…(تابع)
يظهر العلامة (جواد علي)٬ من حيث تصميم و خطواته المنهجية التطبيقية “الأحترافية”٬ لما شكلت له مكانة مميزة في المراجع التاريخية٬ لدقة متابعته العلمية الرصينة٬ في مادتها الدسمة الخطى٬ وما شكلته من أختلاف المؤرخون والمستشرقون بين من يعلى رفعة شأنها٬ ومن يحط من مكانتها. أي٬ زن هذا الأختلاف حول مكانة (جواد علي) في دراسته تاريخ (الجاهلية) يستقيم دليلا على حضور “الأثر” بروافده العلمية المحققة٬ حتى عند معارضيه٬ وفي مقدمتهم المستشرقون أو المتغربون من العرب الذين لم يسلموا من حدة تأثيره. فقد مهدت أستراتيجيته بنى منهجية لا على التأويل التحليلي٬ بل على قوة الأثر لمكان وزمان تاريخ المنطقة العربية قبل الإسلام٬ وعلى النصوص؛ التي بناها التأويل التحليلي الفلسفي؛ لدى المستشرقين والدارسين من العرب وغير العرب. كما بنيت آبحاثه الاحنرافية٬ محتكما أياها إلى الأثر تارة٬ والنصوص التحليلية مرة. فهو عالم حصيف٬ ومؤرخ يوقف على التصورات الفلسفية مثلما أختلفوا بها٬ فجعل من أبحاثه عصامية٬ محتكمها الاعتداد بالنفس٬ فهو ذو إرادة قلبته٬ إرادة عزمته كيفما جاءها٬ عصامي بين المستشرقون والمؤرخون والباحثون. يندفع إلى الحقيقة التي يسعى إليها اندفاع السبيل٬ مشقة الأثر٬ من الثراء النافح الذي يختزنه تاريخ المنطقة٬ الذي كان يجرف كل من يقف في طريقة قيامها الأرث الحضاري الضخم٬ وهذا ما جعل طريقته البحثية؛ الأنتقال من النصوص التاريخية؛ مواجه نقدية لوصاية المعرفة الاستشراقية التأويلية٬ وحولياتها التحليلية. ملأت تسمع وتبصر الأخرينم على بصيرتها وتصوراتها من تجريف تاريخ المنطقة٬ و وصمها بمرحلة الجاهليةم التي فضح فيه طريقه من نصوص “الوصاية العلمية” ليس حيثما يشاؤون٬ بل أزدادت حصافته العلمية شهرة٬ نبراسا بعد مماته٬ وتناولت أبحاثه لدى كثير من الجامعات الغربية والعربية من مؤيديه ومعارضيه٬ حتى إننا لو جمعنا المصنفات حول مدونات وما كتب عنه٬ لألفنا بذلك مراكز علمية ومكتبات خاصة بالدراسات والمراجعات النقدية بالعلامة “جواد علي”.!!٬ ،هذا ان دل على شيء إنما يذل على كثرة الباحثين من العرب وغير العرب ومن المستشرقينم وقوفا على عبقريته ومنهجه٬ دافعا به إلى المفكرين٬ للفائدة والتعلم.
ولا غرافة في ذلك٬ ما دام أن ثقة الرجل بنفسه تشكل منعطفا حاسما في نقد الأستشراق٬ ونقد المسمى للجاهية” ومأنها “المرحلة البربرية” تبعا لتأويلات الفلسفة التحليلة٬ هذا النقد الذي عرف مع المؤرخ (جواد علي) نقلة علمية٬ يستهل بها “موسوعته”٬ بالإشارة الواضحة من العنوان٬ والمقدمة إلى الصعوبات التي تعترض الدارس لفكر ومنهجية (المؤرخ جواد علي)٬ مثال الاحترافية الرصينة٬ متعددا في غزارة ملاحظاته وكتاباته ووقفاته٬ وكون بعض الاختلافات في الأبحاث كشفت عجز النصوص الفلسفية التأويلية من عجزها دقة متابعتها التاريخية العلمية٬ أو من النصوص التي تعزى إلى تلك المرحلة٬ والتغيرات التي لم تحسب على التغيرات التي طرأت عليها٬ وعلى الأقوام والمواقف خلال مسيرة التدوين أو الإشهار في أشتغال الباحثين عليها.
لذا فإن المادة النقدية التي كان يصنف إليها الأسباب تحت أتقاد/وهج معرفي في الإنتاج٬ أخضعها إلى جانبان:
الأول: إن (جواد علي )٬ أرتكزت على مسحه الموسوعي منهجية منظمة ومصممة٬ و ظافرة بأختصارها٬ في ذبيعة اللغة الواضحة من جانب٬ بفضل أبحاثه الميدانية٬ فأنهرس على دراستها وتأملها… ولأن حرص أنتماءه عن المكان والأتجاه الفكري ـ والعلمي في أتقان مباحث المكان والزمان واللغة أداة المنهج والبناء والمخاصمة٬ ولأبحاثه الميدانية يرجع الفضل في تمكنه من دراسة إشكالية عصيبة في التأويل التحليلي التاريخي في الأقوام٬ المعنية هنا ـ بالتوصيف “الجاهلية” للأقوام بالمنطقة شبيه أو تعميم لمصطلح “البربرية بالتوصيفات الغربية٬ في دعوى استشراقية لأفاق طوت على حياة وثقافة العقل العربي.
أما الجانب الآخر: وهذا ما قد يعد غير مألوفا٬ هو استكشافه آفاق تتعدى طور العقل الاستشراقي وثقافة “الظاهرية” الضالة في حزم المعرفة تجاه الاختلاف و الإتقان٬ مما جعله يحفر ليختم معظم المسائل؛ التي يخاصم فيها المستشرقون والباحثون العرب وغير العرب٬ بالحكم بأن الأرث الثقافي ومعطيات المنجزات الحياتية٬ تفوق التأويلية التحليلية للمستشرقين٬ بل أن الدراسات التي أوجدها تتعدى “الظاهرية الغربية التحليلية”٬ حكمم عليها بالعجز٬ عن الاحاطة بمعطيات الأقوام للمنطقة قبل الأسلام. فلا نجد لدى المؤرخين السابقين عليه ـ عذا بعض من دعاة التغريب/ الاستشراقي من قبيل الموائمة على دراساتها الاستشراقية وتأملاتها التحليلية٬ وإن كان المستشرقون يطلقونها على الأقوام في المنطقة قبل الإسلام في اتجاه معاكس لما فعل–(جواد علي)٬ فالمستشرقون يعادون كل دعوى تخالف توجهاتهم “نظرياتهم”. فقد كان المؤرخون يخاصمون أبدا من منطلق العقل٬ ويعتقدون أن المنتج الذهني للفكر الإسلامي “فكر بربري”٬ بحسب “الجاهلية”٬ ويعتقدون أن الأفكار التي يخاصمون منتجها الاجتماعي والفلسفي٬ فسادها راجع لخللها “الجاهلي”. غير أن المؤرخ العراقي المبدع ( جواد علي)٬ أستوضح في خصامه وأختلافه معهم عن العجز التأويلي التحليلي من عجز العقل٬ اللاحق عن تبني تحليلات تبتعد عن الحقيقة في أمور الدراسات والأبحاث الدقيقة الميدانية. لكنهم ونعني هنا٬ أن الدراسات تثبت ما يختلفون به٬ في هذا الميدان٬ لأختلاف مشاربهم وأنتماءاتهم الفكرية. أما ما يتصل بالعلامة العراقيـ جواد علي)٬ فقد تعداهم بذلك.
ولذلك٬ فلا يمكن للباحث المنصف٬ أكثر دقة مما جاء به “صاحبنا ـ جواد علي” من حيث وضعه الشيء موضعها٬ وهو معنى العلمية٬ الحق الاستكشافي الرفيع٬ وهو معني المؤرخ عند البحاثة القدماء والجدد. ولا يمكن أن نكون أقرب إلى جادة الحق العلمي أو الميل بالأدنى إلى الصواب٬ أذا لم نجد القواسم لحفرياتنا خارج عقلانية الفلسفة في التحليل الظاهراتي أو تأويلات تحليلية٬ التي تحتاج إلى فهم اللغة وزمان ومكان دورة المنهج البحثي٬ التي جاء إليها متحدثا بها على الصغيد العقلاني٬ والكشف عن موضعات المؤرخين التي تزعم فيها على “صعيز تدني العقل أو رقيه ” لدراسة الأقوام٬ والتي إلى الأن تعاني النظرة العربية من غطرسة بعض التصورات الاستشراقية للمنطقة وتاريخها.
لقد واجه (جواد علي) المستشرقون بأسلحتهم٬ وتمرس بإشكالياتهم في الميدان التوثيقي والتاريخي. برغم ابحاثه التوثيقية الحادة على المستشرقون والاستشراق٬ فهو مؤرخ ومؤرخ واضح دقيق. وفي أبحاثه أثار عروبية لا يمكن تجاهلها. بل إنه صارع الاستشراقيون. والأكثر من ذلك: كانت الروح الانتقادية عند (جواد علي) دؤوبة ومثابرة٬ أقوى منها من عند الباحثون الغربيون و العرب٬ فكيف يمكن أن يستمر في منأى عن أفكارهم وتأثيرهم في موسوعته٬ بل وكذلك في أبحاثه التي لم يفرط فيها بأصالته٬ وهذا الذي نقره٬ ونعتز بصدده رصانة أصالته في قراءاته التاريخية٬ بلا أدنى شك٬ كما نلاحظه في عمله الموسوعي الاستثنائي الرائع “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”
فالعلامة العراقي (جواد علي)٬ عالم ومفكر ممتاز٬ محقق ومؤرخ يمثل الحلقة لأقوى في سلسلة كبار المؤرخين العراقين والعرب وغير العرب ٬ ولذلك فليس أعتباطا أن نجد المصادر والمرجعات العلمية التاريخية٬ لها من العطاء المعرفي التأريخي٬ وإشارة رصينة إلى مكانته الجليلية التي يتبوأها٬ حين تعطى مكانته أعظم مؤرخ لتاريخ العرب قبل الإسلام٬ موسوعته التي تتعدى الحلقة الثقافية٬ له منها خصام الرحلات الاستشراقية التي تشبهت تأويلات التحليلة٬ وأن الرحلات التي قام بها “ميدانيا” عززت كشوفات أنطلاقاه الجغرافي التاريخي٬ بمعية الحقائق٬ وعاد بها إلى نقطة الأنطلاق٬ مع نصوص الأنف الذكر في متن الموسوعة٬ ليعيد أحياء نقطة انطلاقه كعراقي وعربي ما لا يعيب على مج المنطقة وتاريخ أبناءها٬ لذا له رسم ثقافي وتاريخي في أعيننا٬ يغزل إليها من العلم والمعرفة عرفانا لمجد إرادته العصية٬ ما ذهب بناإليه ليس بأن نعده مرآة عاكسه من ارث هذه المنطقة التي توصف في “الظاهرية” الاستشراقية ٬من جاهلية ما قبل الإسلام٬ به رسم حد الحديث كأعظم مؤرخ٬ عندما نراجع إنجازاته٬ إنه كان مؤرخا أكثر منه عالما ومفكرا٬ لكنه ليس مؤرخا فحسب بل أجاد أحسن الفروسية العلمية٬ أظهر فيها جليا جشم العناء والتمحيص وتطويل الأنفس الذي أستهله٬ من أنه من أبناء هذه “الهوية”؛ حين أستهل بها وسم موسوعته الرائعة ” المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• المكان والتاريخ: لندن ـ 09.09.22
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة)