لم تشهد مدينة الهندية ( طوريج ) منذ نشأتها عام 1870حين مصرت بفرمان عثمانى زمن الوالى المستبصر مدحت باشا وحتى ستينيات القرن الماضى مدرساً للغة العربية ، أمتلك ناصية الحضور الخلاق حداثىّ النهج فراهيدىّ الهوى مثقفاً مهيب الطلعة وسيماً كعبد الرزاق عبد الواحد. فالعربية تسرى مسرى الدم فى شرايينه! أشترط على طلابه (*) التحدث بها قسراً ومجانبة اللغة المحكية ومن يخطأ يدفع ( خمسة فلوس ) حينها كانت ثانوية الهندية تضم بين جدرانها مدرسين أكفاء وتربويين مخلصين لازال الاربعينيون والخمسينيون من ابناء جيلى يتذكرونهم بأجلال واحترامٍ فائق. كنا صغاراً لانفقه مايقول ولكنه ذو تأثير ( كرازيمي) فعال، كان صوته هادرا متألقاً فى كلماته ونبراتها بوح قادم من مرافىء التاريخ الغابر حملها ألينا مؤكدا وبعزم أن اللغة العربية لم تكن عقيما فها هي ولوداً معطاءاً وستبقى كذلك الى أن يرث الله الارض ومن عليها.
عندما أسمعه يجلجل بصوته الاّسر حتى ولو بقصيدة او سردٍ من المنهج المقرر : يضوع المكان بشذى لايمحى وكأنى أسمع أنغاما وتقاسيم زرياب وفدت ساخنة من قرطبه او اشحانٍ غزلٍ تغنى بها أبن ذريح أوقيس المجنون أو بشار بن برد
أو يتهيأ لى وكأنى أرى المتنبى وقد تجلبب بمئزره اليمانى بحضرة الاميرالحمدانى فى حلب يلقى شعره واثق الخطوة ملكاً على السامعين. أمد نظرى بأتجاه الباب فأرى حبات الرمل تتمايل وسعفات النخيل تتراقص، ها هو يمثل الكلمة ويمسرحها بألإيمائة حينا وتقطيب الملامح حيناً اّخر ثم يردفها بأبتسامة أذا لزم الامر كل ذاك وهو واقف أمام طلابه وقفة الاسد الهصور.
حين يقرأ لنا من شعره أو من أشعار غيره أراه متسلطناً متيقتاً مما يقول خصوصاً وهو يقف على أصابع رجليه رافعاًً خافظاً قامته ؛ يريد النظر الى اّخر نقطةٍ فى المدى ! وحين يرن الجرس معلناً إنتهاء الدرس أتألم بصمت وأقول فى سري: ليت الدروس كلها لغة عربية.
وعبد الواحد أخر جندي من رعيل رواد قصيدة التفعيلة حمل ذالك الفصيل رياح التجديد وسار بخطى عزوم رغم عوائق الطريق الشائك وعثرات المتزمتين، وهو من أبرز وجوه الصف الثانى بعد بدر ونازك وعبد الوهاب البياتى ولميعه عباس عماره وربما لحقهم يوسف الصائغ وزكى الجابر و محمود البريكان وعناد غزوان وعلى الطاهر وسعدى يوسف وغيرهم كثير، وأبرز سمات شعره الرفض والمشاكسة وقوة البناء المزدان بالخيال الجامح وقد عرف عنه أنه يقكك المفردة العربية ليجعلها أكثر طواعية لبنية شعره.
القى هذه القصيدة فى حدائق الاتحاد العام للأدباء العراقيين بعد شهر من نزوح الجواهري مكرهاً عام 1961:
مفازة هى نطويها وتطوينا – – – جد خطى فلقد جد السرى فينا
كأننا لم نطامن من شوامخنا – – ولا أذينا حشانا فى تحاشينا
ياخال عوف رعاك الله حيث سرت – – بك الخطى وسقى شوق المحبينا
ياخال عوف وفينا منك مأثرة – – – أنا نجاوب والبلوى قوافينا
أنبيك أنا بعين نصف مغمضة – – – نغفو وبالكف فوق الكف تطمينا
(*) كنت احد طلابه فى ستيتيات القرن الماضي وقد غرس بىّ حب العربية واّدابها. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته –