محمد خضير واكتشاف الامكنة
محمد خضير
المحاور: احمد الحيدري
ولد القاص محمد خضير في البصرة عام 1942، درس وتخرج من دار المعلمين في البصرة.
يركز محمد خضير في نصوصه على دور المكان وعلى المغيب (من الناس والأماكن) صدر له: المملكة السوداء، مجموعة: في درجة 45مئوي، رؤيا الخريف وكذلك الحكاية الجديدة.
في هذا اللقاء يتحدث محمد خضير عن بدايته مع النص القصصي وعن كتاباته التي اعتبر ما القراء كتابات نقدية وعن تأسيس نص مكاني يرصد المغيب في نفس الوقت.
المحاور: اهلاً بك سيد محمد.
محمد خضير: شكراً جزيلاً.
المحاور: الأسئلة اليوم تدور في هذه الحلقة حول النص القصصي، عند محمد خضير، سأبدأ مع قصة الأرجوحة، نشرت هذه القصة في مجلة الأدب البيروتية، كانت هي بداية التعرف على محمد خضر، على النطاق العربي، الأرجوحة ترتكز على انها تخبر عن حالة الوفاة، وعن ماتسببه وفي نفس الوقت، الحرب من دمار قد لا يلاحظ، اذ انه يكون حزناً داخلياً في العوائل الصغيرة، ومما تميزت ايضا به هذه القصة انها جائت بهذا الأسلوب الفني، اي ان الرواية بضمير الغائب والحكاية بضمير المتكلم، نتحدث عن الأرجوحة ومجلة الأدب في بداية هذا اللقاء.
محمد خضير: شكراً جزيلاً واتمنى للبرنامج واذاعة طهران الموفقية، قصة الأرجوحة من قصص الحرب، المكتوبة بعد نكسة حزيران عام1967، وهي من القسم الثاني من المجموعة الأولى: المملكة السوداء، وضم القسم الثاني قصصاً عن الحرب العربية – الصهيونية، والمقاومة الفلسطينية والحرب على جبهة الشمال العراقي، في ذلك الوقت، في كتابة القصة كنت في سن الخامسة والعشرين تقريبا عندما كتبت هذه القصة، ووجدت حقيقةً صعوبة في السيطرة على المشاعر الذاتية، التي كانت تختمر في نفس شابة، قليلة الخبرة في السياسة والحرب، لكني كنت على وعي كافي بظروف كتابة القصة، مع ذلك كانت الموازنة صعبة، بين الحدث الكبير وفن التعبير عن سخونته واثره وصدمته، في وقت كتابة القصة كنت معلما في ريف بجنوب البصرة، يعني الريف الممتد بين ابي الخصيب وحتى الفاو، وهذه المنطقة كما تعرفون تمتاز بجمال الطبيعة، فيها بساتين النخل والأنهار وفوق ذلك الصمت والهدوء، كنت احتاج الى هدوء الطبيعة العراقية، لمواجهة الجحيم المستعر على جبهة الحرب، بدلت الطبيعة العراقية بالطبيعة الفلسطينية، يعني نقلت الحدث الى بساتين النخيل، لذلك تفتتح القصة بشخصية الجندي العراقي المجاز وهو ينقل خبر استشهاد زميله على الجبهة، يسير هذا الجندي بدراجته الهوائية في جادة مظلله بسعف النخيل، ثم يلتقي بعائلة الجندي الشهيد، امه وزوجته وابنته، ويقضي معها وقتاً خارج وقت الحرب والدمار، حقيقةً ساعدتني الطبيعة العراقية على تعليق الحدث الفلسطيني، وتأجيل انفجار العواطف والمشاعر المصاحبة لنبأ الأستشهاد، تنتهي القصة نهاية رمزية تتناسب وقدسية الأستشهاد واستمرار الحياة بعد الموت.
بعض النقاد حقيقة انتقد المدخل الوصفي للقصة، واعتبروه خارجاً عن الحدث، لأني كنت اشعر بالطريق الطويل الذي كان علي ان اسلكها مع الجندي لكي نصل الى عائلة الجندي الآخر، قصة الأرجوحة قصة من ذلك الزمان، لكنها تصلح لأن تكون قصة هذا الزمان، وكل الأزمان، حقيقةً استطاع الوعي الشاب ان ينجو من مزالق قصص الحروب، فلكتابة قصص الحروب مزالق كثيرة، ولكن هذا الوعي الشاب، الوعي الناشئ، في وسط هذه الطبيعة، استطاع ان ينجو من مزالق خطرة، واستطاع ان يتفاداها في قصص أخرى عن الحرب، لذلك فهي تقرأ اليوم كما كانت تقرأ في ذلك الحين. بنفس السياق، لذلك اعتقد ان افتتاحك السؤال عنها كانت موفقة.
المحاور: هذا عن قصة الأرجوحة وما اثارته ايضا كما ذكرت المقدمة وهناك بعض الآراء النقدية التي جائت حول المقدمة، انتقل مع القاص محمد خضير الى المجموعة القصصية، وهي المملكة السوداء الصادرة عام 1972، والمجموعة الثانية وهي، في درجة 45 مئوي، الصادرة عام 1978، اكدت في المجموعتين عن الأماكن المعزولة والبيوت التي تسكنها النسوة والعجائز، وكان التركيز ايضا على الأمكنة المنزوية والمظلمة، اي طرح المغيب عن النص المكتوب في الأدب، المغيب عند محد خضير، كيف طرحه في نصه القصصي؟
محمد خضير: حقيقة المشهد القصصي، المشهدالذي يتمدد في قصصي، وخاصة في قصص المملكة السوداء بالذات، هو مشهد عراقي ثمين، ترى فيه نماذج القاع الأسفل من المجتمع العراقي، الشخصيات المنبوذة الهامشية، ذات الوعي المحدود، ولكن ذات الفعل ايضاً المؤثر في نفسية القاص، المعروف عن المجتمع العراقي في تلك الفترة انه مجتمع، هو ربما مازال، مجتمع ذكوري، كان يهمش وبقصي النساء، لذلك فقد تسابقت هذه النسوه في الدخول الى المملكة السوداء، النساء القابلات، كما عاملات المصانع، عالم من العباءات السود فرض عليه مؤثراته ووقائعه ومؤشراته، كما فرض على قصص تلك المرحلة عنوان المملكة السوداء، العنوان ايضا مستوحى من هذه العباءات السود، نعم كان هؤلاء هم الناس المغمورين، هم عبيد المجتمع وملوكه في نفس الوقت، هذه المملكة هي مملكة الجماعات المغمورة وصوتها المنفرد، بتعبير (اوكونوف) القصة القصيرة هي فن الكتابة عن الجماعات المغمورة، عن الصوت الخافت لهذه المجموعة، حقيقتاً كنت اصغي لنبض هذه النماذج، كي انقلها الى مستوى القصص التي اكتبها، هذا ايضاً عالم الخمسينات العراقي الواقعي، عالم مابعد الحرب العالمية الثانية، لذا فأن هذه النماذج تلتقي بأجمل النماذج القصصية التي كتبها قصاصو الخمسينات العراقيون، امثال عبد الملك نوري وملك الصقر ورائد فورمان و…ممن استطاعوا قبلي ان ينفذوا الى هذا القاع، الى قاع المملكة العراقية السوداء. هذه هي النماذج حقيقة التي جائت في مجموعتي الأولى.
المحاور: يعني نصل الآن الى نص له وقعه الخاص وكتب ايضاً في مرحلة زمنية خاصة، وهو نص بصرياتا، صورة مدينة صدر عام 1993، كتب هذا الكتاب بعد ان شعر محمد خضير ان المدينة في طريقها الى الدمار، وهي البصرة، ولكن الآن في هذه المرحلة كيف تقرأ هذا النص مع الوضع الحالي المعاش في تلك المدينة.
محمد خضير: قبل بصرياتا كانت هناك مجموعتين قصصيتين، في خريف 45 كما ذكرت، وصدرت مع بصرياتا بنفس الوقت، في هذه المجموعة عمل دؤؤب على ترسيخ الرؤيا التجريبية، اومااسميها بقصص الرؤيا، كتاب بصرياتا خلفية لتلك القصص يعني مراجعة وتأمل للخلفية التاريخية الأجتماعية من القصص التي كتبتها قبل بصرياتا، بصرياتا طبعا يرسم صورة لمدينة حقيقية هي مدينة البصرة والدخول اليها من مداخل تاريخية وتأهيلية، واقعية وحكائية، انها سيرة لمدينة كانت قائمة في الذاكرة، ذاكرة الطفولة والشباب، ذاكرة النشوء والدراسة، لكنها ايضاً صورة المدينة التي توشك على الزوال والأنمحاء على ارض الواقع، البصرة مدينة لا تستطيع ان تعيش الا في الذاكرة فقط، لذلك فأن قيامها الحقيقي لا يتم الا على اساس صورة او فكرة قائمة في الذاكرة، هذه هي صورة المدينة، صورة ذهنية تبحث عن اصولها الشاحبة في التاريخ، التاريخ الذي شهد ازدهار هذه المدينة في القرنين الثاني والثالث الهجري، عصر الأعتزال، عصر الجاحظ، عصر الحديث وجمع الشعر القديم، اعتقد ان صورة البصرة وقفت عند هذا الحد ولم تتجاوزه، اذا كانت قد تجاوزته بمعالم مدنية معينة، فهذه المعالم كانت دائماً مهددة بالزوال، دائماً قائمة لتزول، واعتقد ان هذا ما يقصد بتداول الأيام في السياسة، او تداول الأمور بين الناس او تداول الأمم وماشابه، ذلك اي ان اي مدينة تقوم لتبقى، فأن مصيرها الى الزوال، البصرة لقوة تاريخها، للمعان صورتها التاريخية، هي مدينة لا تتطور، وانما تقف عند حدود معينة، عند حدود الذاكرة، ذاكرة الأنسان الذي يعيش فيها، او ذاكرة المؤرخ الذي يؤرخ لها، لذلك انا انظر الى البصرة في الوقت الحاضر في هذه الأيام بنفس النظرة التي نظرت بها في الماضي، في وقت كتابة بصرياتا، حتى الأسم، اسم بصرياتا اشتققته من اسم آرامي كان يطلق على البصرة، والبصرة لها اسماء كثيرة ومعروفة في كتب التاريخ، وهذا يدل على ان حقيقة المدينة، حقيقة اسمية وليست حقيقة واقعية، حقيقة خيالية، حكائية، وليست واقعية، فالبصرة تعيش دائماً في ذاكرة من يكتب عنها، ولذلك وجدت البصرياتا قبل البصرة، كما قلت في المقدمة، كما ان گلگامش وجد قبل كوروس، هذه صورة لما اراه الأن فالمدينة ليست حقيقة هي المدينة القديمة، المدينة برأيي يجب ان تبنى من جديد، ولكن يجب ان تبنى على الذاكرة، على الصورة القديمة للمدينة، صورة المدينة القديمة التي كانت تعج بالأسواق بالمدارس وحلقات النقاش والجدال، بالأختلاف الفكري، بالتنوع القبلي، والجنسي، والقبائلي… الخ، يعني مدينة حيوية تقوم على اساس الذاكرة، ولا تقوم على اساس التاريخ الحديث.
المحاور: هناك عدة اسئلة عن المكان، والكتابة عن المكان عند محمد خضير، ولكن الوقت بدأ يدركني، وسأسئل هذا السؤال الذي يطرح نفسه ايضا فيما ذكرته، كان هناك توقف من قبل القاص محمد خضيرعن الكتابة، اي منذ عام 1978الى عام 1993، هل نستطيع ان نسأل عن الأسباب التي جعلت محمد خضير يتوقف عن الكتابة؟
محمد خضير: هي حقيقةً انقطاعات تستطيع ان تقول عنها هي فترات توقف لمواصلة، يعني فترات استعداد وتهيؤ لمواصلة، هي فترات تأمل ومواجهه وكتابة بعض المذكرات الخاصة، التي استطيع ان اراجع بها نفسي، واستطيع ان اقوم بها نفسي، ولفترات التوقف هناك سببان، سبب ربما المباشر، تتمثل بالظروف القاسية التي مر بها العراقيون اجمع ومر بها الكتاب بصورة خاصة، يعني هم كانوا تحت ضوء ومراقبة، لذلك فكان هناك من الصعوبة ان يكتب الأنسان اوالكاتب ما يرغب في كتابته، السبب الثاني هو السبب الذاتي وهو الأقوى في تفسير توقفي عن الكتابة هذا السبب الذاتي يرجع الى طبيعة، طبيعتنا نحن اهل الجنوب الذين تربينا على نوع معين من القناعة والزهد والأكتفاء والأعتكاف على العمل، سواء ان كان كتابة او شيء آخر، يتطلب هذا الأعتكاف مثل هذا الأنقطاع ومثل هذا التأمل، لأن الكتابة هي نوع من الممارسة الواعية الشديدة الألتصاق بسلبية الكاتب.
احمد الحيدري: عندما تحدثت عن قصة الأرجوحة قلت ان هناك بعض الأماكن التي كنت تعتز بها لأخذ بعض الصور كي تنزلها كصور مكتوبة في النص القصصي، يعني لاحظت بأن محمد خضير بين فترة واخرى يحتاج الى وقت لكي يعتزل ومن ثم يبدأ انتاج النص الأدبي؟
محمد خضير: هذا صحيح الى حد كبير، وكما بينت ايضا هذه البيئة التي يعيشها الكاتب العراقي في الجنوب، حقيقة تفرض عليه نوعاً من القناعة والجهد الى الظهور للناس، يعني ربما هذه طبيعة متوارثة، قديمة جداً، لانعرفها الآن الا بدراسة بعض الشخصيات الأدبية العربية التي عاشت في الجنوب العراقي، عندما ندرس الأمر دراسة عميقة، سنشاهد ان مثل هذه الشخصيات الزاهدة، كشخصية الجاحظ على سيبيل المثال التي لم تكن تتقرب الى الذوق، ولم تكن تتقرب الى قصور السلطان وماشابه، هذه الشخصية الجاحظية ربما نمت على صورتها كثير من الشخصيات الأدبية التي اعقبتها وجائت بعدها، فربما الشخصية العراقية التي تعيش في الجنوب، وربما تجد مثلها في الشمال، هناك شخصيات ادبية لاتنمو الا في ظروف العزلة والأنكفاء والأعتكاف على العمل والأخلاص الى العمل والسعي الى التجويد في العمل، شأن هذه الشخصيات شأن المحترف اليدوي، الذي يهمه ان يجود في صنعته.
المحاور: بقي سؤال او سؤوالين، واحد يتعلق بالكتابة النقدية، خاصة الحكاية، الحكاية الجديدة، هذا الكتاب صدرعام 1995، كيف رأيت ممارسة كتابة النص النقدي وليس النص القصصي الأبداعي؟
محمد خضير: هذا ايضاً يتعلق بالسؤوال السابق، هو في حقيقة الأمر ان النصوص في الحكاية الجديدة هي نصوص تأملية وليست نقدية لذلك كنت افضل ان اسميها سيرة نظرية، ذلك لأن هذه النصوص هي عبارة عن مراجعات نقدية للنصوص التي كتبتها، لظروف كتابتها، لتأمل نشأتها، كيف نشأت، ماهي المؤثرات الطبيعية والأجتماعية والسياسية، والتي ساعدت على نشأتها… الخ.
يعني هذه المقالات، اوهي في الحقيقة محاضرات متناثرة، كانت نتيجة افرازات جانبية، او مثلما نقول تفاعلات جانبية لكتابة القصة، وكنت اكتبها اثناء كتابة القصص، ولذلك تجمعت ببطئ وعلى شكل مقاطع ومذكرات يومية متفرقة، الى ان صارت بهذه الصورة الذي نشرت في الكتاب، هي الحقيقة ليست نصوصاً نقدية، ذلك لأني لا امارس النقد، وانما هي تأملات نقدية او مراجعات لما كنت اكتب من نصوص قصصية.
المحاور: ممتاز جداً، طيب سؤوال اخير الذي سأختم به هذه الحلقة من برنامج ضيف وحديث، وهو عما يفعله محمد خضير الآن؟ هل يقوم بعمل جديد؟
محمد خضير: انجزت عملاً قبل عامين ومنذ ذلك الحين انا لم اكتب شيئا، بل اراقب واتأمل، انظر واشاهد واشارك الناس في انتشارهم اليومي، انظر واترقب واخدم، لذلك حقيقةً ربما كان لهذا السعي، ربما كان سينتج كتاباً اولا، لدي كتاب حاضر، هو مجموعة نصوص قصصية وسيرية ذاتية، ربما افلح في تفعليه للطبع، ولكن بعد هذا الكتاب لا املك ما اصرح به.
المحاور: لم يبقي لي في ختام هذا اللقاء مع القاص محمد خضير الا ان اشكرك.
محمد خضير: شكرا لكم وشكراً للأخوة المستمعين، ارجو ان يصل صوتي الى ابعد مكان.
المحاور: ان شاء الله، ان شاء الله.
يركز محمد خضير في نصوصه على دور المكان وعلى المغيب (من الناس والأماكن) صدر له: المملكة السوداء، مجموعة: في درجة 45مئوي، رؤيا الخريف وكذلك الحكاية الجديدة.
في هذا اللقاء يتحدث محمد خضير عن بدايته مع النص القصصي وعن كتاباته التي اعتبر ما القراء كتابات نقدية وعن تأسيس نص مكاني يرصد المغيب في نفس الوقت.
المحاور: اهلاً بك سيد محمد.
محمد خضير: شكراً جزيلاً.
المحاور: الأسئلة اليوم تدور في هذه الحلقة حول النص القصصي، عند محمد خضير، سأبدأ مع قصة الأرجوحة، نشرت هذه القصة في مجلة الأدب البيروتية، كانت هي بداية التعرف على محمد خضر، على النطاق العربي، الأرجوحة ترتكز على انها تخبر عن حالة الوفاة، وعن ماتسببه وفي نفس الوقت، الحرب من دمار قد لا يلاحظ، اذ انه يكون حزناً داخلياً في العوائل الصغيرة، ومما تميزت ايضا به هذه القصة انها جائت بهذا الأسلوب الفني، اي ان الرواية بضمير الغائب والحكاية بضمير المتكلم، نتحدث عن الأرجوحة ومجلة الأدب في بداية هذا اللقاء.
محمد خضير: شكراً جزيلاً واتمنى للبرنامج واذاعة طهران الموفقية، قصة الأرجوحة من قصص الحرب، المكتوبة بعد نكسة حزيران عام1967، وهي من القسم الثاني من المجموعة الأولى: المملكة السوداء، وضم القسم الثاني قصصاً عن الحرب العربية – الصهيونية، والمقاومة الفلسطينية والحرب على جبهة الشمال العراقي، في ذلك الوقت، في كتابة القصة كنت في سن الخامسة والعشرين تقريبا عندما كتبت هذه القصة، ووجدت حقيقةً صعوبة في السيطرة على المشاعر الذاتية، التي كانت تختمر في نفس شابة، قليلة الخبرة في السياسة والحرب، لكني كنت على وعي كافي بظروف كتابة القصة، مع ذلك كانت الموازنة صعبة، بين الحدث الكبير وفن التعبير عن سخونته واثره وصدمته، في وقت كتابة القصة كنت معلما في ريف بجنوب البصرة، يعني الريف الممتد بين ابي الخصيب وحتى الفاو، وهذه المنطقة كما تعرفون تمتاز بجمال الطبيعة، فيها بساتين النخل والأنهار وفوق ذلك الصمت والهدوء، كنت احتاج الى هدوء الطبيعة العراقية، لمواجهة الجحيم المستعر على جبهة الحرب، بدلت الطبيعة العراقية بالطبيعة الفلسطينية، يعني نقلت الحدث الى بساتين النخيل، لذلك تفتتح القصة بشخصية الجندي العراقي المجاز وهو ينقل خبر استشهاد زميله على الجبهة، يسير هذا الجندي بدراجته الهوائية في جادة مظلله بسعف النخيل، ثم يلتقي بعائلة الجندي الشهيد، امه وزوجته وابنته، ويقضي معها وقتاً خارج وقت الحرب والدمار، حقيقةً ساعدتني الطبيعة العراقية على تعليق الحدث الفلسطيني، وتأجيل انفجار العواطف والمشاعر المصاحبة لنبأ الأستشهاد، تنتهي القصة نهاية رمزية تتناسب وقدسية الأستشهاد واستمرار الحياة بعد الموت.
بعض النقاد حقيقة انتقد المدخل الوصفي للقصة، واعتبروه خارجاً عن الحدث، لأني كنت اشعر بالطريق الطويل الذي كان علي ان اسلكها مع الجندي لكي نصل الى عائلة الجندي الآخر، قصة الأرجوحة قصة من ذلك الزمان، لكنها تصلح لأن تكون قصة هذا الزمان، وكل الأزمان، حقيقةً استطاع الوعي الشاب ان ينجو من مزالق قصص الحروب، فلكتابة قصص الحروب مزالق كثيرة، ولكن هذا الوعي الشاب، الوعي الناشئ، في وسط هذه الطبيعة، استطاع ان ينجو من مزالق خطرة، واستطاع ان يتفاداها في قصص أخرى عن الحرب، لذلك فهي تقرأ اليوم كما كانت تقرأ في ذلك الحين. بنفس السياق، لذلك اعتقد ان افتتاحك السؤال عنها كانت موفقة.
المحاور: هذا عن قصة الأرجوحة وما اثارته ايضا كما ذكرت المقدمة وهناك بعض الآراء النقدية التي جائت حول المقدمة، انتقل مع القاص محمد خضير الى المجموعة القصصية، وهي المملكة السوداء الصادرة عام 1972، والمجموعة الثانية وهي، في درجة 45 مئوي، الصادرة عام 1978، اكدت في المجموعتين عن الأماكن المعزولة والبيوت التي تسكنها النسوة والعجائز، وكان التركيز ايضا على الأمكنة المنزوية والمظلمة، اي طرح المغيب عن النص المكتوب في الأدب، المغيب عند محد خضير، كيف طرحه في نصه القصصي؟
محمد خضير: حقيقة المشهد القصصي، المشهدالذي يتمدد في قصصي، وخاصة في قصص المملكة السوداء بالذات، هو مشهد عراقي ثمين، ترى فيه نماذج القاع الأسفل من المجتمع العراقي، الشخصيات المنبوذة الهامشية، ذات الوعي المحدود، ولكن ذات الفعل ايضاً المؤثر في نفسية القاص، المعروف عن المجتمع العراقي في تلك الفترة انه مجتمع، هو ربما مازال، مجتمع ذكوري، كان يهمش وبقصي النساء، لذلك فقد تسابقت هذه النسوه في الدخول الى المملكة السوداء، النساء القابلات، كما عاملات المصانع، عالم من العباءات السود فرض عليه مؤثراته ووقائعه ومؤشراته، كما فرض على قصص تلك المرحلة عنوان المملكة السوداء، العنوان ايضا مستوحى من هذه العباءات السود، نعم كان هؤلاء هم الناس المغمورين، هم عبيد المجتمع وملوكه في نفس الوقت، هذه المملكة هي مملكة الجماعات المغمورة وصوتها المنفرد، بتعبير (اوكونوف) القصة القصيرة هي فن الكتابة عن الجماعات المغمورة، عن الصوت الخافت لهذه المجموعة، حقيقتاً كنت اصغي لنبض هذه النماذج، كي انقلها الى مستوى القصص التي اكتبها، هذا ايضاً عالم الخمسينات العراقي الواقعي، عالم مابعد الحرب العالمية الثانية، لذا فأن هذه النماذج تلتقي بأجمل النماذج القصصية التي كتبها قصاصو الخمسينات العراقيون، امثال عبد الملك نوري وملك الصقر ورائد فورمان و…ممن استطاعوا قبلي ان ينفذوا الى هذا القاع، الى قاع المملكة العراقية السوداء. هذه هي النماذج حقيقة التي جائت في مجموعتي الأولى.
المحاور: يعني نصل الآن الى نص له وقعه الخاص وكتب ايضاً في مرحلة زمنية خاصة، وهو نص بصرياتا، صورة مدينة صدر عام 1993، كتب هذا الكتاب بعد ان شعر محمد خضير ان المدينة في طريقها الى الدمار، وهي البصرة، ولكن الآن في هذه المرحلة كيف تقرأ هذا النص مع الوضع الحالي المعاش في تلك المدينة.
محمد خضير: قبل بصرياتا كانت هناك مجموعتين قصصيتين، في خريف 45 كما ذكرت، وصدرت مع بصرياتا بنفس الوقت، في هذه المجموعة عمل دؤؤب على ترسيخ الرؤيا التجريبية، اومااسميها بقصص الرؤيا، كتاب بصرياتا خلفية لتلك القصص يعني مراجعة وتأمل للخلفية التاريخية الأجتماعية من القصص التي كتبتها قبل بصرياتا، بصرياتا طبعا يرسم صورة لمدينة حقيقية هي مدينة البصرة والدخول اليها من مداخل تاريخية وتأهيلية، واقعية وحكائية، انها سيرة لمدينة كانت قائمة في الذاكرة، ذاكرة الطفولة والشباب، ذاكرة النشوء والدراسة، لكنها ايضاً صورة المدينة التي توشك على الزوال والأنمحاء على ارض الواقع، البصرة مدينة لا تستطيع ان تعيش الا في الذاكرة فقط، لذلك فأن قيامها الحقيقي لا يتم الا على اساس صورة او فكرة قائمة في الذاكرة، هذه هي صورة المدينة، صورة ذهنية تبحث عن اصولها الشاحبة في التاريخ، التاريخ الذي شهد ازدهار هذه المدينة في القرنين الثاني والثالث الهجري، عصر الأعتزال، عصر الجاحظ، عصر الحديث وجمع الشعر القديم، اعتقد ان صورة البصرة وقفت عند هذا الحد ولم تتجاوزه، اذا كانت قد تجاوزته بمعالم مدنية معينة، فهذه المعالم كانت دائماً مهددة بالزوال، دائماً قائمة لتزول، واعتقد ان هذا ما يقصد بتداول الأيام في السياسة، او تداول الأمور بين الناس او تداول الأمم وماشابه، ذلك اي ان اي مدينة تقوم لتبقى، فأن مصيرها الى الزوال، البصرة لقوة تاريخها، للمعان صورتها التاريخية، هي مدينة لا تتطور، وانما تقف عند حدود معينة، عند حدود الذاكرة، ذاكرة الأنسان الذي يعيش فيها، او ذاكرة المؤرخ الذي يؤرخ لها، لذلك انا انظر الى البصرة في الوقت الحاضر في هذه الأيام بنفس النظرة التي نظرت بها في الماضي، في وقت كتابة بصرياتا، حتى الأسم، اسم بصرياتا اشتققته من اسم آرامي كان يطلق على البصرة، والبصرة لها اسماء كثيرة ومعروفة في كتب التاريخ، وهذا يدل على ان حقيقة المدينة، حقيقة اسمية وليست حقيقة واقعية، حقيقة خيالية، حكائية، وليست واقعية، فالبصرة تعيش دائماً في ذاكرة من يكتب عنها، ولذلك وجدت البصرياتا قبل البصرة، كما قلت في المقدمة، كما ان گلگامش وجد قبل كوروس، هذه صورة لما اراه الأن فالمدينة ليست حقيقة هي المدينة القديمة، المدينة برأيي يجب ان تبنى من جديد، ولكن يجب ان تبنى على الذاكرة، على الصورة القديمة للمدينة، صورة المدينة القديمة التي كانت تعج بالأسواق بالمدارس وحلقات النقاش والجدال، بالأختلاف الفكري، بالتنوع القبلي، والجنسي، والقبائلي… الخ، يعني مدينة حيوية تقوم على اساس الذاكرة، ولا تقوم على اساس التاريخ الحديث.
المحاور: هناك عدة اسئلة عن المكان، والكتابة عن المكان عند محمد خضير، ولكن الوقت بدأ يدركني، وسأسئل هذا السؤال الذي يطرح نفسه ايضا فيما ذكرته، كان هناك توقف من قبل القاص محمد خضيرعن الكتابة، اي منذ عام 1978الى عام 1993، هل نستطيع ان نسأل عن الأسباب التي جعلت محمد خضير يتوقف عن الكتابة؟
محمد خضير: هي حقيقةً انقطاعات تستطيع ان تقول عنها هي فترات توقف لمواصلة، يعني فترات استعداد وتهيؤ لمواصلة، هي فترات تأمل ومواجهه وكتابة بعض المذكرات الخاصة، التي استطيع ان اراجع بها نفسي، واستطيع ان اقوم بها نفسي، ولفترات التوقف هناك سببان، سبب ربما المباشر، تتمثل بالظروف القاسية التي مر بها العراقيون اجمع ومر بها الكتاب بصورة خاصة، يعني هم كانوا تحت ضوء ومراقبة، لذلك فكان هناك من الصعوبة ان يكتب الأنسان اوالكاتب ما يرغب في كتابته، السبب الثاني هو السبب الذاتي وهو الأقوى في تفسير توقفي عن الكتابة هذا السبب الذاتي يرجع الى طبيعة، طبيعتنا نحن اهل الجنوب الذين تربينا على نوع معين من القناعة والزهد والأكتفاء والأعتكاف على العمل، سواء ان كان كتابة او شيء آخر، يتطلب هذا الأعتكاف مثل هذا الأنقطاع ومثل هذا التأمل، لأن الكتابة هي نوع من الممارسة الواعية الشديدة الألتصاق بسلبية الكاتب.
احمد الحيدري: عندما تحدثت عن قصة الأرجوحة قلت ان هناك بعض الأماكن التي كنت تعتز بها لأخذ بعض الصور كي تنزلها كصور مكتوبة في النص القصصي، يعني لاحظت بأن محمد خضير بين فترة واخرى يحتاج الى وقت لكي يعتزل ومن ثم يبدأ انتاج النص الأدبي؟
محمد خضير: هذا صحيح الى حد كبير، وكما بينت ايضا هذه البيئة التي يعيشها الكاتب العراقي في الجنوب، حقيقة تفرض عليه نوعاً من القناعة والجهد الى الظهور للناس، يعني ربما هذه طبيعة متوارثة، قديمة جداً، لانعرفها الآن الا بدراسة بعض الشخصيات الأدبية العربية التي عاشت في الجنوب العراقي، عندما ندرس الأمر دراسة عميقة، سنشاهد ان مثل هذه الشخصيات الزاهدة، كشخصية الجاحظ على سيبيل المثال التي لم تكن تتقرب الى الذوق، ولم تكن تتقرب الى قصور السلطان وماشابه، هذه الشخصية الجاحظية ربما نمت على صورتها كثير من الشخصيات الأدبية التي اعقبتها وجائت بعدها، فربما الشخصية العراقية التي تعيش في الجنوب، وربما تجد مثلها في الشمال، هناك شخصيات ادبية لاتنمو الا في ظروف العزلة والأنكفاء والأعتكاف على العمل والأخلاص الى العمل والسعي الى التجويد في العمل، شأن هذه الشخصيات شأن المحترف اليدوي، الذي يهمه ان يجود في صنعته.
المحاور: بقي سؤال او سؤوالين، واحد يتعلق بالكتابة النقدية، خاصة الحكاية، الحكاية الجديدة، هذا الكتاب صدرعام 1995، كيف رأيت ممارسة كتابة النص النقدي وليس النص القصصي الأبداعي؟
محمد خضير: هذا ايضاً يتعلق بالسؤوال السابق، هو في حقيقة الأمر ان النصوص في الحكاية الجديدة هي نصوص تأملية وليست نقدية لذلك كنت افضل ان اسميها سيرة نظرية، ذلك لأن هذه النصوص هي عبارة عن مراجعات نقدية للنصوص التي كتبتها، لظروف كتابتها، لتأمل نشأتها، كيف نشأت، ماهي المؤثرات الطبيعية والأجتماعية والسياسية، والتي ساعدت على نشأتها… الخ.
يعني هذه المقالات، اوهي في الحقيقة محاضرات متناثرة، كانت نتيجة افرازات جانبية، او مثلما نقول تفاعلات جانبية لكتابة القصة، وكنت اكتبها اثناء كتابة القصص، ولذلك تجمعت ببطئ وعلى شكل مقاطع ومذكرات يومية متفرقة، الى ان صارت بهذه الصورة الذي نشرت في الكتاب، هي الحقيقة ليست نصوصاً نقدية، ذلك لأني لا امارس النقد، وانما هي تأملات نقدية او مراجعات لما كنت اكتب من نصوص قصصية.
المحاور: ممتاز جداً، طيب سؤوال اخير الذي سأختم به هذه الحلقة من برنامج ضيف وحديث، وهو عما يفعله محمد خضير الآن؟ هل يقوم بعمل جديد؟
محمد خضير: انجزت عملاً قبل عامين ومنذ ذلك الحين انا لم اكتب شيئا، بل اراقب واتأمل، انظر واشاهد واشارك الناس في انتشارهم اليومي، انظر واترقب واخدم، لذلك حقيقةً ربما كان لهذا السعي، ربما كان سينتج كتاباً اولا، لدي كتاب حاضر، هو مجموعة نصوص قصصية وسيرية ذاتية، ربما افلح في تفعليه للطبع، ولكن بعد هذا الكتاب لا املك ما اصرح به.
المحاور: لم يبقي لي في ختام هذا اللقاء مع القاص محمد خضير الا ان اشكرك.
محمد خضير: شكرا لكم وشكراً للأخوة المستمعين، ارجو ان يصل صوتي الى ابعد مكان.
المحاور: ان شاء الله، ان شاء الله.