بنظرة ثاقبة يقدم لنا الشاعر كريم جخيور قراءة جديدة للتماثيل مسلطاً الضوء عليها وموليها اهتماماً بعد أن بدت له تلك الرموز التاريخية مفرغة من محتواها ليس لمرة واحدة ، بل لمرتين ، الأولى حين تتحول الشخصية التاريخية بكل ما تملك من رفعة وسمو، من قدرة وسطوة ، من عنفوان أحاسيس وجيشان مشاعر الى قطعة من حجر ، فالقادة والمحاربون
-( وهم يمسكون الجهات )
والذين حز وا بسيوفهم اللامعة الرؤوس وبقروا بطون أعدائهم ، تراهم
(يطعنون الهواء برماح صدئة )
واذا بخيولهم الجامحة تحولت الى
-( خيول من اسمنت )
والتورية جميلة في عبارة ( يمسكون الجهات ) ،ترى من يمسك الجهات الآن ؟؟سؤال يخبئه الشاعر في رحم القصيدة وهو يستنطق أبرز صفاتهم بتلك السخرية اللاهبة ( يطعنون الهواء ) ،والالهة العظيمة التي كانت تضج في محرابها محافل النذور والصلوات ، تقف صماء
-( موشومة بالأدعية ودماء القرابين )
تلك مقاربة جميلة لتقديم صورة الالهة محفوفة بالدماء ، ترى كم سكبت من الدماء باسم الالهة – والملوك الذين أحكموا سطوتهم على البلاد وتنعموا بالحسان من الجواري والعبيد تراهم
-( بلا جوار ولا حاشية ودونما عبيد )
نهاية مخيبة يهمس بها الشاعر في أذن تمثال ما ، أما الشعراء وإن كانت ذكراهم رفيقة لكؤوس البهجة وأنيس للصبية والعاشقات فهم وكما عاشوا يقفون خاليي الوفاض
-( بجيوب مثقوبة )
لا يحسدهم سوى شاعر على شاكلتهم يملؤه وهم الشعر ، فلا تفرحوا كثيرا أيها الشعراء .
فأي لعبة لعبها النحاتون حين حولوا كل تلك الرموز بعد أن ملأتهم الحياة ببهجتها إلى حجر أصم وأي سخرية للحياة التي سلبت منهم كل شيء ولم تمنحهم سوى ذكرى ستسلب منهم هي الاخرى في خضم انشغالنا عنها .. تلك هي المرة الثانية التي تفرغ فيها التماثيل من محتواها ، يشير اليها الشاعر بعد أن يكرر لفظة التماثيل ثلاث مرات
-التماثيل
-التماثيل
-التماثيل
تكرار كقرع الجرس ليعلن عن وحشة تلك التماثيل حين تقف دونما اكتراث من أحد ، فما عادت تمثل لنا قيماً مكثفة من قيم التاريخ البعيد أو القريب بعد انشغالنا عنها بهموم الواقع الذي فاق برمزية أحداثه رمزية التماثيل وربما بنى كل واحد منا لنفسه تمثالاً كرمز من رموز حياته ، فتمثال للهموم واخر للمال واخر للنساء واخر للجوع ، أو للحرية أو الانسانية المفقودة ، وربما من بنى لنفسه من الشخوص تماثيل يعبدها ويقدسها ، تلك هي التماثيل الحية !!.. فمن عاد يبالي بالتماثيل المنحوتة ( الكبيرة ) وتخصيص الشاعر بلفظة الكبيرة له دلالة رمزية تهكمية فهي كناية عن كبر التماثيل وصغر محتواها الذي آلت إليه ، فصار حالها وإن كانت
-( من ذهب ضاحك أو فضة لامعة )
تشعر بالوحشة
-( ويأكلها الملل )
والحال مستمر بدلالة الأفعال المضارعة الدالة على الحركة والاستمرار والتي رافقت جو القصيدة من أولها حتى آخرها وبثت الروح في التماثيل ،وفي تلك المضارعة وتلك الخاتمة رمزية عالية تشير إلى نوعين من التماثيل ، وكأن الشاعر يطرح قراءة مزدوجة للتماثيل الصماء والتماثيل الحية التي باتت هي الاخرى تشعر بالوحشة ويأكلها الملل .
نص القصيدة :
التماثيل
التماثيل الكبيرة
تماثيل القادة والمحاربين
و هم يمسكون الجهات
بخيول من اسمنت
ويطعنون الهواء
برماح صدئة
تماثيل الآلهة
موشومة بالأدعية
ودماء القرابين
تماثيل الملوك
بلا جوار. ولا حاشية
ودونما عبيد
يجرون برفق عرباتهم الملكية
تماثيل الشعراء بجيوب مثقوبة
وكؤوس طافحة بالبهجة
يلوح لها الصبية
والعاشقات
ويحسدها شاعر موهوم
التماثيل
التماثيل
التماثيل
من ذهب ضاحك
أو فضة لامعة
كم تشعر بالوحشة
ويأكلها الملل