بعيدا عن المدينة الهادرة التي ابتلعتني لسنوات ببيوتها المتباعدة،وأزقتها الملتوية، وبأضوائها وملاهيها. عزمت الرحيل إلى رحابة قريتي الوطيئة الأطراف، والخصبة المراعي. ولم أكد أصل حتى عبرت طرقات تحيط بها الأشجار في الطريق. كانت متعرجة ضيقة كشجرة متشعبة الجذور .وبعد ساعات وصلت أخيرا لأجد جحافلا من الناس هبوا لاستقبالي تتقدمهم جدتي التي عانقتني عناقا حارا . حييت أهل القرية فردا فردا ،واتجهت مع جدتي إلى بيتها المعمم بالقرميد الأحمر ، المسيج بحديقة تجلي الكروب عن النفس من شدة بهائها.
دلفنا البيت ، واتجهنا إلى المراح حيث أعتدت جدتي متكئا ، تبادلنا السؤال عن أحوال بعضنا البعض ، ونلت حظا من كرم أهل القرية البسطاء الكرماء، الذين يمجدون الضيف ويعلون شأنه.
ونحن نرتشف الشاي، إذ برسول يلبس جلبابا ناصع البياض يحمل بيده اليمنى قصبا طويلا، لف أعلاه ببعض الورود، حيانا وشاركنا ارتشاف الشاي ، ثم دعا الجالسين جميعهم إلى العرس المزمع تنظيمه في تلك الليلة. وألح علي المجيء، فطمأنته جدتي قائلة:
– سيرافقني لامحالة .
حمل الرسول حاله وانصرف ليتمم دعوة ما تبقى بالقرية ، ويستأنف سيره بعدها إلى القرى المجاورة.
حل المساء، وغابت الشمس في خجل مودعة الأفق البهي، وأنا على السطح أرقب الشمس تجر ثوبها الجميل الأحمر خلفها وكأنها تخلذ للنوم . ناداتني جدتي. لبيت ندائها سريعا. رشقتني ببعض العطر،ثم ربتت على شعري فطردت طوابير أعين الحساد التي تطوف حول ابنها بدعواتها.
أغلقت باب الحانوت،وضمت بيدها الناعمة أناملي، واتجهنا معا إلى بيت العرس.
كنا نسير فسجى الليل، وإذا بالظلام يشتد حلكة . كنت أتحسس الطريق بضوء هاتفي. وماهي إلى خطوات حتى تراءت الأنوار من بعيد. أنوار قرية تحتفي بعروسين جديدين يستعدان لبناء عش يأويهما تحت لواء الحب.
الحب: هذه الكلمة الخفيفة في اللسان، والثقيلة على القلب. الحب كالحظ، إذا أقبل على المرء كساه من حيث لا يدري ، وإن أدبر عنه سلبه من حيث يدري.
وصلنا إلى القرية، استقبلنا أهل العريس بحفاوة ، وأرشدني رجل إلى البهو،وهناك جالست بعضا من أهل قريتي ننهل من ذكريات الماضي ما ترسب بأذهاننا.
بعدما تناولنا العشاء ، خرجنا إلى الفناء حيث تصطف النساء وهن في أبهى حلل الزينة، و في حلقة دائرية حول الرجال الذين يتكفلون بضبط الإيقاع- الذي يؤدى بدوره بأدوات خاصة- يحملون بناديرهم مستعدين للبدأ.
بدأ العرس بموال افتتاحي، لتتعالى الأهازيج والأغاني فرحا بالعروسين.وبعد حين دلف العروسان منتصف أحواش، فتبصر عيناي شيخا ستينيا يرتدي جلبابا أبيضا، وعلى رأسه عمامة. يرقص ويبتسم ابتسامة تظهر ما تبقى من أسنانه المتهالكة، بينما العروس تلتحف لحافا يخفي تقاسيم وجهها جالسة لاتنبس بحركة. راودت ذهني العديد من الأفكار ولم أستسغ الأمر البتة. وجعلت أتأمل العروس التي من ظاهرها تبدو في ريعان شبابها ، وهذا ما أكده لي شخص من أهل القرية بعد كلام مستفيض .
خمدت الأهازيج وأسري بالصبية المسكينة إلى قدرها المحتوم.العرف اغتصب طفولة الصبية وشبابها وأحلامها.
انتحرت الفتاة ببطء وخضعت واستسلمت لإرادة أبويها اللذين رميا ابنتهما في حقل أشواك.
رفعت ناظري فأجد طفلات يحملن أطفالا رضعا ، تشنج قلبي لحالهن ، كيف لهؤلاء أن يسقن إلى المذبح وتذبح طفولتهن؟.
لم أستطع المكوث طويلا فناديت جدتي واستأذنا العريس الرحيل.
سرنا بين فجاج الأشجار ، متجهين إلى البيت. وبعدما أشرقت شمس يوم جديد، بلغ مسمعي أن الصبية توفيت .
صرخت صرخة فأفرحت أهلها بالقدوم ،وهاهي ذي تصرخ الصرخة نفسها لتودع الحياة وتودع أهلها …. .