فبعد أن تم اغتيالها، وما حصل بعد ذلك من كوارث على أيدي الجناة البعثيين، راح كثيرون يتساءلون فيما لو كانت ثورة تموز ضرورية، ويلومونها، ويحملونها مسؤولية جميع الفواجع التي نزلت على العراق فيما بعد، بدلاً من إلقاء اللوم على الانقلابيين والجناة الحقيقيين الذين قاموا باغتيال الثورة وإجهاض مسيرتها الحضارية. فقد بات مؤكداً لدى كل منصف وذي ضمير، أنه لو لم تحصل جريمة 8 شباط 1963 لحققت الثورة معظم مشاريعها التي وعدت بها، وفعلاً استجابت حكومة الثورة بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم، لمعظم استحقاقات التاريخ المتراكمة، وأنجزت خلال عمرها القصير، معظم برنامجها العمراني الذي وضعته اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار، إضافة إلى تحقيق الكثير من برامج الأحزاب المنضوية في جبهة الإتحاد الوطني، وخاصة برنامج الحزب الوطني الديمقراطي، ويشهد بذلك المؤرخ حنا بطاطو في كتابه عن تاريخ العراق الحديث.
ذكرنا في ندوات ومقالات سابقة احتفاءً بهذه المناسبة، أن ما حدث يوم 14 تموز 1958 كان ثورة وليس انقلاباً، وذلك بشهادة أكاديميين عالميين مثل المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون، الذي قال أن الثورة العراقية هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية، والمؤرخ بطاطو أيد ذلك بما حققته الثورة من مكتسبات، وما حدث من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية.
وإذا سلمنا بأن ما حدث في ذلك اليوم كان ثورة، فهناك حقيقة أخرى تبرز لنا في صالح الحدث، وهي أن الثورات لا يمكن تفجيرها بفرمان من أحد أو حسب الرغبات، وإنما هي وليدة الظروف الموضوعية، تحصل إذا ما توفرت لها العوامل الذاتية، أي أدوات التنفيذ، التنظيم والقيادة.
ويؤكد هذه الحقيقة الفيلسوف الأمريكي Peter F Drucker في كتابه الموسوم (عصر القطيعة مع الماضي) ما نصه: “أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية – البنية التحية- تستدعي “إحداث” تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية.”
والسبب الرئيسي الذي خلق الظروف الموضوعية للثورة هو العهد الملكي نفسه الذي تجمَّد وأصر على معارضة التطور الطبيعي التدريجي السلمي الذي يحمي الشعب من الهزات الثورية وما يرافقها من احتمالات كارثية. هذا الكلام لا يفهمه أعداء ثورة 14 تموز، ومن غير المتوقع أن يقروا به، ومن المؤسف القول أنه يتساوى في هذا الخصوص، المتعلمون منهم وأنصاف المتعلمين.
أما العوامل الذاتية (أداة التنفيذ) فكانت متوفرة في تنظيمين كبيرين، كانا يتمتعان بشعبية واسعة، وهما: الجناح العسكري المتمثل بتنظيم الضباط الأحرار، والتنظيم السياسي المدني المتمثل في أحزاب جبهة الاتحادي الوطني، إضافة إلى تعبئة الجماهير نفسياً وشعورها العارم بالحاجة إلى التغيير الثوري.
والسؤل التالي هو، ما هي الظروف الموضوعية التي نمت في رحمها ثورة 14 تموز 1958؟
للإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى مراجعة سريعة لتاريخ العراق الحديث والتأمل في الموروث الاجتماعي للشعب العراقي.
العداء المستفحل بين الشعب والحكومة
لسوء حضه، ورث العهد الملكي عداءً ضده منذ ولادته. وهذا العداء بين الشعب العراقي والحكومات العراقية المتعاقبة لم يكن جديداً، بل له جذوره التاريخية الضاربة في العمق منذ التاريخ المدون، وتذمر الحكام من العراقيين وتمرداتهم على الحكام، منذ الاسكندر المقدوني، ومروراً بحكم الحجاج في العهد الأموي وما تلته من عهود، وبالأخص في العهد العثماني الذي دام أربعة قرون من المظالم والانحطاط الحضاري، والذي أوصل الشعب العراقي إلى حافة الانقراض قبيل الحرب العالمية الأولى وتحريره من الاستعمار العثماني على أيدي البريطانيين ومن ثم ولادة الدولة العراقية الحديثقة.
لذلك فالعداء للحكومة تجذر عبر الأجيال في وعي الشعب وصار جزءً لا يتجزأ من ثقافته الشعبية، أي موروثه الاجتماعي (culture). وعليه فمن الطبيعي إذا ما تبنى الشعب العراقي العداء ضد حكومات العهد الملكي ومنذ ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1921، خاصة وأن هذه الولادة تمت على يد القابلة البريطانية، أي الاستعمار “الكافر”. ولذلك أيضاً، شئنا أم أبينا، فقد وصم الشعب العراقي العهد الملكي بأنه عميل للاستعمار، بغض النظر عما قدمه هذا العهد من منجزات للشعب العراقي رغم ظروف التخلف والشح المادي والافتقار إلى الخبرات البشرية. وقد اتفق في هذا العداء لحكومات العهد الملكي جميع شرائح الشعب، من الأحزاب السياسية المعارضة، والمثقفين (الانتلجنسيا) ورجال الدين، إضافة إلى جماهير الشعب الفقيرة، إلى درجة أن اعتبر الولاء للحكومة خيانة وطنية، والعداء لها شهادة بالوطنية!!.
وبالمقابل، ولقصر نظرها، وافتقارها إلى الحكمة والحنكة السياسية، كانت الحكومات المتعاقبة تقوم بدورها الفعال في تغذية وتأجيج هذا العداء، وسنأتي لبيان ذلك لاحقاً.
هل كان العهد الملكي مستقراً ومزدهراً؟
كثير من المثقفين والمعلقين المهتمين بالشأن العراقي يرددون بمناسبة وبدونها، وخاصة بعد أن حصل ما حصل من كوارث فيما بعد، أن العهد الملكي كان عهد الديمقراطية والاستقرار والازدهار لولا ثورة 14 تموز التي اقتلعت النبتة الديمقراطية الطرية، وفتحت عهداً جديداً من الدمار والخراب وسلسلة الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار. فمدى صحة ذلك؟
ولنكن منصفين، نقول نعم كانت بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة واعدة بمستقبل زاهر، ويعود الفضل في ذلك كما أعتقد بالدرجة الأولى إلى حكمة وحنكة المرحوم الملك فيصل الأول، وخبرته التي اكتسبها من تجربته الفاشلة في سوريا. فكان الرجل يتمتع بشخصية كارزماتية جذابة، ومؤثرة، وبزعامة روحية، فكان يحظى باحترام مختلف القيادات، السياسية والدينية والعشائرية، وكان يلتقي بقيادات المعارضة ويشرح لهم المصاعب التي تواجهها الدولة الفتية، ويعدهم بالاستجابة لمطالبهم وتحقيق طموحاتهم في الاستقلال الناجز وبمستقبل زاهر، وبأن الخير قادم على شرط أن لا يقوموا بأي عمل عنفي يزعزع أمن واستقرار الدولة. وكان الرجل متفهما بعمق لمشاكل العراق، ذكرها في مذكرة له وزعها على رجالات الحكم عام 1933، مبيناً فيها مشاكل الشعب العراقي والصراعات بين مكوناته وتفشي التذمر بينها من الحكومة، وعدم تجانسها، واقترح الحلول المطلوبة لتحويل هذه المكونات المتصارعة إلى شعب متجانس ومتماسك. وفعلاً سارت الأمور في عهده بسلام ماعدا المجزرة المروعة التي ارتكبها الفريق بكر صدقي ضد الآثوريين في غياب الملك، واستنكرها الملك بشدة، ويُعتقد أن كان لها دور في موته المفاجئ والمبكر من شدة الانفعال.
كان الصراع عنيفاً ليس بين أفراد النخبة الحاكمة وبين المعارضة الوطنية فحسب، بل وحتى بين رجال الحكم أنفسهم. وكان الملك فيصل الأول عبارة عن صمام أمان ومركز الجذب يجذب إليه القيادات المتنافرة، يمنع الصدام فيما بينهم، محافظاً على تماسكهم الشكلي على الأقل. ولكن لسوء حظ الشعب العراقي أن الملك المؤسس توفي في وقت مبكر بعد أشهر من كتابة مذكرته المشار إليها. ومنذ وفاته، لم ير العراق أي استقرار حتى هذه الساعة، إذ انفرط العقد بين قادة الكتل الحاكمة مثل ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد، وحكمت سليمان وغيرهم،، فبدأت الصراعات الدموية فيما بينهم تظهر على السطح بعد وفاة الملك، فما أن يترأس الوزارة أحدهم حتى ويتآمر الآخرون على الحكومة، فيحركون العشائر ضدها في انتفاضات عشائرية مسلحة هنا وهناك مما تضطر الحكومة بمواجهتها بالقسوة المفرطة. وهذه المسائل مدونة في كتب تاريخ العراق الحديث ومذكرات أقطاب ذلك العهد.
ومن نتائج هذه الصراعات بعد وفاة الملك المؤسس، تدشين عهد الانقلابات التي بدأت بانقلاب بكر صدقي عام 1936، وما تلاه من انقلابات عسكرية أخرى. كذلك شهدت البلاد سلسلة من الانتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية، والتمردات العشائرية المسلحة طوال تاريخ العهد الملكي، وكانت الحكومة تواجهها جميعاً بالبطش المفرط وإصدار القرارات التعسفية بمصادرة الحريات العامة، وملء السجون بالمعتقلين السياسيين، كما وتم قتل متظاهرين أمام السفارة البريطانية عام 1946، وقتل أكثر من أربعين من عمال النفط المضربين في مجزرة كاور باغي في كركوك في العام نفسه، إضافة إلى قتل متظاهرين في شوارع بغداد في وثبة كانون 1948 التي حوكم وأعدم على أثرها قادة الحزب الشيوعي العراقي عام 1949. وفي انتفاضة تشرين 1952 أستشهد متظاهرون. كما وقتلت الشرطة بأمر من السلطات العليا عشرات السجناء السياسيين بالرصاص في سجن الكوت وسجن بغداد المركزي عام 1953، لا لشيء إلا لأنهم اضربوا عن الطعام احتجاجاً على سوء أوضاعهم داخل السجن.
ومن الأدلة الأخرى على عدم الاستقرار في العهد الملكي، أن تألف في ذلك العهد 16 مجلساً نيابياً، أستكمل مجلس نيابي واحد فقط دورته الاعتيادية وهي أربعة أعوام. كما وأُعلِنت الأحكام العرفية 16 مرة بين عامي 1921-1958، أي نحو 50% من العهد الملكي كان تحت الحكم العرفي العسكري، إضافة إلى انتهاكات ضد الدستور مثل إسقاط الجنسية عن العديد من المعارضين من مختلف الاتجاهات السياسية، كما وتفشت ظاهرة التعذيب على أيدي أجهزة الأمن وغيرها من الانتهاكات مثل قيامه بإعدام قيادة الحزب الشيوعي العراقي دون أي مبرر إلا بسبب الاختلاف الأيديولوجي ورغم ادعاء النظام بالديمقراطية الليبرالية.
نستنتج من كل ما تقدم أن عهداً لازمته كل هذه الفوضى الدائمة لا يمكن أن نسميه بعهد الديمقراطية والاستقرار والازدهار.
حول شخصية نوري السعيد
لا يكتمل الحديث عن العهد الملكي وتداعياته إلا بذكر شيء عن شخصية نوري السعيد. فقد طغىت هذه الشخصية التاريخية الفريدة على ذلك العهد حتى سمي بعهد نوري السعيد. والسبب هو أنه كان أحد مؤسسي الدولة العراقية، ولعب أكثر من غيره في رسم سياسة ذلك العهد، إذ ترأس الحكومة 14 مرة، ويعتقد أنه كان الحاكم الفعلي حتى عندما كان خارج الحكومة، ولعب دوراً مهماً في جميع مفاصل الدولة وبالتالي أدى إلى نهايته التراجيدية المؤلمة.
إحدى المشاكل في ثقافتنا المورثة هي المبالغة. نحن نبالغ في إسباغ الصفات الحميدة على من نحب بحيث نجعل منه عبقرياً وملاكاً ونرفعه إلى أعلى العليين، أما إذا كنا نبغضه فنحط به إلى أسفل السافلين ونضفي عليه أسوأ صفات العمالة والخيانة. فنوري السعيد عند خصومه وخاصة بعد عقدين من الثورة، هو خائن للوطن وعميل للاستعمار الانكليزي، والآن وبعد حلول الكوارث، تحرك البندول إلى الطرف الآخر، فصار نوري السعيد ليس وطنياً مخلصاً فحسب، بل وعبقرياً وداهية في السياسة دوَّخ الإنكليز والأمريكان وغيرهم وكان يأخذون حذرهم منه!!.
لذلك وبعد أن هدأت الأعصاب، وبدأنا نعيد النظر في قراءة التاريخ بهدوء، وما حل علينا من كوارث، أود التأكيد، وحسب آراء الكثيرين من المؤرخين المعتدلين، أن نوري السعيد وغيره من رجالات العهد الملكي لم يكونوا خونة أو عملاء للاستعمار، بل جميعهم كانوا وطنيين ونزيهين ومخلصين للعراق، ومعظمهم ماتوا فقراء. ولكنه في نفس الوقت لم يكن نور السعيد عبقرياً أو داهية دوَّخ الإنكليز وغيرهم، فلو كان كذلك لسار على نهج الملك فيصل الأول في التعامل مع قادة المعارضة واحترم الرأي العام العراقي والعربي، وتعامل معهم على قدر عقولهم كما تقتضيه ظروف المرحلة، ولعرف أن السياسة فن الممكن، ولانحنى أمام العواصف دون أن ينكسر، تماماً كما عمل العاهل الأردني ملك حسين بمنتهى الحكمة فانحنى أمام العواصف، وبذلك أنقذ شعبه من الهزات العنيفة. ولكن بدلاً من ذلك، لجأ نوري السعيد وغيره من رؤساء حكومات العهد الملكي إلى سياسة القمع ضد كل من يعارضهم وتحدي العواصف والاستهانة بالجماهير والرأي العام، دون أن يدرك مخاطر سياساته تلك. ولذلك ساهم هو في تأجيج العداء ضده وإظهاره من قبل معارضيه بالشر المطلق.
فنوري السعيد، رغم نزاهته ووطنيته، وأخلاقه الطيبة كإنسان، كان من أهم نقاط ضعفه أنه بقي على ثقافته العثمانية القديمة دون أن يتطور مع تطور المجتمع العراقي، ورفض الاستجابة لاستحقاقات التاريخ، واتبع سياسة القمع في فرض سياساته بغض النظر عن أهداف هذه السياسة فيما إذا كانت في صالح الشعب أو ضده. وكغيره من الزعماء العرب، كان مصراً على احتكار السلطة والتمسك بها إلى آخر لحظة من حياته، ولم يتخلَ عنها إلا عن طريق الموت الطبيعي أو إزاحته بالقوة. وهذا ما حصل له، وبالتالي جلب البلاء على نفسه وعلى العراق، وانتهى بتلك النهاية التراجيدية المؤسفة.
ولذلك قال الشيخ علي الشرقي عنه: “أن نوري السعيد أصر على حكم العراق في الخمسينات بعقلية العشرينات”. وقال عنه الصحفي البريطاني بول جونسن عام 1957: ” إن نوري السعيد، وإن كان ما يزال حياً، فهو أشبه بالمخلفات التاريخية البالية.”.
الديمقراطية في العهد الملكي
رغم ادعاء العهد الملكي بالديمقراطية إلا إنه وباعتراف البعض من شخصيات ذلك العهد في مذكراتهم، أنه لا يمكن تسمية الحكم الملكي بالنظام الديمقراطي أو حتى شبه ديمقراطي.
لقد واجه الحكم المعارضة بحملات القمع من الاعتقالات والتعذيب والملاحقات والإبعاد والفصل عن العمل ومن الدراسة في الجامعة، والإعدام، وإسقاط الجنسية عن المناضلين لحملة الأفكار التي لا تتفق مع أفكار النخبة الحاكمة، إلى آخره من الممارسات القمعية الانتقامية ضد جماهير الشعب. ولذلك نعتقد أن حكومات العهد الملكي كانت تعمل بنفسها على تهيئة وإنضاج الظروف الموضوعية للثورة .
لا ينكر أن حصل تطور كبير في العهد الملكي في مختلف المجالات، الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، (عدا المجال الديمقراطي)، ونتيجة لهذا التطور، نشأت طبقات اجتماعية جديدة مثل الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية المكونة من المثقفين وبالتالي تكونت الطبقة الوسطى، إلا إن النخبة الحاكمة، وخاصة نوري السعيد، لم يتغيروا، بل أصروا على عدم التغيير، وإبقاء الوضع السياسي على ما كان عليه في العشرينات وقبل ولادة هذه الطبقات الاجتماعية.
وفي هذا الخصوص يقول الدكتور منذر الشاوي في مقدمة لكتاب: (نظام برلماني ممسوخ قاد إلى ديكتاتورية ملكية): “إن البرجوازية العراقية بدأت تنمو بشكل محسوس، إلا إن هذا النمو البرجوازي صادف وجود طبقة إقطاعية قوية، فلم تستطع الطبقة البرجوازية في ظل النظام الملكي من تنحيتها ولم تحدث بينهما المصالحة التي تمت في العديد من دول أوربا الغربية بين طبقة ملاك الأراضي والطبقة البرجوازية.”
ومن كل ذلك نفهم أن النظام الملكي كان ديمقراطياً في الظاهر وبالاسم فقط، وإقطاعياً مستبداً في الجوهر، الأمر الذي أساء إلى سمعة الديمقراطية وقدمها للشعب العراقي بشكل مشوه مما دفع الشعب العراقي إلى تصور خاطئ عن الديمقراطية بأنها لعبة من أجل خدع الجماهير وتعني حقم الاقطاعيين. ولذلك فضلت الجماهير الأيديولوجيات الشمولية على الديمقراطية المشوهة مما يدفع ثمنه شعبنا حتى الآن.
وعليه فقد استنفد دور العهد الملكي بسب سيطرة شيوخ العشائر من الإقطاعيين عليه، وأصبح عائقاً أمام التقدم والاستجابة لمتطلبات التطور المادي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعب العراقي، وبذلك انتهى دوره التاريخي، وبدأ يتفسخ مع الزمن ولابد أن يزول ليفسح المجال أمام قوى تاريخية وطبقات اجتماعية جديدة صاعدة تنسجم مع متطلبات المرحلة وتستجيب لقوانين ومتطلبات حركة التاريخ في التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ففي المجال الديمقراطي، يشهد رجال العهد الملكي أنفسهم، من مثال الأستاذ عبدالكريم الأزري وأحمد مختار بابان وغيرهما، دونوا شهاداتهم في مذكراتهم، أكدوا فيها عدم وجود ديمقراطية بالمعنى الصحيح، إذ كانت الحكومة هي التي تعيِّن أعضاء مجلس النواب وليس العكس، لذلك ما أن تتغير الحكومة، فأول عمل يقوم به الرئيس المكلف، هو حل البرلمان وإجراء انتخابات صورية جديدة لاختيار نواب آخرين يدعمون سياسة الحكومة الجديدة.
وفي هذا الخصوص يقول الباحث والمؤرخ العراقي الدكتور كمال مظهر أحمد: “وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام (الملكي) في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة”
كما ويقول المؤرخ المعروف الراحل مجيد خدوري في كتابه (العراق المستقل): “لقد تم القضاء على حرية التعبير، فأُسكِت السياسيون والكتاب والمواطنون الواعون بإجراءات تعسفية لم يسبق لها مثيل، وغصت السجون ومعسكرات الإعتقال بأناس مختلفي الإتجاهات .. من شيوعيين إلى ليبرالين إلى إشتراكيين إلى ناصريين إلى كرد قوميين إلى ساخطين على الوضع بصورة عامة ووضع جانب منهم تحت الرقابة بإبعادهم عن مسقط رأسهم وشمل القمع كل قطاع.. “
ويلخص الشاعر محمد مهدي الجواهري في ذكرياته الوضع بقوله: ” لقد كان الشعب العراقي يفتش عن خلاص وعن تحرر من الحكم الملكي والتبعية والأحلاف والمعاهدات… وطبيعي أن يكون العراق غير مستقر لا داخلياً ولا خارجياً ولا اجتماعياً ولا سياسياً ولا قتصادياً.(الجواهري، ذكرياتي، ص192″.
وقد بلغ السيل الزبى، أو القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقولون، في الانتخابات البرلمانية عام 1954، عندما حصلت المعارضة على 11 مقعد من مجموع 131 مقعد، وكان رئيس الوزراء يوم ذاك أرشد العمري، فلم يتحمل نوري السعيد وجود 11 نائباً معارضاً، فقام بانقلاب القصر على أرشد العمري، وحل البرلمان الذي لم يعقد أي اجتماع آخر بعد اجتماعه الأول لافتتاحه بخطاب العرش، فحله نور السعيد وقام بتشكيل الحكومة برئاسته، وأصدر المراسيم الاستبدادية وحملة اعتقالات واسعة. وبذلك فإن نوري السعيد أغلق جميع منافذ التطور السلمي البرلماني، وفقدت المعارضة الوطنية كل أمل في إمكانية التغيير بالوسائل السلمية الديمقراطية، خاصة وإن ضرورات التغيير كانت موجودة وبإلحاح، وعليه صارت الثورة حتمية.
أيهما أفضل، العهد الملكي أو العهد البعثي الصدامي؟
يعترض البعض بالقول، ألم يكن العهد الملكي أفضل مما حصل فيما بعد وخاصة في عهد البعث الصدامي؟ ألم يكن نوري السعيد أفضل من صدام حسين، أما كان من الأفضل الانتظار إلى أن يتم التخلص من السعيد بالموت الطبيعي ودون إراقة الدماء وتعريض البلاد إلى هزات عنيفة لا يمكن التنبؤ بعواقبها الوخيمة، خاصة وقد حصل ما حصل فيما بعد من كوارث؟
والجواب طبعاً هو بالإيجاب، أي أن العهد الملكي كان أفضل من حكم البعث، ونوري السعيد أفضل من صدام حسين بلا حدود بحيث لا يقبل المقارنة بين العهدين والشخصيتين.
ولكن التاريخ لا يعمل وفق هذا المنطق، بل وفق مبدأ (لكل فعل رد فعل) وحسب وقته ، فلأمور مقرونة بأوقاتها. فالجهة التي تأخذ القرار بالثورة تعمل بناءً على الظروف الموضوعية الآنية والأحداث التاريخية قبلها التي أنتجت تلك الظروف. أما المستقبل فليس لدى الإنسان القدرة بعلم الغيب وما سيحصل في المستقبل.
والدليل على صحة الظروف الموضوعية الداعية للتغيير، هو التأييد العارم الذي تلقته الثورة من الجماهير الشعبية الواسعة في اللحظات الأولى من تفجيرها ودون أن تتطوع أية جهة للدفاع عن العهد الملكي. فمن حق أبناء ذلك الجيل الذين قاموا بالثورة والذين ساندوها، أن يقرروا مصيرهم بما يرونه صحيحاً وفق ظروف مرحلتهم.
وهناك حقيقة أخرى يجب الانتباه إليها وهي، أن جيل قادة ثورة تموز كانوا يختلفون في الثقافة عن جيل نوري السعيد ورفاقه من مؤسسي الدولة العراقية. فجيل التأسيس كانوا من نتاج وتربية العهد التركي العثماني، ومعظمهم تخرجوا من المدارس العسكرية العثمانية وخدموا في الجيش العثماني. بينما جيل ثورة 14 تموز كانوا من خريجي المدرسة الوطنية العراقية، متشبعين بالروح الوطنية والعداء للاستعمار، ويطمحون بالاستقلال الناجز والسيادة الوطنية الكاملة.
النظرية الخلدونية في الثورات
هناك نظرية لابن خلدون حول الثورات، شرحها الراحل علي الوردي في كتابه الموسوم (منطق بن خلدون)، مفادها أن يرى ابن خلدون أن الثورة الفاشلة تستحق الفشل لأن القائمين بها لم يهيئوا لها الشروط اللازمة والكافية من التماسك (العصبية) لنجاحها. يعترض العلامة الوردي على ابن خلدون بقوله أنه لو اتبع الناس هذه الشروط الخلدونية في الثورات، لما حصلت في التاريخ أية ثورة ولا أي تغيير في الحكم، ولبقيت المجتمعات البشرية جامدة خاملة وخاضعة لحكم الطغاة كقطعان الماشية من الخرفان. ويضيف الوردي، أنه حتى الثورات الفاشلة قد تصبح مقدمة تمهد للثورات الناجحة في المستقبل.
وفيما يخص ثورة 14 تموز، فقد كانت ناجحة بامتياز، واحتضنتها الجماهير الشعبية الواسعة، ودامت لأربع سنوات ونصف السنة، وحققت منجزات كبيرة للشعب، ولكنها ذهبت ضحية مؤامرات وتعقيدات الأوضاع الداخلية والخارجية في ظروف الحرب الباردة.
كما ولم يكن عبد الكريم قاسم دموياً أو رجل مغامرات حتى يغامر باستقرار العراق فيقوم بالثورة المسلحة حيث قال بهذا الخصوص في أحد خطبه، أنهم لم يقوموا بالثورة إلا بعد أن تأكدوا أنه لا أمل في إصلاح الوضع السياسي والاجتماعي وإنصاف الشعب بنيل حقوقه بالوسائل السلمية.
الاستنتاج
ونتيجة لكل ما تقدم، نعتقد أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية كانت تلح على التغيير وتنذر بكارثة ما لم يحصل التغيير بالوسائل السلمية. إلا إن سلطة العهد الملكي المتمثلة بنوري السعيد وعبد الإله لم تعرف هذا المنطق وكانت تهيئ بدون وعي لهذا الانفجار الهائل .
وفي غياب الوسائل الديمقراطية السلمية للتغيير، فإن الثورة المسلحة من قبل الجيش كانت هي الرد المنطقي والحتمي للتغيير المطلوب، لذلك كانت الثورة في صبيحة 14 تموز 1958 المجيدة حتمية تاريخية بدون أدنى شك واستجابة لتراكمات استحقاقات التاريخ، بدليل التأييد العارم لها من الجماهير الواسعة من أقصى العراق إلى أقصاه منذ اللحظات الأولى من إندلاعها.
والدليل الآخر على شرعية الثورة وحتميتها وشعبيتها، ورغم التشويه الإعلامي المتواصل لأربعين عاماً من حكم التيار القومي والبعثي ضد الزعيم عبدالكريم قاسم والطعن بوطنيته وقوميته ودوره في ثورة تموز، فما أن أنهار حكم البعث وأسقط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس في بغداد يوم 9/4/2003، حتى وسارعت الجماهير وتبرعت من أموالها، ونصبت تمثالاً للزعيم عبدالكريم قاسم في رأس القرية، شارع الرشيد، المكان الذي قام صدام حسين وعصابته بمحاولة اغتياله. هذا هو حكم التاريخ العادل بحتمية ثورة 14 تموز ومكانة الشهيد الخالد الزعيم عبدالكريم قاسم في ضمير الشعب العراقي.