في رأس شارع السوق بالحي الشعبي , تقدم شابان وسلما ثم قرفصا قربي : < نحتاجك خمس دقائق لاستفسار في دائرة الامن )..لم نكن نتفهم عمر الدقيقة لديهم \مستقبلا علمنا بانها تساوي حوالي سنة \ قال الضابط في دائرة الامن في البصرة (يظهر من هندامك انك فقير فلماذا هذا) واخذ يكتب ثم رفع رأسه وقال <وقع > قلت اقرأ اولا ..في السطر الخامس نهرني (كافي ..وقّع )… التفت لاحد قدم وقال (سنرسل هذا لجهة مجهولة ). بعد ساعات ,اخر العصر هبطت درجات لتحت الارض , رأيت اربع غرف ابوابها من قضبان متوازية .. ادخلوني احداها .. حيث سامكث اربعة اشهر في شهر تموز بدرجة حرارة تفوق نصف درجة الغليان …ثمانية معتقلين ناصريين يجلسون متجاورين جوار الحائط جهة اليسار , قانطين الا كبيرهم وصاحبه البدين ,الذي كان يضرب اصبعا ويدبك بالارض بقدمه اليمنى متسلطنا (يا حنة ما خليج بجفوف ادية … الا يجي المحبوب … ويحن علية ).
دخل علينا يوما شيخ معتم بعمامة بيضاء … واخذ يحدث حتى كسب الجميع وابهرهم … في يوم جرى نقاش حول مادة (السب والشتم \وهي المادة التي تسببت باعتقال الالاف … تحكم من سنة لثلاث ).. قال الشيخ : السب لغة غير الشتم …. مضيفا : ان اللغة القانونية دقيقة واستطرد يروي <اخذ سيبويه طعاما بسيطا واندفع في الصحراء مسجلا كلام العرب لان مدرسة البصرة خلافا للكوفة تعتمد السماع .. فسمع بدوية تقول لصاحبتها (يا اختاه لولا العرجون لغسغني الغاسغ… ) فاقترب منهما مستفسرا فاجابت (العرجون كل شكل هلالي وهنا كناية عن الحجل اما الغاسغ فهو الافعى).اصابتنا الريبة من الشيخ واخذنا نحذر المعتقلين منه لكنهم كانوا يسكبون اسرارهم له … لقد كان مستجوبا مدربا .. بعد ايام هبط حراس وامروا الناصريين ان يخلوا اماكنهم والتقطوا علب دواء وصعدوا ….بعد نصف نادوا على كبير الناصريين … كان يتناول حبوبا مهدئة تجلبها زوجته وبعد ان تقابله باستعجال تدس العلبة لشرطي فيوصلها له … اعتقلوا الشرطي وصدمته درجة الحرارة والقذارة فاخذ يصرخ كالمعتوه (اخرجووني … اخرجوني ).. في اليوم الثاني افرج عن الشيخ وحين سالنا مسؤول الناصريين اجاب (كان الشيخ ضابطا برتبة نقيب , زجوه ليكشف اسرار المعتقلين ).
لم يكن يسمح لنا ان نقصد الحمامات بعد الظهر فقط صباحا وبعد الغداء…فان تصارخت بطنك او مثانتك فلعلبة الصفيح .. لايام كان (الشيخ ) يستقر على العلبة ويستره اثنان ببطانية وهم يحركونها وكان يبعث اصواتا مخجلة .. لكن المعتقل <حسين >..\ وهو صاحب طرفة وتسحره الخشابة التي طالما اسمعنا بستاتها بصوته الجميل مع ضربات اصبع وهزات كتف \كان لا يتمالك نفسه وهو يرى الى الشيخ ينغّم اصواتا مضحكة فيصيح به (عاااش الشيخ كمّل ).كنا بملابس داخلية جميعا والغرفة مصهر .. هناك دخل علينا رجل اربعيني اميل للقصر اسمر يرتدي دشداشة , حسير الرأس .. طبيعة لدى المعتقلين ان يستفهموا عن الدعوة والسكن في البداية … سألناه عن دعوته فاجاب (جئتك من سبأ بنبأ عظيم ) فاستغربنا وظل يجيب عن اسئلتنا بآيات حتى كففنا عنه .. في الليلة الثانية انضم معنا في امسيات ادبية \شعرية تحديدا\فعلمت انه يتقن الفارسية وشيئا من الانكليزية فقرا لنا ابوذيات كل بيت فيها من لغة \عربية , فارسية \انكليزية \..حدثني كيف كتب اغنية <اتنة اتنة > التي اداها فاضل عواد واشتهرت مطلع السبعينيات .. قال (كانت هيلة جارة لنا وكنت اهيم بها وكلما اردت اقترابا اجابت <اتنة .. اتنة >..
\\ ياما كلت هواي هواي وما وفيتي
انة اسهر وانت نمت وما صحيتي
وهذا ديدانج يا هيلة من غرورج ما صحيتي \\
حدثني كثيرا عن مقالب صديقه الشاعر الشعبي جسام النجفي <الذي طبع كتابين : سنجاف الكلام و قيطان الكلام >..قال لي بعد جلسات مختصرة مع المعتقلين الناصريين (هؤلاء ليس لديهم عمق )..
واسر لي بانه ينتمي للحزب الاجتماعي السوري ولم اكن قد سمعت به .. فقبل مجيئه سألني المحقق عن موقفي من الحزب الاجتماعي فاجبته لم اسمع به ).
كنت صادقا وظهر ان احدا كان يحضر جلساتنا الادبية في المقاهي , هو من كان منتميا لهذا الحزب . فسالت صاحبي عنه فقال <انه مقلوب شعار حزب البعث … فنحن نؤمن ب (الاشتراكية فالحرية واخيرا تتحقق الوحدة ).. ونصحني \كنت صغيرا بعمرك يوم اعتقلت فاوصيك حين تعتقل انس الاهل والاحبة وفكر كيف تقضي ساعاتك فقط \.بعد اقل من شهر استدعوه واختفى .. وفيما كنت في التسفيرات تمهيدا لاواجه محكمة الثورة وقاضيها العلاف .. تفاجئت به يدخل القاعة الواسعة .. رحبت به فاوضح < قال لي النقيب المحقق بدائرة الامن بالبصرة (افعلتها ؟!)…واضاف (مجموعتي عملوا على جعلي مريضا نفسيا ) وعرض علبة الحبوب امامي مبتسما < ليست دواء ان له مفعول الويسكي ).