وقد برز الخلاف بين المسلمين (المهاجرين والأنصار) لأول مرة بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة وفي نفس اليوم، حيث مات من غير أن يوصي بالخلافة لأحد من بعده. “فقال قوم إن أحق الناس بالخلافة أبو بكر، لأن رسول الله رضيه لأمر الدين بإمامة المسلمين في الصلاة، فليرضوه هم في أمر الدنيا، أعني الخلافة. وقال قوم: أحق الناس بالخلافة أهل بيته، علي بن أبي طالب، ومن جهة أخرى قال قوم: إن أحق الناس بها المهاجرون الأولون من قريش، وقال آخرون إن أحق الناس بها هم الأنصار..” (أحمد أمين، يوم الإسلام، ص 51).
ونظراً لأهمية هذا الموضوع الذي شق المسلمين، ومازال تأثيره العميق باقياً إلى الآن، ولإعطاء صورة واضحة عما جرى في يوم وفاة النبي، ننقل هنا مقتطفات مما جاء في تاريخ الطبري وبإيجاز إذ قال:
[“ولما اشتد المرض برسول الله (ص) قال: أئتوني باللوح والدواة- أو بالكتف والدواة- أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده. فقالوا: إن رسول الله يَهْجُر، (أي كلام من تأثير الحمىّ).
“وعن ابن عباس أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله (ص) في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله؟ قال أصبح بحمد الله بارئاً، فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب، فقال: إني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبدالمطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا. قال عليٌّ: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، والله لا أسألها رسول الله أبداً.
“ولما توفي الرسول (ص)، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر، وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة، إن النبي (ص) جاءه قومٌ فقالوا أبعث معنا أميناً فقال: لأبعثن معكم أميناً حق أمين، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، وأنا أرضى لكم أبا عبيدة. فقام عمر، فقال: أيكم تطيب نفسه أن يخلُف قدمين قدَّمهما النبي (ص)! فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار- أو بعض الأنصار- لا نبايع إلا عليّاً.
“وتخلف عليّ والزبير (عن ذلك الاجتماع)، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتى يُبايَع عليٌّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير، فاضربوا به الحجر. قال: فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما تعباً، وقال: لتبايعان وأنتما طائعان، أو تبايعان وأنتما كارهان! فبايعا”. (تاريخ الطبري، ج2، ص 229-234).]
وعن محاولة أبي سفيان في الصيد بالماء العكر، يقول الطبري: “ولما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان (إلى علي بن أبي طالب)، وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم! أين المستضعفان! الأذلان عليّ والعباس! وقال: أبا حسن! ابسط يدك حتى أبايعك. فزجره عليُّ، وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرّاً لا حاجة لنا في نصيحتك”. (الطبري، نفس المصدر، ص 237).
والجدير بالذكر أن الإسلام قد أقام نظام الشورى، إذ قال تعالى: “وشاورهم في الأمر”، وكان النبي (ص) يشاور المسلمين في معظم الأمور، ولكنه لم يترك قاعدة واضحة وثابتة لاختيار الخليفة من بعده. ويبرر العلامة أحمد أمين موقف النبي من ذلك بقوله: “… وترك الأمر مفتوحاً لأنه لو وضع قاعدة فيه لاتخذها المسلمون ديناً يتحجرون عليه. فلما مات النبي حصل هذا الاختلاف فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس وكان في هذا مخالفة لركن الشورى ولذلك قال عمر (فيما بعد) أنها غلطة وقىَ الله المسلمين شرها. وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر وإن كان قد استشار كبار الصحابة في ذلك فبعضهم حمده وبعضهم خاف من شدته فقال أبو بكر إنه يراني ألين فيشتد”. (أحمد أمين، يوم الإسلام، ص53-54)
وفي الجدال الذي دار بين المسلمين في سقيفة بني ساعدة حول الخلافة، استشهد أبو بكر بقول أسنده إلى النبي: (الخلافة في قريش)، ثم دب الخلاف بين المهاجرين أنفسهم، فمنهم من رأى أبا بكر أولى بالخلافة، وكان عمر بن الخطاب هو الذي رشحه وأدعمه لهذا الأمر، ومنهم من رأى علي بن أبي طالب أولى بالخلافة لقرابته من النبي، فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، ويعتقد الشيعة (وبعض السنة) أن النبي أوصى في خطبة الوداع لعلي بقوله: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم واليِ من والاه وعادي من عاداه”، والتي سميت بخطبة الغدير، في مكان سمي بغدير خم يقع في منتصف الطريق بين مكة والمدينة. وكان عمار بن ياسر من المطالبين بإسناد الخلافة إلى علي، وعارضه آخرون. وكان الإمام علي منشغلاً في تلك الإثناء بدفن جثمان النبي ولم يكن حاضراً لاجتماع سقيفة بني ساعدة.
ويضيف أحمد أمين: ” على كل حال، اتسعت هوة الخلاف، فلما علِمَ أبو بكر وعمر باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ذهبا إليها، وخطب أبو بكر خطبة موفقة أقنع فيها الأنصار بأولوية المهاجرين الأولين، وبذلك كُفيَ المهاجرون خلاف الأنصار، ثم كان أن كُفي أبو بكر أمر عليّ، فقد كره كثير من الصحابة أن يجمع بين النبوّة والخلافة، ولعلمهم بشدة عليّ في الحق وعدم التساهل.” (أحمد أمين، نفس المصدر، ص51).
وهكذا أسندت الخلافة إلى أبي بكر، ولما علم الإمام علي بما جرى في سقيفة بني ساعدة، وأن المهاجرين تمسكوا بأولوية قريش في الخلافة لقرابتهم من النبي، قال والله “تمسكوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة”، يعني أنهم اتخذوا القرابة من النبي حجة لهم ولكنهم منعوه هو من الخلافة. (أحمد أمين نفس المصدر).
على أي حال ومهما كان من أمر، فقد بايع الإمام علي أبا بكر بعد ستة أشهر من وفاة الرسول وبعد وفاة زوجته فاطمة، لأنها (فاطمة) لم تكن على وئام مع أبي بكر حيث منعها من حقها في فدك، إذ تمسك بقول أنه سمع رسول الله يقول: “نحن معشر الأنبياء لا نورث وما نتركه صدقة” ولم تنتقل فدك إلى أهل البيت إلا في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز.
ومهما يكن من أمر، فقد بقي الإمام علي وفياً للخلفاء الثلاثة الذين سبقوه. ولقد وقف عليّ بباب أبي بكر ساعة وفاته ونعاه قائلا: “يرحمك الله يا أبا بكر، لقد كنت والله أول القوم إسلاما صدقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا ” (أحمد أمين، نفس المصدر)
وقد دامت خلافة أبي بكر عامين، ثم أوصى بها قبل وفاته إلى عمر بن الخطاب، والذي بدوره أوصى وهو على فراش الموت بتشكيل مجلس شورى من ستة أشخاص من الصحابة الكبار، ليختاروا واحداً من بينهم، فاختاروا عثمان بن عفان، بعد أن تعهد لهم بالالتزام بنهج الشيخين، أبي بكر وعمر. وقد نفذ وعده هذا خلال السنوات الست الأولى من خلافته، ولكنه شذَّ عنه في السنوات الست الأخيرة حيث انحاز إلى أقربائه من بني أمية ففضلهم على بقية المسلمين في السلطة والمال والنفوذ. وقد برر عثمان فيما أعطى لذوي قرابته من بيت المال فقال: “إن عمر كان يحرم قرابته احتساباً لله، وأنا أعطى قرابتي احتساباً لله، ومن لنا بمثل عمر؟” (طه حسين، الفتنة الكبرى، ج1، ص42). وهذا الانحياز لقرابته أثار عليه نقمة المسلمين من مختلف الأمصار، فثاروا عليه وقتلوه.
وبعد مقتل عثمان انتخب الثوار علياً خليفة، وبايعه الناس بمن فيهم طلحة والزبير. ويقول طه حسين في هذا الخصوص في كتابه (الفتنة الكبرى، علي وبنوه،ج2):”… فقد كان خليفتهم الجديد أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنة، وضمائرهم رضىً ونفوسهم أملاً. فهو ابن عم النبي وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يُظهر دعوته ويصدع بأمر الله…. وكان النبي يحبه أشد الحب ويؤثره أشد الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة فآخى النبي بينه وبين نفسه، ثم زوجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام اليأس. وقال النبي يوم خيبر: “لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله”. فلما أصبح دفع الراية إلى عليّ. وقال النبي حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي”. وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: “من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاده”.
ويضيف طه حسين فيقول: ((وكان عمر رحمه الله يعرف لعليّ علمه وفقهه ويقول “إن عليّاً أقضانا”. وكان يفزع إليه في كل ما يعرض له من مشكلات الحكم. وقال حين أوصى بالشورى: ” لو ولّوها الأجلح لحملهم على الجادة.” إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة كما يؤمن له بها الشيعة”. ( طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص 15-16).
ولكن رغم كل هذه الفضائل لعلي، تمردّ عليه كثيرون ومنهم من بايعوه مثل طلحة والزبير. وقد اتخذ بنو أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان مقتل عثمان ذريعة لنيل الخلافة لأنفسهم، فقاموا بمطالبة علي بالكشف عن قتلة عثمان والانتقام منهم، الأمر الذي لم يكن بإمكانه تنفيذه لعدم معرفة القاتل الحقيقي في خضم تلك الثورة، وكان محمد بن أبي بكر أحد المتهمين بقتل عثمان. فأعلن معاوية، الذي كان والياً على الشام، التمرد على الخليفة.
ومما يجدر ذكره في هذا الخصوص، أن سئل الإمام عليّ في رأيه في عثمان وقاتليه فقال: “إنه استأثر فأساء الأثرة، وجزعوا فأساءوا الجزع، ولله حكم واقع، في المستأثر والجازع”. ويعلق أحمد أمين قائلاً: ولعل هذا أصدق وصف لما كان بين عثمان والناقمين عليه، وهو كذلك أصدق وصف للأمويين والعباسيين، والناقمين عليهم من الشيعيين. (أحمد أمين، ضحى الإسلام ج3، ص 300).
أما السيدة عائشة فكانت في أول الأمر من المحرضين على عثمان وهي التي قالت عنه: “اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً”، ولكن ما أن سمِعَتْ أن علي بن أبي طالب أختير خليفة حتى تحركت ضده مطالبة بدم عثمان. فتوجَّهتْ إلى البصرة ومعها طلحة والزبير، ولحقهم الإمام علي إلى هناك حيث وقعت أول حرب بين المسلمين سميت بحرب الجمل. وسمّيَتْ بحرب الجمل لأن السيدة عائشة، أم المؤمنين، كانت على ظهر جمل تحرض المسلمين على القتال ضد أتباع علي، ولم تقف الحرب إلا بعد أن تم قتل ذلك الجمل. وكانت عائشة تكره الإمام علي بسبب موقفه منها في قضية الإفك، وانتهت وقعة الجمل بانتصار الإمام علي ومقتل الزبير وطلحة.
ومن نافلة القول أن الإمام علي قد أُجبِرَ على حرب الجمل، فخاضها متألماً، فكان يقول بعد أن نظر إلى القتلى من الفريقين:
أشكو إليك عُجَري وبُجَري…..شفيتُ نفسي وقتلتُ معشري (طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص107).
وقد سأله رجل منهم ذات يوم: “أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ فقال: إنك ملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله.” (طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص 40).
وبعد حرب الجمل حصلت حرب صفين، وهي بلدة على ضفاف الفرات في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، بين معسكر الإمام علي ومعسكر معاوية، والتي انتهت بالتحكيم الذي خُدِعَ فيه أبو موسى الأشعري ممثل الإمام علي، من قبل الداهية عمرو ابن العاص ممثل معاوية. وبسبب خديعة عمرو بن العاص ونجاحه، حصل انشقاق في معسكر الإمام علي، فخرجت عليه جماعة أطلق عليهم (الخوارج) مما اضطر الإمام علي محاربتهم لتكفيرهم له، وشراستهم وتمردهم عليه. وانتهى الصراع باغتيال الإمام علي بن أبي طالب (ع) على يد أحد الخوارج يدعى عبدالرحمن بن ملجم المرادي عند صلاة الفجر يوم 21 رمضان 40هـ (28/2/661م). وبمقتل الإمام علي انتهت مرحلة الخلافة الراشدية، وظهرت الدولة الأموية الوراثية.
والجدير بالذكر أن في هذه الفترة كانت أغلبية المسلمين، وبالأخص من الأنصار، ومعظم الأحياء الذين شاركوا الرسول في معركة بدر وغزواته الأخرى، وقفوا مع الإمام علي، دون مسميات بأهل السنة أو الشيعة، وكان قسم من قريش وأهل الشام مع الأمويين. أما أهل العراق ومصر والحجاز واليمن وغيرها من الأمصار، فكانوا مع علي وأولاده من بعده.
وهذه الحروب أضرت بالمسلمين ووحدتهم كثيراً، وقد سئل الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز عن الجمل وصفين فقال: “تلك دماءُ كفَّ الله يدي عنها، فلا أحبُّ أن أغمس لساني فيها”. (الجاحظ، البيان والتبيين، ج2، ص289).
ثم حصلت واقعة كربلاء بعد أن طلبَ أهل العراق من الحسين بن علي أن يقدم إليهم لينصبوه خليفة. ولما استجاب الحسين لطلبهم ووصل العراق مع أهل بيته ونفر قليل من أنصاره لم يتجاوز عددهم 72 شخصاً، واجه جيشاً جراراً أرسله الخليفة الأموي يزيد بن معاوية لمواجهته، فحصلت واقعة كربلاء في اليوم العاشر من شهر محرم عام 61 هجرية (12 أكتوبر 689م)، وكانت مجزرة دامية رهيبة وإبادة بحق أهل البيت وخاصة آل علي، ومأساة كبرى بكل معنى الكلمة. ومنذ تلك الواقعة المأساوية استمر العراقيون من شيعة أهل البيت (آل علي) مصدراً للثورات والقلاقل ضد الحكام على مختلف الحقب التاريخية.
وتؤكد كتب التاريخ أن معظم أهل العراق، سنة وشيعة (عدا الخوارج)، كانوا من أنصار الإمام علي وأهل بيته، إذ يقول الدكتور علي الوردي في هذا الخصوص: “قد يستغرب القارئ إذا علم بأن كلتا الطائفتين كانتا في أول الأمر من حزب واحد، وإن الذين فرقوا بينهما هم السلاطين ووعاظ السلاطين. ففي عهد الدولة الأموية كان الشيعة وأهل السنة يؤلفون حزب الثورة. إذ كان الشيعة يثورون على الدولة بسيوفهم، بينما كان أهل السنة يثورون عليهم بأحاديثهم النبوية – هؤلاء كانوا ينهون عن المنكر بألسنتهم، وأولئك ينهون عنه بأيديهم.” (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص232).
والجدير بالذكر أن مصطلح “أهل السنة والجماعة” لم يظهر في التاريخ إلا في أيام الخليفة العباسي المتوكل. وكانوا قبل ذلك يُدعَون بـ “أهل الحديث”. و”الحديث” و “السنة” لفظتان مترادفتان في بعض الوجوه. ومن يدرس سيرة أهل الحديث إثناء الحكم الأموي يجدهم كانوا على عداء مستحكم ضد ذلك الحكم الطاغي، ما عدا فترة خلافة عمر بن عبد العزيز الذي كان عادلاً وراشدياً، ولذلك سمي بالخليفة الراشدي الخامس.
ولو درسنا سيرة الأئمة الكبار لأهل السنة والجماعة، كأبي حنيفة والشافعي وأنس بن مالك وأحمد بن حنبل، الذين عاشوا في أواخر العهد الأموي وأوائل العهد العباسي لوجدناهم يتشيعون لعلي ولمبادئه الثورية تشيعاً عجيباً رغم الظروف المثبّطة التي كانت تحيط بهم. فأبو حنيفة النعمان الذي يُلقّب بـ “الإمام الأعظم” كان علوي الهوى ثورياً من طراز فذ. يقول الزمخشري: “وكان أبو حنيفة يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي، وحمل الأموال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة” (أنظر: الزمخشري، الكشاف، ج1 ص64).
وقد ساند الإمام أبو حنيفة الشهيد الثائر زيد بن علي زين العابدين على الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك وقال عنه (ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدرٍ).
ولما ثار محمد بن عبد الله الحسني في المدينة، ضد المنصور بايعه أبو حنيفة. وظل على تلك البيعة بعد مقتله إذ كان يعتقد بموالاة أهل البيت. (الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص79). وكتب أبو حنيفة إلى إبراهيم، أخي محمد، يشير إليه بقصد الكوفة سراً ويعلمه بأن في الكوفة من الشيعة من يستطيع دعمه. (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص233).
كما ونعرف من التاريخ أن الإمام الأعظم أبو حنيفة (رضي الله عنه) قد درس الفقه فترة على الإمام جعفر الصادق في الكوفة، وكان من أقرب الناس إلى الإمام موسى الكاظم (ع)، فكلاهما عانى السجن والاضطهاد معاً وبواسطة الحاكم نفسه ومن أجل القضية ذاتها. ولو أدرك الشيعة حقيقة الأمر لعرفوا أن أبا حنيفة هو أحد أئمتهم كما هو أحد أئمة أهل السنة، لأنه وجد قبل انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة، وكان من أنصار أهل البيت.
والكلام نفسه ينطبق على الإمام الشافعي (رحمه الله) الذي لم يقِّل عن أبي حنيفة تشيُّعاً للعلويين، وهو الذي أُتهِم بأنه رافضي لشدة تشيّعه وقد قال في ذلك شعراً: ( راجع بن حجر، ص 79، 88، 108):
قالوا ترفضتَ قلتُ كلا ….. ما الرفض ديني ولا اعتقادي
لكن توليتُ غير شكٍ …… خير إمام وخير هادي
إن كان حب الولي رفضاً….. فإنني أرفَضْ العبادِ
وقال في مكان آخر:
تزلزلت الدنيا لآل محمد ……. وكادت لهم صمم الجبال تذوبُ
وغارت نجوم واقشعرت كواكب…. وهتكت أستار وشق جيوب
نصلي على المبعوث من آل هاشم….. ونعزي بنيه إنَّ ذا لعجيب
لئن كان ذنبي حب آل محمد….. فذلك ذنب لست منه أتوب
همُ شفعائي يوم حشري وموقفي….إذا ما بدت للناظرين خطوب
ثم يقول:
إن كان رفضاً حب آل محمد…. فليشهد الثقلان أني رافضي
أما أنس بن مالك إمام المدينة المعروف، فكان من تلاميذ الإمام جعفر الصادق (ع) وقد ساعد محمداً الحسني في ثورته على المنصور إذ أفتى بصحة بيعته فعاقبه المنصور على ذلك ضرباً بالسياط. (راجع جرجي زيدان، التمدن الإسلامي، ج4، ص 119).
وإذا أتينا إلى الإمام السني الرابع، أحمد بن حنبل، فهو الآخر لا يقل عن أسلافه في التشيُّع لعلي والإشادة بفضله. وهو القائل: “ما جاء لأحد من الصحابة من الفضائل ما جاء لعلي” (أنظر بن حجر، المصدر السابق).
ويضيف علي الوردي: بعث على بن أبي طالب روح الثورة في المجتمع الإسلامي. فتولى تلك الروح بعد موته طائفتان من الناس، هما طائفة الشيعة من جانب، وطائفة أهل الحديث (أهل السنة) من الجانب الآخر. أولئك ثاروا بسيوفهم وهؤلاء ثاروا بأقلامهم. واستطاعت الطائفتان أخيراً أن تقضي على الدولة الأموية قضاءً كاد أن يكون مبرماً. إذا تكاتف السيف والقلم على أمر، فلا بد أن يتم ذلك عاجلاً أو آجلاً. (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص 234).
وبعد القضاء على الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، شعر العلويون بخيبة أمل لأن أولاد عمهم العباس قد اغتصبوا منهم الخلافة. لذلك بدأ الصراع من جديد بين أولاد العمومة، وهكذا وجد الشيعة أنفسهم دائماً في المعارضة. ولما كانت السلطة تفسد الحاكم، ومهما كان ناقماً على الظلم عدما كان في المعارضة، إلا إن نزعة الظلم متأصلة في الإنسان، فلابد وأن يكون هناك أناس ناقمون، وآخرون منتفعون من هذا الحاكم أو ذاك، وعليه فقد حذا خلفاء بني العباس حذو الأمويين في ظلم الرعية وبالأخص أولاد علي وشيعتهم. ومن المؤسف أن يأخذ هذا النزاع العائلي قالباً دينياً ويتحول إلى صراع طائفي بين السنة والشيعة فيما بعد.
ومن هنا نرى أن الشيعة كانوا يمثلون المعارضة على الدوام وفي حالة الثورة الدائمة، أشبه بالبركان الذي لا يهدأ، وهكذا بدأت بثورة الحسين، لتليها ثورة زيد بن علي، وثورة المختار، وثورة عبد الله بن محمد الحسني .. الخ.
وفي عهد الخليفة عبدالله المأمون توقف اضطهاد الشيعة، إذ كان المأمون شيعي الهوى، قرّب منه الإمام الشيعي الثامن علي بن موسى الرضا، وأعلنه ولياً للعهد. يقول أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام، ج3): “فبايع الناس لعلي بن موسى من بعد المأمون الذي أمر الناس بخلع لباس السواد ولبس الخضرة، وكان هذا في خراسان. فلما سمع العباسيون ببغداد ما فعل المأمون من نقل الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي، وتغيير لباس آبائه وأجداده بلباس الخضرة أنكروا ذلك وخلعوا المأمون من الخلافة غضباً من فعله، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي”.
ويؤول أحمد أمين الأسباب التي دعت المأمون إلى أخذ هذا الإجراء، نوجزها بما يلي: (1) أنه استعرض الفتن منذ عهد الإمام علي إلى يومه فرآها مضعفة للدولة، ومفرقة للكلمة، ومن الأفضل فتح الباب أمام البيتين العباسي والعلوي يختار خيرهم، (2) كان المأمون معتزلياً من معتزلة بغداد وهم يرون أن علياً كان أولى بالخلافة حتى من أبي بكر وعمر، فذريته من بعده أحق، (3) أنه كان تحت تأثير الفضل بن سهل، الشيعي المعتزلي، (4) أنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس، فإذا ولّوا الحكم ظهروا للناس وبان خطؤهم وصوابهم فزال عنهم هذا التقديس.
وحول مدى إخلاص المأمون لهذه الإجراءات، يضيف أحمد أمين: “وأغلب الظن أن المأمون كان مخلصاً في عمله صادقاً في تصرفه، وقد زوَّج المأمون عليّاً الرضا هذا ابنته، وزوَّجَ محمد بن علي بنته الأخرى، ولكن شاء القدر أن يموت الرضا سريعاً، بعد أن ولاّه المأمون عهده، وبعد أن مرض أياماً ثلاثة، فادّعوا أن المأمون سمَّه لثورة بغداد، وما أكثر ادعاء الشيعة بسّم أئمتهم، وهذا بعيد، فالمؤرخون يروون حزن المأمون الشديد عليه، كما يرون أن المأمون بعد موته (الإمام الرضا) وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة (وهو شعار العلويين) تسعة وعشرين يوماً، ويلزم القُواد بلبسها، فلما رأى كراهية البيت العباسي لها ودسهم الدسائس في ذلك اضطر أن يغيرها إلى السواد (وهو الشعار العباسي)، فإن كان حقاً قد سُمَّ، يكون قد سمَّه أحد غير المأمون من دعاة البيت العباسي. (أحمد أمين، ضحى الإسلام،ج3، ص 294-296).
والجدير بالذكر أن المأمون كان متفلسفاً، شديد الولع بمذهب المعتزلة الذين كانوا يقيمون العقيدة الدينية على أساس العقل والتفكير المنطقي، وهم مؤسسو “علم الكلام”، وقد قرّب المأمون إليه فقهاءهم وعيّنهم في مناصب الدولة، كما استفاد هؤلاء من المأمون في الحرية التي تمتعوا بها في عهده لنشر مذهبهم بين الناس، وبذلوا في ذلك جهوداً طائلة، ومالوا إلى اضطهاد من كان يخالفهم في الرأي. وسار على نهج المأمون الخليفة المعتصم والواثق في الميل إلى المعتزلة. (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص241).
ولكن تغيَّر الوضع في القرن الثالث الهجري بعد استلام المتوكل الخلافة، الذي أعلن الحرب على جميع الفرق الإسلامية، حيث راح يضطهد المعتزلة والشيعة والخوارج والصوفية “وسعى لإيجاد فرقة مرتبطة به وتستند إلى سنة النبي استناداً شرعياً بعيداً عن الملابسات السياسية التي حكمت سلوك الفقهاء قبل عهد المتوكل”. (راجع الجذور التاريخية للطائفية في العراق، هادي العلوي-علاء اللامي/الثقافة الجديدة، العدد 275).
وقام المتوكل باضطهاد المعتزلة خاصة اضطهاداً مزرياً، وصار يتتبعهم فرداً فرداً ويقصيهم عن مناصبهم التي كانوا فيها على عهد أسلافه الثلاثة (المأمون والمعتصم والواثق). ومن جملة ما فعل في هذا السبيل أنه أمر عامله بمصر أن يُحلق لحية قاضي القضاة هنالك، إذ كان معتزلياً شديداً، وأن يضربه ويطوف به على حمار في الأسواق. (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص241.)
والجدير بالذكر أن المتوكل كان من أظلم الخلفاء وأكثرهم عربدة، ودناءة، وسفكاً للدماء. وقد سمّاه بعض المستشرقين “نيرون الشرق”. وكان شديد البغض للإمام علي (ع)، إذ يحكى أن نديماً له، اسمه عبادة المخنّث، كان يشد على بطنه مخدّة ويكشف عن رأسه الأصلع ثم يرقص ويقول: “قد أقبل الأصلع البطين- خليفة المسلمين” يقصد بذلك علياً. وكان المتوكل يشرب على هذا المنظر ويضحك. .(نفس المصدر، ص242 نقلاً عن مروج الذهب للمسعودي).
كما وأمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من المنازل، ثم حرث أرضه وغمره بالماء لمنع الناس من زيارة القبر الذي اعتبره خطراً عليه، ولكنه لم يوفق في القضاء عليه قضاءً نهائياً، فالزوار أخذوا ينثالون على كربلاء سراً، ويبذلون في ذلك النفس والنفيس. وبقي قبر الحسين رغم ذلك يناطح الأيام والليالي- دون أن يخمد له أوار. (علي الوردي، وعاظ السلاطين، ص 255).
كذلك أمر المتوكل بسل لسان ابن السكيت، اللغوي المعروف، حين سمعه يمدح الحسن والحسين. وكان شاعر المتوكل، علي بن الجهم، أول شاعر استعمل مصطلح “سني” في شعره، ولكونه ترعرع في ظل المتوكل، فقد رهن تسننه في معاداة علي بن أبي طالب فكان يهجوه بالاسم في قصائده والتي يبدو أنها أهملت فيما بعد فلم تدرج في ديوانه. وقد تصدى له دعبل الخزاعي والبحتري. (هادي العلوي وعلاء اللامي، الثقافة الجديدة، العدد 275، ص28).
ورغم محاولات التقرب من فقهاء السنة وأهل الحديث الذين ساءهم هذا العداء الناشب بين أسرتي أهل البيت، وهم كانوا في أعماق قلوبهم يميلون نحو العلويين، فلم تفد فيهم الجهود التي كان يبذلها المتوكل وغيره من بني العباس للتقرب منهم. فقد انصرف الفقهاء وأهل الحديث إلى تأسيس العقيدة السنية مع احتفاظهم بتبجيل علي وبوصفه الخليفة الرابع وصهر الرسول وفارس الإسلام. ولم يتأثروا بسياسة المتوكل في هذا الخصوص. (هادي العلوي وعلاء اللامي، المصدر السابق ص28).
ولكن هناك من يصب الزيت لتصعيد الخلاف العقائدي ليصبح صراعاً وعداءً طائفياً لإرضاء السلطان، ومن هنا بدأ الصراع الطائفي يأخذ لباسا سياسياً ويتضح من هذا بكل جلاء أن الطائفية هي نزعة سياسية وليس لها سند أو أساس عقائدي ديني، إذ أخذ أهل السنة يطلقون على الشيعة لقب “الروافض” باعتبار أنهم رفضوا الصحابة. بينما أطلق الشيعة على أهل السنة لقب “النواصب” باعتبار أنهم ناصبوا العداء لأهل البيت وحالفوا أعدائهم الأمويين. وبهذا تمادى الغلو من كلا الجانبين، وأصبح داءً اجتماعياً وبيلاً.
وفي حقيقة الأمر، وكما يقول الوردي: [لم يكن الشيعة “روافض” في أول أمرهم، وكذلك لم يكن أهل السنة “نواصب” إنما هو التطرف، وما سميَّناه، بالتراكم الفكري، الذي أدى بهما إلى هذه النتيجة المحزنة]. (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص 246)
ثم جاء البويهيون الشيعة في القرن الرابع الهجري، وخلال حكمهم لبغداد (334 -447 هـ)، وأضافوا بمجيئهم على الطنبور نغمة جديدة. ففي السنة 352هـ “أمرَ معزُّ الدولة النَّاس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النَّياحة في عاشر محرَّم…” (ابن الأثير، الكامل في التاريخ). فاستفاد الشيعة في عصرهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم، وتوسيع نشاطهم الفقهي، وجرت لأول مرة في بغداد تعازي عاشوراء- الذكرى السنوية لمذبحة كربلاء، تلك الطقوس التي استفزت السنة واعتبروها بدعة محرمة. فكانت تحصل مصادمات بين الغوغاء من الجانبين. وكان العقلاء من الجانبين يتدخلون لإطفاء الفتن. (نفس المصدر).
وفي عصرنا هذا “صار يوم عاشوراء عطلة رسمية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة (الدليل العراقي 1936). وفي زمن الجمهورية أخذت تُقرأ قصة مقتل الحسين من الإذاعة العراقية، وبصوت الخطيب عبد الزهراء الكعبي (ت 1974). لكن قبل تبنيها من قبل السلطة، كانت مأثرة الحسين يستذكرها النَّاس طواعية بإظهار الحزن بالنَّياحة شعراً وترتيلاً، وهي مطابقة إلى حدٍّ بعيد لما أورده الطبري (ت 310 هـ) في تاريخه. (د.رشيد الخيون، عاشوراء… قبل الحِقبة الصفوية، الاتحاد الإماراتية، – 22-12-2009).
كما ونشطت حركة التأليف عند فقهاء الشيعة في العهد البويهي، وتكاثر مؤلفو الشيعة الإثني عشرية، ونشط التأليف في الفقه والتاريخ والكلام والعقائد دون سابق مثال. وكان أئمة الشيعة قبل ذلك ينقلون تعاليمهم الفقهية من الحجاز إلى الشيعة في العراق بهدوء ودون استفزاز للطرف الآخر، وكانوا يكنون الاحترام للشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. أما في العهد البويهي فقد ظهرت مؤلفات فيها الغلو والمبالغة والاستفزاز للآخرين.
ولعل أهم هذه المؤلفات المعتمدة كتاب “الكافي” للكليني، أول كتب الشيعة الاثني عشرية. والكليني معاصر للإمام الثاني عشر-عهد الغيبة الصغرى- وتوفي عام 329 للهجرة. وللكليني كتابان: أصول الكافي، وفروع الكافي. وفيهما العقائد وأقوال الأئمة في قضايا الدين والدنيا ويخلوان من الهجوم على الشيخين. وأخبار الكافي موثقة في العموم… وتكاثرت المؤلفات بعد كتاب الكافي، وبرز ابن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق الذي كتب حوالي ثلاثمائة مصنف في التاريخ والأدب والفقه، “ولكن الأشد تأثيراً في تطور الطائفة الشيعية هو الشيخ المفيد، وكان في العراق في عز الحقبة البويهية وألف نحواً من مئتي كتاب في التاريخ والعقائد والفقه وقد حضي برعاية عضد الدولة البويهي وضمن مؤلفاته أخبار ملفقة كثيرة يطعن فيها بالخليفتين والصحابة، وهو الذي أطلق للرواية الشيعية خيالها الجامح وراء الأصول المرعية للكتابة عند المؤرخين المحترفين. وكتاباته استفزازية تثير التوتر وقد سخر منه المعري في إحدى لزومياته”. (هادي العلوي وعلاء اللامي، المصدر السابق)
وبناءً على ما تقدم نجد أنه لم يكن هناك أي صراع بين السنة والشيعة، بل كان صراعاً بين الطائفتين من جهة، وبين الحكام من جهة أخرى في العهد الأموي في أول الأمر، وإنما منشأ هذا الصراع الطائفي هو سياسي تم إشعاله من قبل السياسيين ومن أجل مصالح الحكام فقط، وهؤلاء الحكام يستأجرون الوعاظ والشعراء لتأجيج الفتنة الطائفية، بينما كان الثوار المخلصون من الفريقين يدافعون عن مصالح الفقراء والمظلومين من الفريقين أيضاً.
والجدير بالذكر أن في زماننا هذا راح يعزف على وتر الطائفية عدد غير قليل من رجال الدين، وبالأخص من الوهابيين، والكتاب والزعماء السياسيين، من داخل العراق وخارجه لإثارة الفتنة الطائفية وتسعيرها للتمادي في تمزيق الشعب العراقي، وخاصة بعد غزو النظام البعثي للكويت وهزيمته المنكرة. وازدادت هذه الحملة اشتعالاً بعد سقوط حكم البعث الصدامي، حيث راحت وسائل الإعلام، وخاصة الفضائيات والإذاعات، والصحافة المطبوعة والإلكترونية (الإنترنت)، تصب علينا سيلاً من هذه الحملات الإعلامية الموغلة في الطائفية تصب في خدمة أعداء الشعوب الإسلامية عموماً والعربية على وجه الخصوص، وبالأخص ضد الشعب العراقي.
كما وراح البعض من الكتبة يعيدون على الأذهان الاسطوانة المشروخة، فينشرون كتباً ومقالات تشغل الناس في الجدال القديم العقيم مثل: من هو الأولى بالخلافة، علي أم عمر أو أبو بكر؟ وكتب أخرى تكفر المسلمين الشيعة، ورحنا نسمع تسميات جديدة للشيعة مثل: الشيعة الصفوية، وأحفاد العلقمي، والشراكوة، …الخ، بل وراح عدي بن صدام حسين أبعد من ذلك إذ قال مرة في جريدة الشباب بأن الشيعة هم أولاد زنى. كما وظهر كتاب مدرسي صادر عن وزارة المعارف السعودية مثلاً بعنوان: (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية). ومن هنا يتساءل المرء، لمصلحة من كل هذه المؤلفات الداعية لتمزيق أبناء الأمة الواحدة والشعب الواحد؟ ومن الخاسر؟
حقاً ما قاله أبو العلاء المعري في هذا الصدد:
إن الشرائع ألقت بيننا إحَنا …..وعلمتنا أفانين العداواتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الفصل الثاني من كتاب (الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق).
وقد سبق وأن نشرنا الفصل الأول قبل أشهر كمقال مستقل بعنوان: (دور الطائفية في الأزمة العراقية) وقد أجرينا عليه بعض التعديلات، وهذا هو رابط النسخة الحديثة:
http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com