خلال مقالاتنا السابقة رأينا الكاتب الراحل عبد الوهاب المسيري يتنقل بين عدة نماذج في نقده للفكر العلماني العربي محاولا نقد أطروحاتهم و من ثمّ ينتقل بنا المسيري إلى الكاتب السوري هاشم صالح (المقيم في باريس ـ لا أدري أن كان المسيري أشار إلى هذه النقطة على سبيل الطعن!!)، يبدو واضحا و جليا أنه ـ أعني المسيري ـ يكره كل ما له علاقة بالتصوف فيقول: و يتحدث الكاتب السوري هاشم صالح… عن:”أوروبا علمانية، متحررة، عقلانية، لا أثر للأصولية الدينية فيها”، كما يتحدث عما يسميه “معجزة الحداثة” و عن “حظ أوروبا و سرّ تفوقها على بقية سكان العالم، و نجاحها الذي يخطف الأبصار”، بعد هذه الغنائية الصوفية القصيرة في وصف المعجزة العلمانية بنورها المتدفق، يبيّن لنا هاشم صالح النموذج الكامن وراء هذه المعجزة، و هو اندلاع أكبر ثورة علمية و روحية في تاريخ البشرية في أوروبا، أتت بما يسميه “الصورة العلمية”، و في توضيحه لهذه الصورة العلمية يعطينا هاشم صالح ملامح النموذج الكامن وراء العلمانية كما يُعرّفها بأنها ((صورة الكون الفيزيائي الموحد الخاضع للقوانين [و المرجعية] الصارمة للفيزياء الرياضية… هذه الفيزياء الرياضية تفسر الظواهر كافة، سواء في مجال العلوم الطبيعية، أم في مجال العلوم الإنسانية))، أي أن معجزة الحضارة الغربية و سر نجاحها و تقدمها يكمن في أن الإنساني يخضع للقوانين الصارمة للفيزياء الرياضية (و هذا في تصورنا ـ المسيري ـ هو تفكيك الإنسان الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى اختفائه).” ـ العلمانية تحت المجهر ص 70 ـ 71
لقد بنى الأوروبيون حضارتهم و منذ أمد بعيد، في العصر اليوناني حيث كان يتناقش سقراط و السفسطائيون و أفلاطون و أرسطوطاليس و غيرهم كثير، كان كل هؤلاء رغم اختلاف مشاربهم الفكرية و العملية يتفقون على حقيقة واحدة و هي أن من حق الإنسان أن يطرح الأسئلة و إذا كانت الكتب المقدسة تخبرنا أن الأنبياء طرحوا الأسئلة على الذات الإلهية فلماذا لا يحق لنا أن نطرح الأسئلة على البشر، فعالمنا الواسع المادي هو من التنوع إلى درجة أننا نعجز عن إحصائها، و هنا يصدق مثل إيراني جميل يقول “أن الطرق المؤدية إلى الله هي بعدد خلقه”، بينما ضيق المسيري التعريف الذي يصف المرجعية الفكرية الدينية إلى أبعد الحدود، و بالتالي لا يمكننا أن نتطور و نحن في الوقت ذاته نفرض أحكامنا المسبقة على المادة و على الإنسان و بالتالي ننصح الإنسان أن يبقى جاهلا بالحقيقة لأن “الحقيقة قبيحة” و هو أعجب رأي خرج مفكر!! لكن له أمثلة مشابهة في عصور الظلام الإسلامية حينما كان يُنظر إلى المعرفة على أنها “خطرة”.
ثم ينتقل المسيري إلى الاستشهاد بكاتب آخر فيقول:
“و قد استخدم الكاتب السوداني عبدالسلام سيد أحمد صورة مجازية، قريبة من صورة الدائرتين المتداخلتين التي نستخدمها، لوصف العلاقة بين التصورين الجزئي و الشامل للعلمانية، إذ أنه يرى أن العلمانية مكونة من دوائر ثلاث متداخلة، أما الدائرة الأولى (و لنسمها ـ المسيري ـ “علمنة السياسة”) فهي مبدأ فصل الدين عن الدولة، أي أنها علمانية تنطبق على عالم السياسة و حسب، و تلزم الصمت بخصوص الحيز غير العلماني و الثنائيات و المطلقات و المرجعيات غير المادية، أما الدائرة الثانية (الأكثر اتساعا) فهي العلمنة الفكرية ((المتمثلة في بروز الفكر العقلاني الطبيعي)) (المرجعية المادية)، ثم يتحدث بعد ذلك عن الدائرة الثالثة (التي تشمل الدائرتين الأخريين) التي يسميها ((العلمنة الاجتماعية)) (أي تطبيق الرؤية العلمانية الشاملة على النشاطات التي تجري في المجتمع) و يُعرّفها بأنها تقوم على إحلال منظومة متكاملة من القيم و الأخلاق و العلائق الإنسانية أو “الإنسية” مقابل “الدينية”، و هكذا ننتقل من التعريف الجزئي إلى التعريف الشامل، و من الدائرة الصغيرة ذات النطاق المحدود إلى الدائرة الكبيرة ذات النطاق الكلي الشامل.” ــ العلمانية تحت المجهر ص 71 ـ 72
إن تعميم العلمانية بحيث جعلها نظرية شاملة يدخل ضمنها “الإلحاد” أو “ضد الدين” بعبارة أخرى، هو من أكبر التجني على العلمانية، فقد يكون متدين أو رجل دين أقرب إلى العلمانية من ذلك المادي الذي لا يؤمن إلا بقانون الطبيعة الصارم و التقليدي، فقد كان البروتستانتيون و أولهم “مارتن لوثر” من أوائل من دفع باتجاه العلمانية حينما دفع بالمجتمع إلى الثورة على الكنيسة الكاثوليكية و سلطة البابا و حاشيته الذين كانوا يستغلون الدين لمصالح سياسية و دنيوية، كما أن البروتستانتية وُفقت تماما حينما دعت إلى إعطاء الفرد الحق في الوصول و الخلاص الفردي ـ بدون وساطة رجال الدين ـ و هي فكرة قد تكون وصلت إلى الكنائس من خلال احتكاكهم بالمسلمين، و لكي تتوضح الفكرة أكثر ننقل ما يلي عن كتاب “تاريخ أوروبا الحديث” لمؤلفه “جيفري براون” حيث يقول:
“و الحق أن الحياة المادية و الفكرية في الخمسين سنة التي سبقت الثورة البروتستانتية في ألمانيا كانت شديدة التناقض فقد تقدمت العلوم من جهة و اشتدت رغبة الناس فيها كما فرح الجميع بفن الطباعة الحديثة و ما كان يحمل إليهم من آثار النهضة في إيطاليا و من أخبار العالم الجديد وراء البحار، و أصبح تجار ألمانيا الأغنياء موضع إعجاب الآخرين، بما جمعوا من مال و ما كانوا يتمتعون به من رخاء أو يصرفونه في سبيل تشجيع الفن و الأدب و تشييد المدارس و المكتبات. و من الجهة الثانية ازداد سخط الناس و انتشرت الفوضى في البلاد و كثر الشحاذون في جميع الأنحاء، و سادت الخرافات، و قست القلوب فلم يبق فيها محل للرحمة و الإحسان، و فشلت كل المساعي لإصلاح الحكومة، و جاءت الأخبار بتقدم الأتراك على العالم المسيحي، و صار البابا يطلب من سكان ألمانيا أن يتضرعوا إلى الله في صلواتهم كل ظهيرة عندما تضرب الكنائس نواقيسها لينقذهم من شر الأعداء الكفرة. و عندما نبحث عن الظروف التي أدت إلى قيام الثورة البروتستانتية، فإننا نجد أمامنا جملة من العوامل نذكر منها:
1 ـ التحمس الشديد لجميع مظاهر الحشمة و المراسيم القديمة التي كان يظهر بها الدين و الاعتقاد المتين بالحجج و المعجزات و بزيادة المقامات الدينية، و هذه الأشياء التي أسرع البروتستانت إلى نبذها و الإعراض عنها.
2 ـ الميل القوي إلى قراءة الإنجيل و الاعتقاد بأن الإيمان وحده ينقذ الإنسان من الخطيئة لا الحركات و المظاهرات الخارجية الرسمية.
3 ـ الاعتقاد بأن علماء اللاهوت أضافوا إلى الدين تعقيدات لا طائل من ورائها بإكثارهم من التعاريف المنطقية الدقيقة.
4 ـ و أخيرا شيوع الفكرة القديمة العامة بأن رؤوساء الدين في إيطاليا و في جملتهم البابا لا هدف لهم إلا جمع المال من الألمان الذين كانوا في نظرهم سخفاء يسهل إقناعهم و التلاعب بعقولهم.
كان رجال النهضة الألمان بين الصفوف الأولى من طلائع المنتقدين، و أولهم (رودولف كريكولا)، و هذا و إن لم يكن أول من درّس العلوم القديمة فقد كان أول من حمل الناس على دراستها لما كان لشخصيته من قوة و جاذبية. و يختلف رودولف عن جميع معاصريه بأنه كان شغوفا باللغة القومية ـ يقصد الكاتب اللغة الألمانية التي كانت مهملة من الكنيسة ـ بالإضافة إلى ولعه باللغة اللاتينية و الإغريقية، داعيا إلى ترجمة الآثار القديمة إليها.” المصدر ـ ص 179 ـ 180
و كما ترى عزيزي القاريء، فإن المسيري يتجاهل الدور السلبي للدين الطقوسي ـ و لا نعني الدين الفلسفي الروحي ـ في تسريع عملية الفصل بين الدين و الدولة و التي تمت بموازاة علمنة الفكر و تنقية العقل من الخرافة و الذي كان ـ و لا زال في كثير من المجتمعات ـ يفسر الكوارث بالإرادة الإلهية و الغضب الإلهي، بل إن الصراع بين منطق العلم و الدين الخرافي الطقوسي امتد حتى إلى عصر فولتير و الزلزال الذي ضرب أسبانيا مما دفع البابا إلى الزعم إلى أن “هذا غضب الله حاق بأعداءه”، من هنا نجد أن الدين نفسه في أوروبا كان دافعا و محركا نحو تحرير الدين ن السلطة السياسية أو العكس، أي إستغلال رجال الدين للسياسة، من هنا يحاول المسيري إيهام القاريء بأن كل ما تم كان “لدوافع مادية بحتة” و أن الدين انضم إلى المعسكر العلماني كحصيلة لهزيمته، بينما العكس هو الذي حصل، حيث قرّر أغلبية المسيحيين تحرير الدين من مستغليه رغم أن ذلك استغرق وقتا طويلا.