اعادة اكتشاف العالم / مختارات من كتاب المشاية 2012
1/ فجر الاول من صفر
على ظهري حقيبة سوداء. فيها ملابس سود, مستلزمات السفر الضرورية, ودفتر المدرسي قسمته نصفين عرضا ليسهل استخدامه لأدون فيه بعض ما ستلهمنني به السماء او التقطه من الارض. في كل هذا ينبغي ان احذر من سماع احدهم يقول ( عمي انت شتكتب!). فهذا يعني مشروع مشكلة.
لم يكن معي في الشارع سوى الهلال متأرجحا شحيح الضوء خلف الغيوم. لعل الضوء الحقيقي سيغمرني لاحقا فهذا القمر مجرد صخرة معلقة في ظلام شاسع يتوسل نور الشمس ويدور دورة رتيبة منتظمة. ولم يكن من صوت سوى صوت البرد والرايات التي تخفق على الجدران الرطبة وعليها رسوم فرسان وخيول, لكني لا ار الفرسان تقاتل. ولا الخيول تحمحم في المعركة. مجرد قطعة قماش.
كم تمنيت ان لا ينتهي هذا الفجر الغائم فهو نفسه الذي اعشقه, اتخيله في مقبرة وادي السلام القديمة في حرب الثمانينات, وكان ذلك مع تزايد الضحايا والأحلام المقطعة. كان الفجر مريعا مذهلا لم اكن اصلي, انما هي مشاعر تتنزل او تنبثق من باطني المزدحم, فقد فبدأت اشارك بتغسيل الموتى. ثم تدرجت الى مساعد جناز مع (الخال ابو لفتة) المتعهد المجاني لأخذ الجنائز. فكأن التعامل مع الموت يحتاج الى خبرة! وفي الدروب الضيقة المتربة تتوغل السيارة, فوقها تجثم الجنازة. وفي المسجل يغرد عبد الباسط بقصار السور. وكان معنا دفان بلا قلب يتعاطف رسميا إلا في اجرته فان لم يستلمها كاملة بعد الدفن ستبقى بذمة المرحوم! اسعدني ان يتم الدفن في عجة وأمطار, اذ يحفز بي الغرائز الاولى, او حين ترتجف الظلمة. ومن بين القبور يأتينا قطن الاكفان. فنشعل النار بخشب غطاء التابوت لندفئ أرواحنا. هذا يسعدني اكثر. اكل البرد وجهي وانفي ادرت الكوفية على وجهي كالبدو الطوارق.
2 / خارطة النور والغيوم
بعد ٢١ دقيقة لاح شارع بغداد. عبرت الى الجانب الاخر. واندمجت في ضجة السواد والأنوار والسيارات والنداءات والخدمات المجانية. ولكن لماذا لا اشعر بالفرق! انهم ببساطة اناس متعبون يخدمون اناسا متعبين. والكل سعداء. ولا اظن ان هذا الانطباع سيتبدل. حسب الخارطة التي يوزعها شاب لتبيان مسافات المسير الى كربلاء وتحوي خطا متعرجا يبدأ من ساحة سعد ويمر بأهم المدن والقرى عبر ست محافظات الى كربلاء في500 كم . سيغيم وجهي اذن بالتجهم والتجاعيد. اسير بنعال بلاستيكي وزنه طن من الوحل. امشي كماسحة زجاج بسبب التقرحات بين الاصابع. وتخر ثيابي بالمطر. وربما اوقفوني في الحلة لاني كثير السؤال. فأموت من ارتفاع ضغط الدم في مفرزة طبية قبل مستشفى النجف. وأنام ملتحفا بالكارتون عند باب حسينية مغلقة في الرميثة او امشي كطائر ليلي وحيدا وخائفا وسعيدا على حافة الهور.
3 / الخيار الصعب
مع اخر العصر وصلت نهاية محطتي الاول, كنت قد قطعت اكثر من خمسة وعشرين كيلومتر. وبت قريبا من بساتين النخيل التي يسبق( قضاء الدير). بدأت اضجر من الم في اعلى الساقين وخرزات الظهر السفلى والحقيبة تزداد ثقلا مع المسير, وأمامي مئات الاميال. وفكرت هل ارمي الحقيبة السوداء. اعبر الشارع الى الجانب الاخر الراجع لساحة سعد اوقف اول تاكسي, وأعود لأشخر في الليل من التعب واحلم بالصراخ. لولا ان صبي صغير اسمه حسين مشرق امسك بحقيبتي, واخذها ليوصلها مسافة تقارب ربع ساعة ثم يعود ومعه ابن عمه الذي لا يدرس,. فقط يلعب الكرة!, ثم تركني عند جسر الماجدية وعادوا لموكبهم ليكرروا حمل حقيبة زائر اخر. كانوا يحسبون عدد الحقائب في تنافس مع بعضهما.
4 / ليل الخيال بين الجبايش والفهود
المسافة بين الجبايش والفهود في الظلمة عشرون 20 ميلا من الخوف الذي لا يفسر. فأنت لا تعرف المنطقة. ولم ترها من قبل. تفترسك اصوات وهياكل معتمة وكثافة الضباب ورائحة الماء واحتراق قصب بعيد . كان القمر باردا يلتف بلحاف الغيوم. كما انني اعزل الا من اوراق اكتب بها. وتمنيت ان اكتب الان في منطقة لا ينبغي ان يكون لها اسم. ولا يمكن تعريفها. ولعله من الافضل ان اتشبع بالغرابة المظلمة. فليست الكتابة بالشيء المهم في هذه التجربة. مع انه في لحظة قد يهاجمني ذئبة او خنزيرا او ضبع وربما طنطل. سرت بضعة اميال وأنا متنبه لكل صوت قريب او بعيد. بل كنت اعرف كم خطوة سرت. هذه ليست رحلة لاستبطان خلف ما تراه من ضجة وتضخيم, ولا محاولة لاستكشاف الخوف. ان هي مجرد محاولة لتغيير مزاج الرحلة. بعدما تعبت من رؤية الوجوه المكررة وسماع اللطميات ورائحة الطعام الساخن. في وسط العالم المظلم باصوات الحشرات والحيوانات في الهور الذي يمتد الى اليسار كنت سائحا .ملت الى موكب وهو غرفة طويلة يلحقها من الجانب غرفة مفتوحة الوجه هي مطبخ. كان الحارس وحده يسمع الى الراديو. والليل البهيم يمتد الى اقصى الغموض. كان ثمة بهجة بهذه البيئة. فكاننا نفوت فيها دون جلود. واستذكرت انه قبل نصف ساعة نهضت من النوم بعد بامتلاء المثانة. كان الضباب يهبط على وجه العالم. تبولت بسرعة ورحت اجمع اغراضي في الحقيبة وانا اسعل كي ينهض صاحب الدار الذي تفاجئ وتوجس. ثم اعتذرت منه لاغادر. استغرب صاحب الدار. فنحن قد تسامرنا طويلا طويلا البارحة. وتمسك بي. وهو متعجب ان امض في الضباب. اوصلني الى الباب, ورأيت الفجر الشاحب يتناثر فيه الضباب. ويحجب الرؤيا عن كل شئ, فلا يراك احد ولا انت ترى نفسك. حيث لم يبدا الملا في الحسينية القريبة بقراءة القران قبيل صلاة الفجر. تلك اللحظة كنت محتاجا لفاعلية ما. قد تكون موسيقى حزينة, او لطمية لباسم الكربلائي سمعها في موكب ما. المهم ان اندمج مع روح العالم الغيبي الخفي البهيج والغامض المخيف. قلت في نفسي لا استطع ان اغادر مزاجي. السعادة تطفو على مشاعري. الان انا اسير وحيدا , لا احد معي سوى صور واصوات وافكار تتلاعب تستقر وتننفض. حتى ينبلج الفجر العاري.
5 / الكواكة
بتنا عند البدوي المعزّب من قرية الكوّاكة, وهي بيوتات قليلة تكبر بكرمها. وتقع عند الجسر الأول لطريق أبو نجم. وليس من خلفها إلا سبيل الضياع في الرمال الغارقة بالظمأ من صحراء السماوة. تنتهي عند المخفر السعودي. وسميت القرية على اسم احدى الجدات البعيدات النشيطات ممن ساعدت اهلها في بناء القرية عند انشائها. كانت ليلة اساطير رملية. فقد روى لي البدوي ان التمساح يعيش مليون سنة. وان طير الحبارى لا تشرب الماء. لذا تقتل الصقر بذرقها الحارق إن علت عليه. فلا يقابلها الصقر وجها لوجه . كما ان طائر الصافات تبيض في الجو اثناء طيرانها. وتفقس البيضة وهي في الهواء في طريقها للأسفل. فيخرج منها الطائر ويطير من فوره. اما اذا وقعت على الارض فأنها تنكسر ومن ذاقها اصيب بالكلب (السعار).
6 / هنا يرقد مدين
القطعة الحديدية على الشارع العام القريب من السدير/ الديوانية تشير غربا الى مقام مدين ابن النبي ابراهيم لبضعة كيلومترات. فكان الفضول سيد الارادة. فركبت عربة يجرها حصان كانت مارة وتوغلت بي بعيدا حتى وصلت تلة جافة عليها ساحة مربعة بسياج قديم من الطابوق بطول40 متر يتوسطها غرفة بمساحة 5×6 متر تعتليها قبة بيضاء. والمحتويات بسيطة, ساعة جدارية ومروحتان وثريا ومرقد تذكر الزيارة انه قبر النبي مدين ابن النبي ابراهيم, وأخ النبي اسحاق وإسماعيل, وأمه اسمها قطورة بنت يقطان. وفي الزاوية البعيدة خلف المرقد ثمة اربعة قبور لأبنائه وزوجته. في خارج السياج, اقل من عشر قبور. والى اليمين بيوت متفرقة وزروع. وكان وجه المرقد صوب البيوت يبدو المكان قد عكس روحه على المنطقة التي تبدو ساكنة تماما وموحشة ورأيت اناس متشككين من وجودي قرب المرقد. وربما لان الزوار شحيحين فلم توله الاوقاف اهمية لائقة. نظر الي فلاح باستغراب وظل واقفا وسط الحقل بريبة ولا يتحرك. ووجدت الباب المرقد مفتوحا فولجت عن الاعين .