(*)
مع منجز الروائي شاكر نوري لا تسلك التسلسل التاريخي لإبداعاته : كتابتي.. بل تسعى نحو غايات أخرى منها المشترك في الموضوعة أو الهندسة السردية
(*)
روايتان وتقنية واحدة : البرقية هي منصة البث الروائي في روايتيّ( نزوة الموتى) و(كلاب جلجامش).. في (نزوة) تنفرد قراءتي في تعقب البرقية التي أرسلتها الأم من العراق لولدها العائش في الخارج.. في (كلاب ..) اشتغلت قراءتي على مديات أخرى ولم تتوقف إلاّ قليلا عند البرقية المرسلة من باريس إلى جلال في أمريكا ونص البرقية : وصية تركها المتوفي لدى الممرضة زهرة( كل ما أطلبه منك أن تقوم بنقل جثتي وتعمل على دفني في بلدنا../ 11) هذه الوصية سيكون تنفيذها روائيا بمزيج من الميداني والاسطوري.. وأوضحت ذلك في قراءتي المنتجة عن الرواية
إذن لدينا برقية وشخص عليه تنفيذ مهمة لميت أو من أجل ميت. وليس هناك من يشاطر المسؤول الحي هذه المشاق . والفرق أن برقية / وصية أنور صديق جلال ستفعل فعلها في حياة جلال. الفرق بين الروايتين أربعة سنوات.(نزوة الموتى) مطبوعة في 2004 و(كلاب جلجامش) 2008. السؤال الروائي : ما الذي يجعل الروائي يستعمل البرقية وموضوعة الموت مرتين مع الفارق . في رواية( نزوة..) هو نقل الرفات من مكان إلى مكان آخر في نفس المدينة.. أليس في موضوعة الموت ونقل الميت أو ما تبقى منه، من مكان إلى مكان بمنزلة استعارة تقلق المؤلف وتشعل هواجسه الشخصية
(*)
في رواية (ديالاس) الأم ترفض أن يزورها ولدها في جلولاء لغرض التزود بنظام معلوماتي سردي يكون منصة للكتابة عن المكان والمكين. خلافا لذلك في رواية (نزوى الموتى) تصل برقية من الأم تطالب ولدها بنقل رفات والده. فالمقبرة ستكتسح ليقام عوضا عنها ما ينفع الأثرياء. الأبن يرى البرقية بعين الاستعارة الجمالية (وقعت البرقية على بلاط شقتي كما تقع من سفرتها فراشة رمادية اللون /5) وقبل فتح البرقية تبث طاقتها السالبة في الأبن :
(1) ترددت ُ قليلا ً قبل أن أمد يدي لالتقطها من الأرض/ 5
(2) وقبل أن أفتحها، اجتاحت رأسي موجة من الأفكار
(3) أنها أدخلت الرعب إلى نفسي
(4) البرقيات مخيفة دائما مثل طائر بوم أسود يحمل في عويله نذير شؤم
(5) هذه هي المرة الأولى التي أتسّلم برقية منذ سنوات
(6) نصحت جميع أصدقائي بألاّ يبعثوا لي البرقيات مهما كلّف الأمر
(7) ربما تذكرني، بإستدعاءات دائرة الشرطة والبنوك والمحاكم
(*)
هذه الفراشة ستغوي قراءتي بملاحقتها روائيا.. في ص14 تختفي الفراشة من البرقية وتأخذ الاستعارة صورة شرسة :(برقية أمي مثل حصان جامح ينطلق بي إلى مكان مجهول وناء) ثم تتغلب السيرة الأولى ويتوارى الحصان من البرقية (رفعت البرقية من بين الأوراق والكتب المكدسة على مكتبي، وعلقتها مثل فراشة محنطة على الجدار بالدبوس شأنها شأن الفواتير التي أعلقها على الجدار كي لا أنسى تسديدها في نهاية كل شهر بحيث أصبحت ورقة البرقية المعلقة إحدى واجباتي القادمة، بل الطارئة والعاجلة جدا/ 15) هنا الفراشة لها قيمة مزدوجة :
(1) شفافيتها كفراشة
(2) وقيمتها المديونية ذات الأولوية على الفواتير الشهرية الواجبة تسديدها وأولويتها ثلاثيا : فهي المستقبل القريب جدا والطارئ والعاجل.
(3) وبسبب المحمول اللفظي البرقي المرسل من الأم فالكلمات كانت لها مؤثرية ساخنة( كلمات فجرت كل شيء وبعثت النار في رماد جامد/16)
(4) كلمات البرقية ضمن مفهوم(مخطط الصورة) تسامت نحو الأعلى وناشت نجوم ليلة باريسية صفوها استثنائي، ورفرفت (الفراشة المحنطة على الجدار) والفراشة هي البرقية.
(5) البرقية شفيفة وكلمات الأم بلون أزرق لكن لهذه البرقية ثقلها المعنوي والروحي والأبن يخبر القارئ/ القارئة بصيغة سؤال كأنه ينتظر أجوبة منا ( ولا أدري لماذا تعلقت بها كما يتعلق غريق بقشة طافية في فيضان هادر./ 16 ) المعادلة متوازنة الطرفين
(6) فراشة ———– قشة . لم يقل قاربا أو طوق نجاة.
(7) رد الفعل الاوّل المبثوث من محتوى البرقية تضمن شحنات سالبة :(لم يكن خبر البرقية يشجعني على تناول فطور الصباح/ 7)
(8) يبدأ الابن بتفكيك حروفي للبرقية :
(1) كانت ذبذبات الحروف على ورق البرقية تعلن عبر كتابتها المتفسخة عن شيء قد يكون الحقيقة أو مجرّد شاشة عكّرة في مرآة/ 7) هنا دخلت البرقية ضمن نظرية الاحتمالات فهي ليس فراشة بل(شاشة عكّرة في مرآة)
(2) البرقية تحدث تداعي تاريخي خاص وملتبس لدى الابن..(مات أبي قبل أن أولد أو في الساعات الأولى لولادتي.. أو في عمر التاسعة، لا أدري بالضبط لأنني لا أتخيله سوى شبح يمر في المنزل ليلا بعد أن يقضي النهار بكامله في المعسكر../ 7 )
(3) وتحدث حروف البرقية السود نوعا من التداعي اللوني لدى الابن(تذكرتُ برقيات الستينات بحروفها السود القاتمة الصلبة)
(4) وكذلك تحدث حروف البرقية : التفارق بين نوعين من قراءة النص البرقي(أمعنتُ النظر في الحروف وتذكرتُ فروقا قديمة بين القراءة الجهرية والقراءة الصامتة)
(9) ثم تضاف لها قيمة روحية، حين يخبرنا الأبن (وضعتها في جيبي مثل حرز أو أدعية قبل سفري بدقائق)
(*)
البرقية وجيزة لأنها برقية وتبرق كالبرق، لكن ظلها على المتلقي هو تصنيع اسئلة القلق وهذا هو الذي جرى مع الأبن :
(1) ماهي يا ترى جوهر هذه البرقية؟
(2) هل هي نزوة من نزوات أمي، ذريعة تجذبني لزيارتها رغم المخاطر المحدقة بهذا السفر؟
(3) أم هي نزوة من نزوات الموتى
(4) نداء أبي إلي عبر كلمات البرقية؟
(5) برقية الأم لها وقع النواقيس على الأبن (لم أفكر بالموت إلا بعد استلام برقية أمي/ 11 )
(6) ولها وقع الحياة أيضا ( لا أدري كيف ألهبت هذه البرقية أحشائي وبعثت أبي من جديد من قبره/ 10)
كل هذه المؤثرات محض منصة للبرقية المرسلة من الأم إلى أبنها والمثبتة من قبل المؤلف في ص16
(نقل.
رفات أبيك
إلى المقبرة الجديدة)
في ص7 بعد اطلاعه وحده على البرقية التي حجبها عنا المؤلف، الأبن يتساءل : (كيف تنتقل المقبرة إلى مكان آخر؟ / 7)
(*)
في الفصل (8) ص70 لحظة قراءتي للرواية تكون مع الأبن في المقبرة القديمة، وبتوقيت اقتراب انتهاء نقل الموتى، المقبرة طوابير بشرية مزدحمة عند بوابة المقبرة. غضبٌ صامتٌ يهجم بالمعاول والفؤوس لاستخراج رفات الموتى. بتوقيت هذا الوضع الكارثي. تستعيد فراشة البرقية حضورها المضاعف وتقصد الابن ليخبرنا (فراشتان صفراوان خفقتا وحطتا علي قدميّ، ثم رفرفتا وحلقتا عاليا فوق أسوار المقبرة ثم أستحال لونهما الأصفر إلى بياض في المدى البعيد، وبمرور اللحظات تحولتا إلى طائرات ورقية تحلق في رقعة السماء، وتسحباني بخيوط رفيعة من أرض المقبرة / 70) .. ثم يتساءل الأبن وهو السارد المشارك بمرتبة الشخصية الرئيسة في الرواية (ماذا تفعل الفرشتان في المقبرة؟) ثم يستغرب قائلا( فدبيب النمل الأسود لا يجتمع مع الفراشات، بل يتصارع معها بعداوة غريبة، لا أعرف سرها؟)
(*)
بعد الحصول على رفاة الأب يعود الأبن إلى الفندق، وهو يبحث عن مفتاح غرفته، ثم يخبر القارئ/ القارئة (يدي اليسرى عثرت على ورقة البرقية المشؤومة التي التصقت في قعر جيبي.. ألقيت عليها نظرة لا مبالية، كورتها مثل حبة صغيرة وقذفتها في صندوق القمامة الموجود في الممر/ 77).. هنا تنتهي قيمة برقية الأم من خلال تصغيرها إلى حبة صغيرة مصيرها القمامة. وهي بالفعل انتهى دورها هذه البرقية مع توجهه الأبن إلى وطنه. لكن تفتيتها يحمل دلالات سأم الأبن من كل ما يجري بهذا الخصوص ويفضح الأبن سأمه حين يقول( في هذه الليلة أدركت أن برقية أمي قد بعثت ما يشبه اللوثة في عقلي..) والسؤال هنا من الأهم؟ الحي؟ أم الميت؟ ألا تخاف على أبنها من بلد لا أمان فيه.. أليس بمقدورها أن تكلف حفار القبور وتكون حاضرة هي أسوة بالآخرين؟ أليس ذلك أفضل حتى لا يرتكب الأبن تلك الخطيئة مع إحدى المرأتين التي حذرت ولدها منهما؟ على حد قول ولدها (أما كان من الأفضل أن تكلف حفار القبور بدلا عني؟ أو تقوم بذلك إحدى زوجتيه المطلقتين، زليخة.. أو سلطانة/ 90 )
(*)
الأبن وهو يكابد رهقا من رفاة الأب الذي غير متأكد من رؤيته ِ حين كان حيا.. ويصل الابن إلى استقراء الأمر بالطريقة هذه : الحقائق صورة زجاجية لأن المعلومات عن حياة الأب مثل المرايا . وها هو الأبن يقرر ويعترف( الكلمات أكبر مرآة عرفتها في حياتي/ 85 ) إذن ومن هذا المنطلق يؤكد لنفسه (.. برقية أمي مرآة خادعة أيضا) أما تلك البرقية الفراشة والجامحة كحصان فهي بشهادته (أكبر مرآة عرفتها في حياتي) ..الأبن يرى الخدعة في انعكاس الكلمات كمرايا، كقارئ فأنني أرى أن الأبن ضحية مؤثرية صوت الأم المشحون بالتهديد الإلهي (ينبغي أن تذهب وتنقل قبر أبيك بنفسك وإلا عذبك ضميرك يوم القيامة /90 )..
(*)
الموت: من الموضوعات التي تشغل مكانة مميزة في التجربة الروائية الفذة للروائي شاكر نوري، ليس فقط في (كلاب جلجامش) و(نزوة الموتى) بل في(طائر القشلة) حيث يقتل الفنان المسرحي وهو الشخصية المحورية في الرواية وكذلك الموت هو اللحن الاخير في حياة (خاتون بغداد) حين تنتحر مسس بيل
(1) شاكر نوري/ نزوة الموتى/ ط1/ دار الفارابي/ بيروت/ 2004
(2) بخصوص (طائر القشلة) و( خاتون بغداد) يمكن الاطلاع على ما كتبته عن الروايتين في المواقع الثقافية