جاسم العايف
“لأنني لا أتمكن من التوقف للموت،
توقف الموتُ لي…” أميلي ديكنسون- ترجمة رياض عبد الواحد
ترى أكتب علينا أن نحدق دائما ، بالإحياء منا، ونتصرف معهم ونتعرف عليهم، قبل أن يغدو أمواتا ، ونصبح نادمين على فرص منحتها لنا لحظات،زائلة، لم نمسك بها جيدا، ومرت بنا دون أن نتمكن من التعرف عليهم ، بدقة أو حميمة ، والاستزادة من معارفهم وحنانهم وإمكاناتهم ؟. وهل على الذاكرة أن تنشط دائما لتعاين بعض الراحلين بصفتهم أحياء..؟ خاصة أولئك الذين أبقوا ما يجعلهم دائما بيننا..أبقوه بصفته إبداعا أو موقفا أو سلوكا أو حنانا مرافقا لنا في يوميات حياتنا المشرعة على الغياب، وذاكرتنا المملؤلة بما خلفوه لنا من ذلك أو بعضه، ليكونوا قد تجاوزوا انقضاض طائر الموت الذي نعلم ونثق انه مهيأ لان ينقض ذات لحظة ما لعلها لم تكن بالحسبان.
متى عرفت “كاظم الأحمدي”؟. راودني هذا السؤال بعد اللحظة التي هاتفني فيها صديقي الأستاذ “رياض عبد الواحد” صباحا مبتدئا بالاعتذار عن نقله خبر موت كاظم ليل1/7.
تيقنت في تلك اللحظة أنني عرفته خلال التردد الدائم على “المكتبة الأهلية” في البصرة القديمة ،أواخر ستينيات القرن الفائت، و توطدت العلاقة بينه وبين الراحل مصطفى عبد الله وبيني عام 1972 عند جلوسنا شبه اليومي في مقهى ((أبو مضر)) أو ما سميناه ((الدكة)) لابد من لقاء ما للحديث عما يجمعنا .. الهموم الثقافية آخر القراءات وختامها القصة أو الرواية ثم التطرق إلى الوضع العام وشجونه..وكان لكل منا تقديراته وأحكامه حينها.. و التوجه نحو الكورنيش للنزهة عصرا والجلوس هناك ومواصلة الأحاديث دون ملل، و الانسلال إلى “نادي الفنون” ،في الغالب كان كاظم لا يحبذ ذلك و يذهب بحكم التزامات عائلية لأسرة صغيرة تعاني ضيق اقتصادي، ومصاعب الإيجار ومشقات بداية عقد السبعينيات ، وترافق ذلك مع المرحلة الأولى للتكوين الأسري لكاظم.. كنا مصطفى وأنا نَطّلع أولا بأول على ما يكتب من قصص..وأمانة كان مصطفى قارئا حريصا ودقيقا ومخلصا جدا لكاظم.
في مكابدات النشر كان كاظم يبدو مأزوما..حيث لم تكن في ذلك الوقت الاشتراطات الأساسية للجودة الفنية، لمن لم يكن معروفا.. و ثمة مسوغات أخر للنشر في الصحف والمجلات الحكومية..وربما غير الحكومية على قلتها .. مسوغات واشتراطات كم تبدو تافهة وضيقة الأفق ألان..مسوغات أضاعت فرصا كبيرة ومخلصة لنوع وشكل الخارطة القصصية والثقافية في العراق، مسوغات يقف في مقدمتها التخندق الحزبي الذي كان يسم حياتنا أو بالأدق يسممها..كم تبدو تلك الأيام عصية على النسيان..!!
بدا كاظم يعد العدة لنشر مجموعته الأولى،”هموم شجرة البمبر”، صمم غلافها الفنان شاكر حمد ، قدم المخطوطة أولا لدائرة الرقابة، قبعت هناك لفترة، ثم اُخبر بأن عليه أن يحذف منها بعض القصص خاصة في القسم الثاني المؤرخ بقصص عام 1974 ، كان القسم الأول يحتوي قصص عام 1973 ، استجاب لذلك مرغما، وعند تقديمها إلى وزارة الاعلام، حيث لم تكن ثمة وزارة للثقافة حينها، تم إفادته بمبررات واهية لعدم إمكانية نشرها، فطالب بالتعضيد فحصل على الموافقة بعد ترشيقها من بعض القصص ، فوافق أيضاً ، وحصل على نصف كلفة الطبع البالغة 150 دينارا،وكان هذا المبلغ كبيرا ،علينا، في ذلك الوقت،طبعها في النجف وفي مطبعة الغري الحديثة التي تؤل ملكيتها ربما لعائلة السيد حميد المطبعي، فصدرت عام 1975 . مع اشتداد التسلط مورست ضغوطات شتى على كاظم الأحمدي، ضغوطات تتعلق بالموقف والوظيفة والنشر ؟ . هل كان كاظم يشكل خطرا شديدا تجاه النظام، لمواجهته تلك المواجهة وممارسة تلك الضغوط الشديدة عليه!؟. أم إنها عقلية السلطة القامعة، التي ترى كل من ينفرد عنها، بعيدا حتى عن الطرف الآخر ، عدواً لها،أو غنيمة يجب استباحتها دون ترك الكاتب والمثقف والفنان يتمتع باستقلاليته واختياراته وخياراته الحرة المستقلة!؟. أنى لسلطة غاشمة أن تقنع بتلك القيم.. وأنى لأفرادها والمتحكمين في مفاصلها تلك التوجهات؟. وهل كان من الضروري أن يتحمل الإنسان تلك الضغوط في حياة تعاش لمرة واحدة ؟. وهل قدره أن يظل بين المطرقة والسندان متوترا بانتظام، ضائعا مأزوما على الدوام؟.عام 1976 صدرت مجموعته الثانية” طائر الخليج” ضمن سلسلة “كتابات جديدة” منشورات وزارة الاعلام،عام 1980 صدرت مجموعته “غناء الفواخت” عن الوزارة ،التي أصدرت كل أعماله بعد ذلك، عام 1986 صدرت مجموعته القصصية” شواهد الأزمنة” ، عام 1992 صدرت روايته الأولى”أمس كان غدا”، عام 1996 صدرت له “تراص الأنا” قصص، عام 2001 صدرت روايته الثانية” نجيمات الظهيرة” وذكر على غلافها الأخير ثمة إعمال معدة للطبع هي ” اختيارات أولى- قصص مع مقدمة في الكتابة القصصية” و رواية ” قصر الالزماني” ورواية أخرى هي “تجاه القلب” لم يصدر من ذلك إلا الرواية الأخيرة عام 2008 . حاول كاظم أن يقدم في رواياته سجلا سرديا روائيا للتاريخ العراقي وتحولاته العاصفة منذ 14 تموز 1958 حتى تموز 1968 . دأب أخي كاظم على إهدائي جميع ما اصدر وكانت كلمات الإهداء لها علاقة بالزمن والوضع العام معتمدا على قراءتي الخاصة وتأويلي للإهداء. مجموعة ما كتب لي ضمن ما كتب “…. فأنت تعلم عني ، ما لم يعلمه غيرك” وكان ذلك بتاريخ 1 / 1 /1977 ، وأخرى كتب لي في نهاية الإهداء”.. في زمان نحتاج فيه للذكرى لكي نكون احياء” والتاريخ كان 22 /5 /1996 ، أما روايته الأخيرة فكتب ” اقرب الطرق إلى المحبة ما يبوح به القلب للقلب، لعل هذه الرواية تقرب المسافات” أما نجيمات الظهيرة فكتب لي ” بعض قلبي، الذي خبرته، بين يديك”. كما أهدى كاظم مطبوعه الأول للسيدة زوجته بصفته”أولى الثمرات” و بعد أكثر من 25 عاما مع الكتابة والحياة المشتركة ، والكد والكدح المتواصل، عاد ليهدي السيدة زوجته روايته “نجيمات الظهيرة” كاتبا لها في الإهداء-:” ثانية ؛ قبل الشيخوخة”، إلا إن طائر الموت لم يدعه يدرك معها ذلك الحلم. في مقدمته لمجموعته” شواهد الأزمنة” اختزل “كاظم الأحمدي”، في الكتابة، كل ما شعر به و خضع له ، خلال حياته وبعض تحولاته والتي حاول أن يجد لها المبررات الشخصية العلنية وبمكابرة وثقة أحيانا ، عندما ذكر انه لا يطلب شيئا لكتاباته سوى أن ترى النور كاملة، دون أن تشعر بالخوف ولأنها تحمل حملها يكفيها النور وحده. تُرى أتحقق له ذلك في كل ما نشر؟. وما الذي يراه في الدوافع التي كانت تكمن خلف ما منع من النشر بحجج
شتى ؟.
قبل وفاته بأسبوع ،في زيارة له في منزله ، و بصحبة الأستاذ “جميل الشبيبي” ، كنت راغباً على أن احصل منه على جواب حول تلك المسألة ، وفي الزمن الماضي بالذات ؟. إلا أن اللقاء ألحميمي و استعادت بعض تفاصيل حياة نائية بكل أحمالها ومناكداتها وخيباتها وأثمانها القاسية.. والانشغال بوضعه الصحي ،كان حينها مُطَمئناً بعض الشيء ، كل ذلك فوت عليّ فرصة التحقق منه حول ذلك..غير إن السؤال يا((أبو ضُحى))لازال قائما..مع علمي بعدم حصوليَ،بعد آلآن،على جوابه منك!!.
توقف الموتُ لي…” أميلي ديكنسون- ترجمة رياض عبد الواحد
ترى أكتب علينا أن نحدق دائما ، بالإحياء منا، ونتصرف معهم ونتعرف عليهم، قبل أن يغدو أمواتا ، ونصبح نادمين على فرص منحتها لنا لحظات،زائلة، لم نمسك بها جيدا، ومرت بنا دون أن نتمكن من التعرف عليهم ، بدقة أو حميمة ، والاستزادة من معارفهم وحنانهم وإمكاناتهم ؟. وهل على الذاكرة أن تنشط دائما لتعاين بعض الراحلين بصفتهم أحياء..؟ خاصة أولئك الذين أبقوا ما يجعلهم دائما بيننا..أبقوه بصفته إبداعا أو موقفا أو سلوكا أو حنانا مرافقا لنا في يوميات حياتنا المشرعة على الغياب، وذاكرتنا المملؤلة بما خلفوه لنا من ذلك أو بعضه، ليكونوا قد تجاوزوا انقضاض طائر الموت الذي نعلم ونثق انه مهيأ لان ينقض ذات لحظة ما لعلها لم تكن بالحسبان.
متى عرفت “كاظم الأحمدي”؟. راودني هذا السؤال بعد اللحظة التي هاتفني فيها صديقي الأستاذ “رياض عبد الواحد” صباحا مبتدئا بالاعتذار عن نقله خبر موت كاظم ليل1/7.
تيقنت في تلك اللحظة أنني عرفته خلال التردد الدائم على “المكتبة الأهلية” في البصرة القديمة ،أواخر ستينيات القرن الفائت، و توطدت العلاقة بينه وبين الراحل مصطفى عبد الله وبيني عام 1972 عند جلوسنا شبه اليومي في مقهى ((أبو مضر)) أو ما سميناه ((الدكة)) لابد من لقاء ما للحديث عما يجمعنا .. الهموم الثقافية آخر القراءات وختامها القصة أو الرواية ثم التطرق إلى الوضع العام وشجونه..وكان لكل منا تقديراته وأحكامه حينها.. و التوجه نحو الكورنيش للنزهة عصرا والجلوس هناك ومواصلة الأحاديث دون ملل، و الانسلال إلى “نادي الفنون” ،في الغالب كان كاظم لا يحبذ ذلك و يذهب بحكم التزامات عائلية لأسرة صغيرة تعاني ضيق اقتصادي، ومصاعب الإيجار ومشقات بداية عقد السبعينيات ، وترافق ذلك مع المرحلة الأولى للتكوين الأسري لكاظم.. كنا مصطفى وأنا نَطّلع أولا بأول على ما يكتب من قصص..وأمانة كان مصطفى قارئا حريصا ودقيقا ومخلصا جدا لكاظم.
في مكابدات النشر كان كاظم يبدو مأزوما..حيث لم تكن في ذلك الوقت الاشتراطات الأساسية للجودة الفنية، لمن لم يكن معروفا.. و ثمة مسوغات أخر للنشر في الصحف والمجلات الحكومية..وربما غير الحكومية على قلتها .. مسوغات واشتراطات كم تبدو تافهة وضيقة الأفق ألان..مسوغات أضاعت فرصا كبيرة ومخلصة لنوع وشكل الخارطة القصصية والثقافية في العراق، مسوغات يقف في مقدمتها التخندق الحزبي الذي كان يسم حياتنا أو بالأدق يسممها..كم تبدو تلك الأيام عصية على النسيان..!!
بدا كاظم يعد العدة لنشر مجموعته الأولى،”هموم شجرة البمبر”، صمم غلافها الفنان شاكر حمد ، قدم المخطوطة أولا لدائرة الرقابة، قبعت هناك لفترة، ثم اُخبر بأن عليه أن يحذف منها بعض القصص خاصة في القسم الثاني المؤرخ بقصص عام 1974 ، كان القسم الأول يحتوي قصص عام 1973 ، استجاب لذلك مرغما، وعند تقديمها إلى وزارة الاعلام، حيث لم تكن ثمة وزارة للثقافة حينها، تم إفادته بمبررات واهية لعدم إمكانية نشرها، فطالب بالتعضيد فحصل على الموافقة بعد ترشيقها من بعض القصص ، فوافق أيضاً ، وحصل على نصف كلفة الطبع البالغة 150 دينارا،وكان هذا المبلغ كبيرا ،علينا، في ذلك الوقت،طبعها في النجف وفي مطبعة الغري الحديثة التي تؤل ملكيتها ربما لعائلة السيد حميد المطبعي، فصدرت عام 1975 . مع اشتداد التسلط مورست ضغوطات شتى على كاظم الأحمدي، ضغوطات تتعلق بالموقف والوظيفة والنشر ؟ . هل كان كاظم يشكل خطرا شديدا تجاه النظام، لمواجهته تلك المواجهة وممارسة تلك الضغوط الشديدة عليه!؟. أم إنها عقلية السلطة القامعة، التي ترى كل من ينفرد عنها، بعيدا حتى عن الطرف الآخر ، عدواً لها،أو غنيمة يجب استباحتها دون ترك الكاتب والمثقف والفنان يتمتع باستقلاليته واختياراته وخياراته الحرة المستقلة!؟. أنى لسلطة غاشمة أن تقنع بتلك القيم.. وأنى لأفرادها والمتحكمين في مفاصلها تلك التوجهات؟. وهل كان من الضروري أن يتحمل الإنسان تلك الضغوط في حياة تعاش لمرة واحدة ؟. وهل قدره أن يظل بين المطرقة والسندان متوترا بانتظام، ضائعا مأزوما على الدوام؟.عام 1976 صدرت مجموعته الثانية” طائر الخليج” ضمن سلسلة “كتابات جديدة” منشورات وزارة الاعلام،عام 1980 صدرت مجموعته “غناء الفواخت” عن الوزارة ،التي أصدرت كل أعماله بعد ذلك، عام 1986 صدرت مجموعته القصصية” شواهد الأزمنة” ، عام 1992 صدرت روايته الأولى”أمس كان غدا”، عام 1996 صدرت له “تراص الأنا” قصص، عام 2001 صدرت روايته الثانية” نجيمات الظهيرة” وذكر على غلافها الأخير ثمة إعمال معدة للطبع هي ” اختيارات أولى- قصص مع مقدمة في الكتابة القصصية” و رواية ” قصر الالزماني” ورواية أخرى هي “تجاه القلب” لم يصدر من ذلك إلا الرواية الأخيرة عام 2008 . حاول كاظم أن يقدم في رواياته سجلا سرديا روائيا للتاريخ العراقي وتحولاته العاصفة منذ 14 تموز 1958 حتى تموز 1968 . دأب أخي كاظم على إهدائي جميع ما اصدر وكانت كلمات الإهداء لها علاقة بالزمن والوضع العام معتمدا على قراءتي الخاصة وتأويلي للإهداء. مجموعة ما كتب لي ضمن ما كتب “…. فأنت تعلم عني ، ما لم يعلمه غيرك” وكان ذلك بتاريخ 1 / 1 /1977 ، وأخرى كتب لي في نهاية الإهداء”.. في زمان نحتاج فيه للذكرى لكي نكون احياء” والتاريخ كان 22 /5 /1996 ، أما روايته الأخيرة فكتب ” اقرب الطرق إلى المحبة ما يبوح به القلب للقلب، لعل هذه الرواية تقرب المسافات” أما نجيمات الظهيرة فكتب لي ” بعض قلبي، الذي خبرته، بين يديك”. كما أهدى كاظم مطبوعه الأول للسيدة زوجته بصفته”أولى الثمرات” و بعد أكثر من 25 عاما مع الكتابة والحياة المشتركة ، والكد والكدح المتواصل، عاد ليهدي السيدة زوجته روايته “نجيمات الظهيرة” كاتبا لها في الإهداء-:” ثانية ؛ قبل الشيخوخة”، إلا إن طائر الموت لم يدعه يدرك معها ذلك الحلم. في مقدمته لمجموعته” شواهد الأزمنة” اختزل “كاظم الأحمدي”، في الكتابة، كل ما شعر به و خضع له ، خلال حياته وبعض تحولاته والتي حاول أن يجد لها المبررات الشخصية العلنية وبمكابرة وثقة أحيانا ، عندما ذكر انه لا يطلب شيئا لكتاباته سوى أن ترى النور كاملة، دون أن تشعر بالخوف ولأنها تحمل حملها يكفيها النور وحده. تُرى أتحقق له ذلك في كل ما نشر؟. وما الذي يراه في الدوافع التي كانت تكمن خلف ما منع من النشر بحجج
شتى ؟.
قبل وفاته بأسبوع ،في زيارة له في منزله ، و بصحبة الأستاذ “جميل الشبيبي” ، كنت راغباً على أن احصل منه على جواب حول تلك المسألة ، وفي الزمن الماضي بالذات ؟. إلا أن اللقاء ألحميمي و استعادت بعض تفاصيل حياة نائية بكل أحمالها ومناكداتها وخيباتها وأثمانها القاسية.. والانشغال بوضعه الصحي ،كان حينها مُطَمئناً بعض الشيء ، كل ذلك فوت عليّ فرصة التحقق منه حول ذلك..غير إن السؤال يا((أبو ضُحى))لازال قائما..مع علمي بعدم حصوليَ،بعد آلآن،على جوابه منك!!.