَّدُ بوزنٍ واحد أيضًا في بعض الجمل وبشكل عفويّ، فتضيف جمالًا وإيقاعًا حلوًا للقصيدة، وأمثلة على ذلك:
* “وَحْدَكِ/ مَنْ تُؤَجِّجُنِي بِالْجِنَانِ.. مَنْ تُتَوِّجُنِي بِالْحَنَانِ!/ مَنْ تَضْفِرُنِي مَوَاجِعا../ فَتَصْفِرُنِي رِيَاحُ أَحْزَانِي!/ أَتُرَاكِ تُعَاقِبِينَنِي.. بِكَمَالِكِ؟/ أَتُرَاقِصِينَنِي.. عَلَى أجْنِحَةِ هَذَيَانِي؟” (ص61).
وتقولُ: * “مَضَيْتِ.. وَخَلْفَكِ ظِلِّي الْمَوْجُوعُ/ وَمَا انْفَكَّتْ آفَاقِي.. يَتَنَاءَاهَا الجوعُ!/ فِي أَحْشَاءِ مَدَاكِ الْمُضِيئَةِ أَرْكَعُ/ وفِي دَهَالِيزِ عَيْنَيْكِ الْمُشِعَّتَيْنِ/ كَهَرَمٍ هَرِمٍ.. أَكْبُرُ وأَخْشَعُ!” (ص103).
في هذه الأبياتِ الشّعريّة يوجدُ التزامٌ وتقيُّدٌ بالوزن أيضًا، مع خروج بسيط عن الوزن.. والأبيات على وزن المتدارك أو الخبب. ومثال آخر على التّقيُّد بالقافيةِ وقفلة البيت:
* “سُلْطانٌ حَالِمٌ.. تنَزّلَ بغيْمِ غَابَاتِي/ وَأَغْوَانِي!/ أَسْرَجَ عَيْنَ فرَسِي هَوًى/ وَهَوَى!/ وَلَمَّا يَزَلْ.. يُلَاغِفُ
أجْنِحَةَ شيْطانِي/ يُغْمِضُ خَطِيئَةَ مَلَاكِي/ عَلَى سَلَامِ إلْهَامِي.. وَمَا أَلْهَانِي!/ وَمَضَى/ مضى بعُمْرِي يَتَلَهَّى/ يَتَلَبَّسُ حُمَّى عِطْرِي/ يَتَلَمَّسُ ظِلَّ هَذَيَانِي!” (ص117).
والشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان في هذا الدّيوان كما ذكرت سابقًا، تُوظّفُ الأساطيرَ (الميثولوجيا) وأسماءَ بعض الآلهة، والشّخصيّات الأسطوريّة القديمة، وبعض الشّخصيّات وأسماء الأماكن وإلخ…، بشكل صحيح وجميل وفنّيّ، فلا يُحسُّ القارئ الذّكيُّ بتكلُّفٍ، أو حشوٍ وابتذالٍ، أو تكرارٍ مُملٍّ، فلها اطّلاعٌ واسعٌ على التّاريخ والأدب، وخاصّة تاريخ وآداب الشّعوب القديمة، وهي تمتلكُ ثقافةً واسعة، بالإضافةِ إلى موهبتها الشّعريّةِ الفنّيّةِ الرّاقية والمميّزة، ولهذا فقد نجحت نجاحًا كبيرًا في توظيف شخصيّات الآلهة الأسطوريّة، والشّخصيّات التّاريخيَّة وغيرها في الدّيوان، لأهدافٍ وأبعادٍ عديدة ومعانٍ تريدها، والقارئ المتذوّقُ، وليس فقط النّاقد الذّكيّ الفذّ والمتعمّقُ والمتبحِّر، يستطيعُ أن يدركَ ويفهمَ الكثيرَ من معاني وأبعاد هذا الدّيوان والفحوى المطلوب.
وبهذا شاعرتُنا تتميَّزُ عن العديدِ من الشّعراء المحلّيّين الّذين يتَّجهُون إلى الأساطير، ويتوكّؤون على التّراث القديم والقصص القديمة الأسطوريّة، ويقومونَ بتوظيفِ أسماء بعض الآلهة، وهم لا يعرفون تفسير معنى وَكُنهَ كلِّ إلهٍ، وما هي وظيفتُه، ولأيّ إقليم وبلد وحضارة وشعب يتبع، وما يكتبونهُ ويُخربشونهُ هو مجرّد حشو ولغوٍ، ووضع كلماتٍ مِن دون فهم وإدراك.. وهنالك أمثلة عديدة على شويعرين وشويعرات محلّيّين، يذكرون أسماء آلهةٍ قديمة فيما يكتبونه ويخربشونه من تفاهات وسخافاتٍ، ويُسمّونه شِعرًا، ولا يعرفون ما معنى اسم هذا الإله أو ذلك الإله، ومن أين جاءت التّسمية، وما هي وظيفتهُ ومُهمّتُهُ وميزاته، ولأيّ بلدٍ وإقليم ينتمي .
وإذا نظرنا إلى هذا الدّيوان من ناحيةٍ شكليّةٍ وللبناءِ الخارجيّ، فهو على نمطِ الشّعر الحديث، غيرُ مقيّدٍ بالوزن والقافية، أو بالأحرى هو مزيجٌ بين الشّعرِ الحديث الحُرّ والشّعر التّفعيلة، لأنَّ هنالك العديدُ مِنَ الجميل، ومن العباراتِ الشّعريّة في هذا الدّيوان مُتقيّدةٌ بتفعيلةٍ ووزنٍ واحد، وحتّى الجُمَل الّتي تُدرجُ في إطار الشّعر الحُرّ يوجد فيها موسيقى داخليّة، بيدَ أنّها مُكوَّنةٌ مِن أكثر مِن تفعيلة، أي هي موزونة، ولكنّها غيرُ مقيّدةٍ وملتزمةٍ ببحور الخليل بن أحمد الفراهيدي بحذافيرها، فقد يكونُ في الجملةِ الشّعريّة أكثرُ مِن وزن، وزنان، أو ثلاثة أوزان، والقارئُ المُتذوّقُ يُحسُّ ويشعرُ بجماليّة الموسيقى الشّعريّة، وإيقاعِها وجرسِها العذب، مع أنّها ليست كلاسيكيّةً تقليديّة، وعلى عكس البعض مِن الّذين يكتبونَ الشّعرَ التّقليديَّ مَحلّيًّا، ولا توجدُ عندهم الموهبةُ الشّعريّةُ الحقيقيّةُ الرّبانيَّة، ولا المستوى الثّقافيُّ المطلوب، فتأتي قصائدُهم المُقيَّدةُ ببحور الخليل كأنّها دونَ موسيقى ووزن، وكأنّنا نسمعُ شخصًا يُكسّرُ أحجارًا، لأنّها تفتقرُ للموسيقى الدّاخليّةِ، وللألفاظِ الجميلةِ العذبة وللصُّوَر الشّعريّة، فالشّعرُ الحقيقيُّ هو صُورٌ، وأحاسيسُ، ومشاعرُ، وعواطفُ، ولواعجُ جيّاشة، ووجدانٌ مُتدفّقٌ، ومعانٍ رائعةٌ وعميقة، ومواضيعُ راقيةٌ، واستعاراتٌ ومصطلحاتٌ بلاغيّة جديدةٌ ومبتَكَرة، وتلاؤُمٌ وانسجامٌ وتناغمٌ بين اللّفظ والمعنى، بالإضافةِ إلى جزالةِ اللّغة وعذوبةِ الألفاظ، وسلاسةِ العباراتِ والجُملِ الشّعريّة بإشعاعاتِها السّاحرة، وحتّى إذا لم تكن مُقيّدةً ببحور الخليل، فتكفي هذه الأسسُ والعناصرُ أن تجعلَ من كلِّ قصيدةٍ على هذا النّحو، أن تكونَ ناجحةً وإبداعيّةً ورائعة.
وهذا هو الشّعرُ الّذي تكتبُهُ آمال عوّاد رضوان، والشّعراءُ القديرونَ المبدعونَ المجدّدون، والّذين يواكبونَ تيَّارَ الحداثة وركْبَ التّجديد في هذا العصر، مع المحافظةِ على المستوى الفنّيّ والإبداع بمعناه الصّحيح الشّامل، والجرس والإيقاع الموسيقيّ الدّاخليّ الّذي قد يكون أهمَّ أحيانًا من الوزن الخارجيّ (بحور الخليل)، ولكن إذا كان هنالك تقّيدٌ كامل بالوزن، تكون القصيدةُ أحلى وأعذبَ وأروع، ولها رونقها وسحرها المُمَيَّز، وتكون مُشعةً أكثر بالجمال الشّكليّ.
وأخيرًا وليس آخرا: إنَّ هذا الدّيوان يُعدُّ من أحسن وأفضل الدّواوين الشّعريّة الّتي صدرت في السّنوات الأخيرة من جميع الأسس والمفاهيم النّقديّة والفنّيّة والذّوقيَّة، وخاصّة في صدد التّجديدِ والابتكار، والتّكثيف من الصّور الشّعريّة الجميلة والحديثة، والاستعارات البلاغيّة المبتكرة، والمعاني العميقة، والأبعاد الفلسفيّة والإنسانيّة، والنّفحات الصّوفية وومضات الإيمان الّتي تسربلُ حَيِّزًا لا بأسَ به من الدّيوان، وأيضًا المستوى الفنّيّ، والثّروة اللّغويّة الكبيرة الّتي يحتويهَا، وفي توظيف الرّموز، والتّراث، والتّاريخ، والأسطورة، والمخزون الثّقافي الواسع بالشّكل الصّحيح، وبالشّكل التّقنيّ والإبداعيّ الجميل والسّلس والمميَّز.
لقد تطرَّقتُ إلى جميع الجوانب والأمور والمجالات الهامّة في هذا الدّيوان، وخاصّة الأمور والمواضيع الّتي لم يتطرّق إليها بشكل واسع الأدباء والنّقادُ الّذين كتبوا عن هذا الدّيوان، وجميع الّذين كتبوا عنه أبدعوا، وكان نقدُهُم موضوعيًّا ونزيهًا وأكاديميًّا وعميقا. وأنا، بدوري، حاولتُ الاختصارَ قدرَ الإمكان في هذه المقالة، لأنّها ليست أطروحة جامعيّة، ولو أردت التّوسّعَ وتحليلَ كلِّ جملة شعريّة كما يجب، لكتبت مئات الصّفحات التّحليليَّة لهذا الدّيوان الشّعريّ، فاكتفيتُ بالاستعراضِ مع شرح وتحليلٍ مُقتضب، وآمل أن أكون في هذه المقالةِ قد أعطيتُ الدّيوان حَقّهُ، وألفُ مبارك للشاعرةِ المبدعة آمال عوّاد رضوان على هذا الإصدار القيّم والمُمَيَز، وعقبال إصدارات أخرى أدبيّة وشعريّة إبداعيَّة.
أسماء المصادر:
1 – سفر نشيد الإنشاد – الكتاب المُقدّس – العهد القديم.
2 – قصيدة المواكب – (جبران خليل جبران – المجموعة الكاملة – دار الجيل – بيروت – لبنان
3 – ديوان وتريَّات ليليَّة – مضفر النّوَّاب – منشورات صلاح الدّين… و(مضفر النّوَّاب المجموعة الكاملة – منشورات قنبر – لندن).
4 – ديوان امرىء القيس الكندي – دار إحياء العلوم – بيروت – لبنان.
5- ديوان ابن الفارض.