اله صغير عيناه واسعتان تحدقان فيهم يترقب وريبة …… ,الرجل الاسمر ضخم الجثة ,يغطي راسه بكوفية بيضاء , كانت عيونه تراقب حركات ايديهم وهم يتناولون السلع المستهلكة ويتفحصونها ويتساءلون .. عليه ان يجيبهم عن السعراو النوع وهل هي شغالة او لا .. حتى يتصدع راسه ..كانت السلع تتبعثر على الاسفلت المتسخ , متراكمة بفوضى وتزحف خانقة خط المرور..فرش اسنان بالية .. اقلام لا تقطر ولا تتذكر قارورة الحبر اجهزة كهرباء صغيرة معطلة شاحنات مبايل بلغت الشيخوخة مذياع من عشرين عاما ..مقصات تناست الشحذ,دمى من قطع بالية,كتب بلا حروف ودفاتر عبث فيها… عجلات صغار مكسرة .. علب سرية المحتوى .. وهو يقف مرتفعا عنها على الرصيف كمن يلقي خطابا على جمهور لا يفهم لغته .. فجاة افرد يديه وصاح بصوت احتجاج ( لا ندري الان من اشترى ومن لم يشتر ).. كان في صوته المتهالك ما يدعو الى الشفقة او السخرية .. ونحيب التاجر على بضاعة فتك بها البحر ,صوت حزين من اعماق الروح الموغلة بالملل واللاجدوى , صوت الانكسار الانساني امام قوة القدر .لكن الزبائن لا يبالون يعبثون بالسلع يتفحصونها بدقة يرفعون رؤوسهم نحوه ويسالون ,ويغادرون بلا مبالاة ساخرين او متحجرين . سمرته العميقة.. وعيناه السوداوان ولحظة الغروب الزاحفة كثفت من عتمة المشهد .اقل من نصف وستتحول المعروضات الموشومة بالقدم الى اشباح, الى مخزن الذاكرة المزدحمة وربما سوف تنسى ..في انتظار يوم اخر يتجدد فيه المشهد .من يهتم برجل تنتظره افواه يكاد يطوى يومه في انتظار زبون حقيقي .سيحشر سلعه الشبيهة بالقمامة بكيس كبير ويسح خيبته وسينام بلا حلم او اسف .وربما ردد (الله كريم ) او يلعن السماء.وخطا الصديقان ثلاثة امتار وهما يمسحان الدمع ضاحكين …فقد حرض فيهما موجة الضحك مظهر الرجل الستيني وهو يرفع يديه ناعبا (من اشترى ومن لم يشتر لا ندري ) قالها وكل ما بين اصابعه ورقتان من نقد بسيط لا تكفيان لشراء علبة سجائر رخيصة .. ونظر صاحبه فحدق هو بانجذاب ممغنط لثلاثة رجال يجلسون خلف البائعين شبه ضائعين بين اكوام السلع .. سمر الوجوه والاثواب.. تسلط الظلال الكثيفة عتمة عميقة عليهما … ( بماذا يتحدثون؟..ما يفعلون ؟ أي عوالم تسحرهم : مخدرات .. خمور … شبان مخنثون او تنظيم سري …ولعلهم يخططون لسطو ليلي .. او مخدرون من الفاقة او كل يشكو لاصحابه عن هم عائلي وزوجات علقم .. او حظ عقيم ) ..كان الصديقان احدهما يطلق وصفا عليهم فيكمل الاخر,وتقدما حتى بركا امام بسطة لبيع الخرافات والآلهة , ينتصب امامها شاب مرن لطيف .(هل اقتنيها ؟). سأل صاحبه وهو يقلب بمنحوتة خشبية صغيرة تمثل امرأة في حركة جسد متوترة وربما تسندها يدان .. فنظرها صاحبه وقال (لك الخيار ).. (الفان ) قال البائع .. وانهمرت اعين كثيرة على القطعة الخشبية الغامضة ..وتنوع التفسير (فراعنة)اطلقها رجل في الثلاثين تشع من عينيه روح الفكاهة .فاجابه صاحبي وقد انطلق فيه ينبوع المرح : (ههه ..لا هو اله ).. لحظتها توقف رجل سمين طويل اسمر بدشداشة بيضاء وكوفية يوحي شكله بسكير معتق وروح صفرت الاشياء وتشبعت باللامبالاة فحدق في المنحوتة وقد سمع جملة صاحبي فقال (كيف هو رب )قالها مبتسما .. فرفع اليه صاحبي عينين تغالبان الدمع( نعم هو اله لكن صغير ).. فضحك الرجل وتحولت ملامحه من الجد والوقار الى خفة متزنة وضج المشترون بالضحك .كان البائع يصغي ويتفاعل ويبتسم .هنا تجد امهر البائعين واكثرهم تثعلبا .. تمرسوا بالغش والحذر وهم يدرسونك وانت تشتري ويصنفونك في لحظات ويخيطون لك الاسلوب حسب مقاسك الشخصي .. كل هذا يجري في لحظات …والاخطر من كل هذا ان اشترى ثعلب من متثعلب .. واندلعت موهبة الكشف والتحدي .لقد انقضى ربع قرن على التصيد السهل .. حين كان السوق طازجا وكثير من الباعة لا يمتهنون البيع .. تدفعهم الفاقة لعرض مقتنياتهم …زحف السوق وتوسع وتعذر دخول النساء اليه وبذلت السلطة جهودا ضائعة لنقله لمكان اخر لكنه لم يتزحزح ..كان مربوطا بقوة لتاريخه وموقعه بسلاسل الاصرار .. الا ان روحه اصابه الوهن والمسخ ..فاحاطته بسطات مثبتة ومحال لقطع غيار العجلات والانشاء..تكدر الارواح بصلابة المعروضات ورائحة الزيوت .ولم تعد ترى الكتب النادرة ولا كثيرا من المبهرات .بدأ المسخ مذ عرضوا الاسلحة علنا وجربوها وسط الزحام ومنذ بدات المفخخات تحصد ما شاءت من رواده وباعته. …
: ـ (تعال لو زلمة ..بالنعال والترتيب ..) كان يشاجر شابا نحيلا يعمل في بسطة مشويات على بعد ثلاثة امتار نافخا صدره رافعا انفه بزهو ..( انت في باب رزق تعال هنا ..) ويجيبه الاخر بصوت واهن لا يكاد يسمع …فيزداد هذا انفعالا متقنا ويرد رافعا ذراعة محتقن الوجه , مشيرا اشارة فاحشة صارخا (انت كل يوم مفصوم ).. ونظرت لصاحبي وانا اتناول الزاد في مقهى مكشوف وسالته (هل تدرك هذه المصطلحات (الترتيب .. مفصوم ) فابتسم مجيبا (لالا… نحتاج دورات لنفهم لغة بعض هذا الجيل .. )..وتجمهر الناس وهما يتبادلان الشتم والتحدي دون ان يخطو احد نحو احد …. قال صاحبي (انها تشبه العراك لدى اهالي بغداد …يخيل اليك هناك ان الواحد سيفتك بالاخر لكنه شجار استعراضي كاذب )… واضاف (شاب الترتيب هذا هو صنف استعراضي يتقن اللعبة )..ومر شاب يرتدي الكابوي الضيق وشعره اللامع ينسدل طويلا على كتفيه..مر رافعا وجهه نافخا صدره موترا كتفيه لعله لم يلتفت لقبحه كان يصل الى اقصى الفرع من امام مفحمة الشاي يكلم شخصا غامضا ويعود ويكرر جولته : (يوحي بمشية عسكرية لكنه يتقن هز عجزيته المضغوطة بالبنطال ..) فحدق صاحبي ليتاكد وقال (أي سر يحمله واي تفسخ ) .هنا الجذور في شاشة السوق المتنقلة .. تكتشف تعفن الارواح وما فعله اليأس فيها حيث ترحلت القيمة الاخلاقية عن الاشياء .. لم يعودوا ينتظرون منقذا ولا تعنيهم عجلات الزمن :تمركزوا بقتل اللحظة وعبروا المقدس والخوف والممنوع .. انهم في انتظار انتحارهم ..اتعبهم البحث المضني عن الحلول فاكتشفوا الخلاص .. عبر قتل كل حماس وكل لحظة فرح واحساس بالجمال . حفروا على جدران هذا الزقاق العتيق هبوطهم ..كانت بائعات القيمر ينشرن الابتسامات المنحوتة ويستعرضن الحمرة الخالصة في الخدود.. يتربعن في المنعطفات امام بسطاتهن .والباعة بلغوا الانهاك من المساومة وتارجح الميزان .. وقال لهما احد الباعة (انه جوز هندي ) فيسالونه (اين جوز الشمال )\ ويعلمان ان اكثر المواد مستوردة….. لم نعد ننتج الا الفتك والسرقة ..سيعودون ليتصارعوا في اسرهم ..فهم استانسوا الحروب ..ايام مستنسخة واحلام دفنوها من قرون ..الليل ذئب مندفع سيحول مجرى السوق الملون الى مقبرة .. وسيهزمه فجر رتيب فيعود ليثأر ..سيدلع الصراع , ستقاوم الوان الفاكهة وجمال المعلبات وسحر المصوغات والاحجار الكريمة والباعة الخائبون وفتية احتلهم الفراغ ومحال الملابس البارقة لكن الليل سيتمكن من الجميع .القى نظرة على هرم واجم ذابل افنى سنينا جالسا امام بسطته يقلب البيض وعلى الكتابات بخط بدائي على جدران خضبها دخان حطب وخددها القدم.. وتأمل السلع المنسية على صفيح سقف الزقاق , كرسي مهشم من الخيزران ,ابريق تراثي ..قزان بدين مثقب …ورأى الدكاكين التي غيرت زبائنها وعناوينها الاف المرات..وذلك الرجل في الستين يضع نظارة سوداء ويمسك بمقص .. منقبض النبض ..ترحل زمانه ومجده ..وفقد براعة التاجيل ونظراتهم القلقة والمتوسلة اليه ولم تعد ماكنته تعمل الا للترقيع والكف..هنا في هذا المكان بالضبط ربما جرت السواقي وتدلت العناقيد والعثوق ..يعتني بها رجال سمر اشداء حفاة بدشاديش مرقعة وبطون خاوية ..او ربما هو وكر لقطاع الطريق والسراق او مخبأ سري لتنظيم سري .من هنا ربما اندلعت تظاهرة احتجاج على سلطة دموية. .