انتقى طاولة خلف الزجاج في الركن الأيسر ، وجلس يتلهى بما يجري أمامه في انتظار صديق ضرب له موعدا في مقهى (لي فيرناج) . الشمس غربت منذ قليل . الشارع بدأ يضيق بزوار ليلة السبت الأحد بسبب تواجد العديد من الفنادق والحانات والمراقص الليلية خلف المقاهي بالحي الشتوي . فتيات في سن الزهور ، ينظرن في شاشات هواتف نقالة . يتحدثن ويبتسمن ببلاهة مقصودة ، ويلتقطن (السيلفيات) ، ويتسكعن بالجوار ، أو يجلسن في المقاهي . بعضهن يطمع في اصطياد زبون يرغب في قضاء أمسية حمراء . أغلبهن جميلات . كأن الله سكبهن من قالب في مصنع لإنتاج الدمى البشرية .
فروق طفيفة في النحافة والبدانة والطول والقصر ولون البشرة . حرارة المدينة في فصل الصيف ، تدفع إلى الاقتصاد في اللباس ، والمبالغة في تعرية أطراف الجسد الأكثر فتنة ، مثل شعر الرأس والذراعين والكشف عن حمالة النهدين والصرة ، وارتداء سراويل قصيرة ترتفع إلى أعلى الفخذين .
يحتفظ بذكريات قديمة عن شارع فرنسا، قبل أن يحمل اسم شارع محمد السادس بالحي الشتوي. زار المكان في فترات متقطعة تفصل بينها سنوات.
شارع فرنسا، أو شاطئ من لا بحر له، ظل لسنوات طويلة ملاذا ومنتزها لأسر وأبناء الأحياء الشعبية في ليالي فصل الصيف.
سمع صوت دافئا قادما من زمن بعيد :
(حلَاّتْ سالفها حَلاّتو
حتى فقيه ما خلاّتو
خلاّت العزارى في جنب الواد)*
أغلب هؤلاء الفتيات شعرهن قصير يهبط بين العنق والكتفين . تغير ذوق الناس ولم يعد أحد يهتم بلون الشعر وطوله .
وقف النادل على بعد مترين من طاولته . ابتسم له ، وطلب قهوة سوداء خفيفة .
سأل نفسه :
هل أخطأ بعض الوهابيين في وصف هؤلاء الحوريات بأقذع النعوت ؟ (شمطاوات ، مومسات ، فاجرات ، باغيات ، داعرات ، حطب جهنم …) كل وصف يشبه قنبلة ذرية يمكن أن تدمر مدينة بكاملها . ولم ينسوا طلب ضرب أعناقهن بالصمصام . هؤلاء الوهابيون مثل القطط إذا لم تجد الطعام ، وصفته بأنه نتن .
لا بد أن تتمالك نفسك وتحذر وأنت تنظر إليهن . قد تنهرُك إحداهن ، وتطلب منك غض بصرك أيها العجوز !
داخله شيء من الحياء. عاد الصوت القادم من بعيد يتردد على أذنيه :
(الزين داتو حليمة
وكولّو وكلّو راح الليل اهياوين …))
ما يراه أمام عينيه جعله يشك فيما اعتقده حتى الأمس القريب مع سكان الأحياء الشعبية بأن الجمال استحوذت عليه حليمة ، ولم تترك لغيرها أي ذرة منه لغيرها .
أغلب النساء في الحي الذي يسكنه ، والأحياء المجاورة يتشحن بالسواد ، ولا يشبهن حليمة التي استحوذت على الزين ، ولا بنات الحي الشتوي . أجسام لا يظهر غير إطارها الخارجي الذي يشبه إطار سيارة معطلة اعتراها الصدأ مع توالي الفصول , تذكر ما يردده الرجال بينهم في المقاهي على سبيل التنكيت :
ـ إذا أردت شراء سيارة قديمة ، فاشتريها عند معلم ، لكن إياك أن تتزوج امرأة طلقها معلم .
سأل نفسه :
ـ من سيخفف عن هؤلاء النسوة آلام وأوجاع الحياة التي قضيناها في الأرض يتألمن من القهر والمرض والجهل والجوع ؟
ـ كيف تجازيهن السماء ؟ ألا يوجد الحور العين بصيغة المذكر ؟
لم يفكر في الأمر من قبل ، عليه أن يسأل فقهاء الشيخ (غوغل) عندما يعود في المساء إلى البيت .
تعجب لبعض الوهابيين كيف يسمحون لأنفسهم بأن يمدحوا نساءهم بالمؤمنات والعفيفات والطاهرات والمحصنات بينما يقسمون مع أنفسهم وبأغلظ الأيمان ألا يناموا إلى جانبهن في العالم الآخر ، ويتمنون بدلا من ذلك لو حظوا بأربع حوريات أو أكثر ، كالدر المنثور لم يمسسهن إنس ولا جان !؟؟
وإذا خيروك أنت ماذا تفضل ؟ حورية من الأرض أم حورية من السماء ؟
لم يكن ينتظر سؤالا من هذا القبيل . سكت لحظة ، فكر ثم أجاب بدبلوماسية رمادية :
ـ ماذا سأختار يا إلهي ؟ ربما في عمر الشباب سأميل إلى حورية من الأرض ، وهذا ما سيفعله الكثير من الناس في هذا السن لأنها مثلهم من لحم ودم ، وتبدو أحلى وأكثر واقعية . ربما وأنا شيخ اشتعل الشيب في رأسه ، سأطلب من الله سبحانه أن يعيدني رفقة زوجتي إلى سن الشباب عندما كنا نجلس ونأكل العنب معا ونستمع لأميمة خليل ، وموشحات فيروز ، وقصائد درويش . لكن علي الانتظار كباقي المؤمنين يوم الحشر ، وميقاتُهُ عند الله ، ثم المرور عبر الصراط المستقيم .
ظهر صديقه ، وهو يوقف دراجته بجانب عمود الكهرباء ، ويمسح المقهى بعينيه . لوح له بيده . لعن الشيطان ووسوسته ، وتذكر أنه كان سببا في طرد آدم وحواء من الجنة .
عاد الصوت يتردد في أذنيه من جديد
(وقادَرْ أَ حَنّا يْتوب
يتوب علينا كامْلين)
—–
المعجم :
*مقطع من أغنية شعبية
ـ (حلات سالفها) : أطلقت شعرها
ـ (حتى فقيه ما خلاّتو) : زارت كل الفقهاء ترغي مساعدتهم في العثور على زوج .
ـ (خلاّت العزارى في جنب الواد) : تركت الشباب العازب بجانب الوادي .
مراكش 07 يوليوز 2019
يسألني جهلاً من أنتِ !! بقلم: العلياء علي
سمراءٌ قوم عيسى يا ترى ؟
يا جارحة العينين والحنطة الشهية
يا سواد ليل شعركِ السابح في الروح
وهذا الجسد المتمايل كسمكةٍ بلورية
من أي جنة ٍ أنزلكِ الإله ؟
ومن أي طينةٍ خلقكِ سبحانه وعتباه ؟
إن كنت تجهل هوية ملامحي
فأنا نخلةٌ لا شرقيةٌ ولا غربية
أنا كل الجهات أنا أم الرياح
أنا بنت الوادي والجبل
أنا بنت السهل والهضاب
أنا بنت حمرين وأكد
وبنت أشور وذاك المشهور بالمسلة
أنا بنت حصنكم وواحتكم
أنا بنت السواد وبنت الفرات
أنا بنت الهور وشط العرب
أنا الحضارة والأباء
أنا القراءة والكتابة
أنا الواحة الغناء
أنا بنت الأمجد الأشهب
انا بنت بلد رجاله ابطال وشجعان
وتشهد لهم ساحات الوغى والميدان
أَنَا بِنْتُ البلد” يلجأ لَهُ كُلُّ جَائِعٍ
وَفَقِيرٌ، وملاذ الْخَائِف، وحامي الدخيل”
انا بنت بَلَد فَتْح أحضانه لِكُلّ إخْوَتِهِ مِنْ جَمِيعِ البلدان” هل يمكن أن ينكروا الْجَمِيل؟؟..
أنا بنت من يدعى جلالةً بالعراق