…(تابع)
العلامة العراقي جواد علي٬ خير من تبحر في آثار تاريخ العرب قبل الإسلام وآدابها.
والحق أن الكلام في هذا المقام عن المؤرخ جواد علي ليس بمثل يسر الكلام عن (محمد بهجة الأثري 1904 ـ 1996م)٬ أو (هشام جعيط/تونس1935ـ2021م)٬ بل وحتى عن (آرثر جون آربري 1905 ـ 1969) ذاته، لان هذا العلامة قد وضع تغير الملتبس في المجال الفكري العربي الاسلامي، رغم كونه بأمتياز منفتح التفكير، فقد سعي إلى الانفتاح على خارج الفلسفة من اللغة/الكلام و تمكنات سياسية ورفعة الأدب وسعة العلوم أنسانية، بل انه جعل من التحقيق مفاصل تتابع التأويلية الفلسفية في حوارية دائمة مقابل منطقية وعي المستشرق والمتغرب، من دون ان يهمل حوارها مع تاريخها التحليلي الخاص، أو مع نهج وعي ذاتها.
وقد كانت شكلت بداية تلك المقاصد عندما أفقدته الحرب العالمية الأولى التأويلية لفلسفية٬ القواعد الأصولية لأهداف الحداثة؛ في تحريف دراسة علم الأدلة في سائر الثقافات والأمم؛ التي كانت نفير أزمة قيم الحداثة والعقل. بل أيضا توجيه المنطوق الفلسفي “التأويل التحليلي” بإتجاه المسكوت عنه على سائر ثقافات الشعوب٬ الوقائع العاكسة لمجريات و مخرجات الحرب العالمية الثانية التي كانت أوج أزمة تفتك الحداثة٬ فقد جعلته يعيش تجربة المراجعة من نماذج طنابة التحليل التاريخي والزمان الثقافي؛ التي مثلت له تحدي أولي تجل للبربرية الحديثة مقابل محور وعي منطلقه استعداد التحقق تجاه الجاهلية، في فعل الاستعارة وحياتها٬ بل نموذج التفكر الأخلاقي الناظم؛ الذي ينسق الشر على ما يظهره في حول الذاكرة والتاريخ٬ وفق النحو التحليلي التاريخي٬ والهوية والواجب استذكارها بدقة٬ استعادة المطلقات ذاتها؛ التي دشنها مفارقة٬ لتخليص التاريخ العربي ماقبل الإسلام من التعريفات التأويلية الفلسفية٬ لما تعنيه الوقائع الجديدة على الأفكار الغربية والمستشرقون الذين ينظرون إلى أتفسهم بمنظر الرأي والأجتهاد في تحسين إسانيد الثقافة والتفكير والتدريب على القواعد والأصول بإتجاه المسكوت عنه٬ للنطق به.
فالمعرفة التاريخية في بناء نوع الهوية السردية صلة ذاكرة جماعية عند (جواد علي)٬ تستوي إليه بالـ”نحن ـ العربي”، فمن البين أن فكره يحضر بقوة في إنتاج عديد من المفكرين العرب “الناجين من هيمنة الأستشراق” أو من “ذاكرة المحتشدات التأويلية الفلسفية” الذين يشتغلون على قضايا الزمن والتاريخ والتراث والهوية من الفلاسفة، ومن نقاد الأدب ومن علماء النفس، بل ومن دارسي الأديان، كذلك من المسيحين العرب والمسلمين. ولقد كان من المعارضين الصارمين لتلبيس الشعوب هويات ثقافية تأويلية٬ لغرض التسلط والهيمنة، وكان من الذين نادوا على خلفية نوع الإنصاف العلمي والتحقيق المعرفي بوجود دلائل في المكان والزمان٬ واحدة للمكان٬ وأخرى للزمان. ولم يتوان عن التحول في التحقق الميداني إلى الذهاب لهذه البلدانـ النبع “أشتقاق المعرفة الحضارية وتاريخها” في الجزيرة للفحص والتنقيب والاستكشاف. ليفيدنا نحن بها أيضا.
ورسالة الموسوعة واضعة وظيفة فن دلالة المفاهيم العلمية (المفاصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) إذن استعراض المسائل المختلف فيها بين مشاهير المؤرخين، وكذلك المسائل المتفق عليها فيما بينهم، وذلك على سبيل المقارنة والمعارضة من أجل التدرب والأستعداد لبلوغ رتبة المؤرخ. فرتبة المؤرخ تقتضي نظرا في المسائل المسكوت عنها؛ وذلك ما يقدر عليه التحقق إلا إذا كان قد عرف أراء المؤرخين ومناهجهم في الأتفاق والأختلاف؛ وفي تأويل الأختلاف والتباين والتعدد على الخصوص أكثر مما هو عليه حلات الأتفاق.
ويعني ذلك من ضمن ما يعنيه العلامة الاستاذ (جواد علي) أن يمسك هنا بحافة الضفتين من جهتين: جهة تاريخ احكام توثيق المراحل، وظهور آجتهاد مؤرخيها ومنهجهم/مذاهبهم، بالإضافة المستشرقون وأهداف مشارب مدارسهم إلى وجهة فنون الأدلة والمناهج المتعددة. وقد عبر عن المسألة الأولى ضمنا عندما أعتبر استعراض آراء المؤرخين والفقهاء آوالعلماء والباحثين أوالمجتهدين إعدادا ضروريا لبرهنة الأحكام عن أدلتها، بينما استعرض فعلا جوامع مسائل المخطوطات التاريخية وتاويلات الخطاب الشرعي/الفلسفي٬ قبل أن ينصرف لاستعراض آراء العلماء المستشرقون و المؤرخون والفقهاء على أصول الأحكام٬ كما هو معرف في كتب الأختلاف الأخرى في شتى المناهج والمدارس.
والواقع أن جواد علي كان رائدا في اختبارين ففيما يتعلق بالمسألة الأولى، وأعني بها تاريخ رموز اللغة، وما تطور إليها من وجوه أتفاق وأختلاف، نجد أن العلامة احتفظ لنا في طوايات كتاب الموسوعة٬ بإيضاحات الوثائق الضرورية هلى نحو الاستعادة لتتبع ذلك ودراسته. فضمن أبواب الموسوعة المختلفة حسب موضوعات المؤرخناتية العلمية نجد فيها؛ أختلاف المؤرخين العرب والمستشرقين، اختلاف جماع العلم، وسرديات إبطال القبول والوفاق بالاستحسان، وكتاب الرد على محمد بن الحسن الشيباني، وأيضا هناك الرد على سير سرديات الرموز في مسائل الزمان التاريخية. ومن تفحص تلك الوقفات٬ أو٬ الرسائل؛ـ يتبين لنا أن الاستاذ جواد علي٬ أخذ بعضها من البلاد التي أستعاد قراءة التفكير في إنتاجتها٬ وجديدها في نماذج التفسير المؤول التحليلي٬ في ذات الوقت٬ الخيز الأخلاقي الناظم للذاكرة السردية عنها٬ بينما جمع بنفسه بعضا أخر، وقد قام بمناقشتها ونقدها تمهيدا للخروج باجتهاداته الجديدة في هذه المسائل كلها ـ وقد كان من حسن الطالع بقاؤها ضمن كتاب “الموسوعة”٬ لتطلعنا على التحقيقات المبكرة في الأختلاف بين المؤرخين من جهة، وعلى طريقة جواد علي في التحقيق والتوثيق والرأي من جهة ثانية.
أما المسألة الأخرى، والتي كان الأستاذ (جواد علي)٬ رائدا فيها مما يتعلق بأختلاف المؤرخين، بل بإتفاقهم بعلم الأدلة الوظيفية. فالمعروف أن الاستاذ (جواد علي) الذي عرف البحث التنقيبي للمتمرسين العراقيين والعرب، وأرخنة الأستشراقيين وخاض نقاشا مع الأوائل، وجدلا مع الأواخر، قام بعمل آخر قبل صياغة مذهبهم القديم، بل ربما أثناء صياغته، تمثل في تأليف كتاب الرسالة الذي قعد فيه لعلم الأدلة الوظيفية: المكان، والزمان، والإجماع، والقياس. وبسبب نشأة ذلك العلم في جو جدالي أو خلافي؛ فقد ظهر ذلك في رسالة الموسوعة مثلما ظهرت في أهداف أجزاء وفصول الموسوعة.
على أن البينة الخلافية التي تظهر لدى (جواد علي) في المستويين الرمز النوعي وفروع جزئيات التأويل التحليلي الثقافي. بحيث أن مستوى مناهج الأدلة، لا يظهر منها لدى تاريخ الفكر الاستشراقي غير المستوى الأول، مستوى الرمز النوعي وفروع جزئيات التأويل التحليلي الثقافي. ويرجع ذلك إلى المسافة الزمنية التي تفصل (جواد علي) وأرخانياته وخلافياته المحققة؛ التي شكلت منعرجا علميا٬ حعلته يصبح معاصرا حقيقيا لما حصل في تاريخ الأبحاث العلمية الحديثة٬ من تحول في تفكير محور الوعي بالتأويل التحليلي “لدى المستتشرقين”٬ واللاوعي كذلك٬ في أدوات الأبحاث في فعل الاستعارة٬ أدوات غرائمهم التحليليه٬ في الأطناب المعرفي الهوياتي٬ عن تاريخ العرب والمسلمين قبل الإسلام.
فنحن نعلم اليوم أثر “مهنيته العلمية المتمرسة” أن علم الأدلة العلمية في التحقيق عن “الجاهلية” استقرت إلى حد بعيد منذ زمن في تقسيم الأجناس البشرية الصلبة٬ بذات المسائل الهوياتية٬ صراعات تقترحاها على التاريخ الأجناس الحضارية ومسائل فكر الزمان التاريخي.
هذا ما دفعته إلى الأضطلاع بذات الجغرافية٬ أنطلاقا من أمتحان ما تقترحه تلك الأقوام٬ و كذلك ما أنتجه من ردة فعل معاكسة في اللاوعي في مستحدث اللغة ـ تغريبة غربيةـ مع استثناءات ضئيلة ـ، فما عادت هناك نقاشات خلافية إلا على مستوى القواعد الخاصة بكل مدرسة/منهج، والخلافات الجزئية التأويلية التحليلية الثقافية٬ هي الأخرى المتعلقة بالدلالات اللغوية (مباحث الرموز النوعية)، ودلالات المفاهيم المتصلة بتنزيل الأطلاق اللغوي على تأويلات الوقائع. وهذا معنى ذهاب ـالعلامة جواد علي) إلى أن دراسة ( اختلاف المؤرخون) في عصره إنما هي دراسة تدريبية وتوثيقية، ودراسة مقارنة؛ ذلك أن الخلفية التأصيلية كانت قد صارت واحدة في ذات الوقت؛ دفعته تربيته العلمية وفهمه بمقدرات التفكير والمسؤولية العلمية٬ رافد تفكيره الأول هو الأشتغال عليها بمهنية علمية عالية٬ في طرق التحقيق والتنقيب للمكان وفق معلومات توجيهية من أجل المعرفة٬ الذي ظل طوال حياته يعتبرها مهمته الأولى٬ عند محاولة فهم ما جرى “في الفترة الجاهلية”.
وبالتوثيق: هناك اتفاق على الأدلة في سائر المناهج، بل وهناك اتفاق على أكثر القواعد التي تبلورت في ظل علم الأدلة ـ فيكون على المؤرخ الذي يريد أن يخطو باتجاه التاريخ في المناهج أو في الأحداث بشكل عام أن يقوم بالأمرين معا أيا يكن مدرسته أو منهجه، دراسة علم الأدلة دراسة معمقة، والاطلاع على القواعد اللغوية والأصولية في سائر المراحل والتأرخة المنهجية، وهذا كله يدخل في باب المبحوث فيه٬ موثق منطوق به. وهو الذي يمكن المؤرخ من الخطو بإتجاه المسكوت عنه؛ ذلك أن المقصود بالمسكوت عنه، الوقائع الجديدة، التي يستطيع المورخ الطالع الذي أتقن علوم المبحوث به موثق به أن ينظر فيها ويصل إلى رأي بدليل أو وثيقة بشنها استنادا إلى الثقافة والتحقيق. ….
يتبع….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• المكان والتاريخ: طوكيـو ـ 09.08.22
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة)