المُبجّل شاليط
فرج ياسين
كما هي الحال في معظم أيام شهر تموز ، كانت هذه الأمسية حارّة ً جدا ً ، وهما يجلسان تحت رحمة دوّامة ٍ من هواء ثقيل ، تنثها حولهما مروحة ٌ سقفية ٌواطئة ٌ. كانا عجوزين مهمومين صامتين . قبل دقائق دلف أحدهما إلى داخل البيت ، وأحضر جريدة ً مطوية ً بعناية ؛ وضعها أمام جاره وصديقه سليم الوزان قائلا ً :
– هنا ستجد المقالة .
في خلال نوبة الصمت ، دخلت امرأة بدينة سمراء في نهاية الخمسينيات من عمرها ، تصر وجهها وعنقها بلفاع أسود ، فسدّ جسدها معظم فتحة باب الحجرة ، ذهبت إلى مكان جلوسهما ناظرة إلى سليم الوزان وهتفت بلهجة لا تخلو من دعابة:
– قهوتك على الريحة .
حين كانت تضع أمامهما فنجاني القهوة ؛ لاحظت أن صمتهما يُضمر قلقا ً ما .
قالت :
– لم أعتد منكما هذا الهدوء الوقور أبدا ً !
أجاب زوجها أحمد اليافي :
– كنا نتكلم ، وقبل دخولك نفد الكلام .
ثم خرجت فلاحقا صدى خروجها البطئ .
قال سليم الوزان :
– هل تذكر يوم استبدلوا بضعة جنود بأربعة آلآف أوأكثر من العسكريين والمدنيين ؟
أجاب أحمد اليافي :
– أجل . وكان بعضها جثثا ً قديمة .
– هل حصل ذلك مرة واحدة ؟
– لا لقد تكرر مرات عدّة .
عبر صرصار كبير باب الحجرة قادما ً من الداخل ، وتقدّم نحوهما فأوحى منظره لأحمد اليافي برائحة ما ، وحين نهض للتخلص منه تذكـّر أنه مهموم منذ بضعة أشهر بمشكلة أنابيب الصرف الصحي في البيت ، إذ إنها أصبحت متآكلة تنز مياهً ثقيلة ً آسنة ً وروائح كريهة .
هتف سليمان الوزان :
– لا تقتله بحذائي؟ إنني أكره رائحة هذه الحشرة .
لكن أحمد اليافي سحقه بحذائه . وهو يختض ضاحكا ً ، ثم أخرج من جيب قميصه منديلا ً ورقيا ً ، وحمل الصرصار النافق وغادر المكان .
أدار سليم الوزان أنظاره في أرجاء الحجرة . الجدران صفر كابية ؛ بدا وكأنها لم تنعم برشة دهان منذ أمد بعيد ، وحروف الجدران الدنيا الملامسة للأرضية مقصّفة
منخورة ، شقوقها بائنة للعيان في أكثر من موضع ، وملاط السقف مبقـّع بآثار نزف ٍ مائي قديم ، وبعض أجزاء الطلاء تتدلى موشكة على السقوط ، وثمة ستارة قصيرة قماشها رخيص مخرّم من دون بطانة أزيح نصفها الآن ؛ من أجل مرور الهواء والضوء عبر ظلفتي نافذة مفتوحتين خلفها تلوح أغصان شجرة برتقال ذاوية ، غرست في المساحة الوحيدة الخالية في فناء البيت ، كثيرا ً ما فكر – عند رؤيتها – بأنها تعاني ظمأ ً مستديما ً ، وعلى الجدران لوحات وصور عائلية وكلمة ( عائدون ) مشغولة بخرز أخضر تبدو وكأنها مصنوعة بمزاج طفل . وعلى الجانب المقابل لنافذة الحجرة الوحيدة ، رُكنت خزانة خشبية مملوءة بالكتب والمجلات والصحف ، وفي مخيلته تداعت صور شتى تخصهما هما الاثنان – المدرسة الأبتدائية في يافا ، وكارثة الأحتلال ، وديار الشتات ، ومخيم اللاجئين في البصرة ، ثم دار الأقامة في بغداد منذ أوائل الخمسينيات . وتداعت أيضا ً شظايا من مهانة عمر قاحل أمده أحدى وسبعون سنة ، توّجته مع كرّ السنين ، أمراض السكري وضغط الدم ، والرئتان المنخورتان بدخان السكائر الرخيصة .
عند عودة أحمد اليافي وجلوسه قبالته سأله :
– هل رأيت المقالة ؟
– لا ، ولكن ألم تفكر بعد بعمل شئ من أجل التمديدات الصحية في البيت .. انني متأكد من أن جميع الأنابيب منخورة وتالفة الآن .
– صحيح . وقد اقترحت ُ على صاحب المنزل بأن يعفيني من أجرة شهرين لكي أتمكن من استبدالهما، واصلاح ما أصادفه من خلل في المنظومة كلها . لكنه أبى .
أتما شرب القهوة منذ زمن ، وأخذا يدخنان وهما سادران في نوبة صمت جديدة . كانت ساعة الغروب تهبط بينهما ؛ أحسا بها من خلال شحوب الضوء القادم من النافذة حين اشتبكا في حوار صامت أليم . وماتزال شاشة التلفاز تصدر وميضها المتخاطف على الجدار خلفهما ، على أن حاجزا ً واحدا ً كان يمنعهما من تبادل الأحاديث ، انه حاجز الرهبة من التورط في ذكر أي شئ عن المقالة التي قرأها أحمد اليافي صباح هذا اليوم في جريدة ( المكان ) ، وأراد أن يتسلى بصدمة اكتشاف مضمونها من قبل صديق طفولته وفتوته وشبابه وكهولته ، ولكي يشاركه في التعرف على ذلك التحليل المنمق المذل الذي أثار حفيظته ، مع أن ما تستلهمه المقالة بات أمرا ً متداولا ً ، ولا تخلو منه نشرات الأخبار في المذياع أوفي التلفاز هذه الأيام . ثم سمعا صوت المرأة يأتي من الداخل :
– هل اعد لكما الشاي ؟
أجاب أحمد اليافي :
– هيّا ولكن لاتخطئي في وضع السكر.
ثم التفت الى سليم الوزان وسأله :
– الا تشعر بالخجل ؟ انهم يروّجون لاستبدال أسير واحد بألف سجين منـّا .
– الخجل . بلى هذا مانشعر به الآن !
– وماذا بشأن الحلم ؟
– لمس سليم الوزان طرف الجريدة ، التي ماتزال مطوّية أمامه ، وبعد لحظة أبعدها بأطراف أصابعه وأشعل سيكارة ثم خفض رأسه مستغرقا ً في نوبة سعال قاسية ، ولم ينبس بنت شفة .
– هنا ستجد المقالة .
في خلال نوبة الصمت ، دخلت امرأة بدينة سمراء في نهاية الخمسينيات من عمرها ، تصر وجهها وعنقها بلفاع أسود ، فسدّ جسدها معظم فتحة باب الحجرة ، ذهبت إلى مكان جلوسهما ناظرة إلى سليم الوزان وهتفت بلهجة لا تخلو من دعابة:
– قهوتك على الريحة .
حين كانت تضع أمامهما فنجاني القهوة ؛ لاحظت أن صمتهما يُضمر قلقا ً ما .
قالت :
– لم أعتد منكما هذا الهدوء الوقور أبدا ً !
أجاب زوجها أحمد اليافي :
– كنا نتكلم ، وقبل دخولك نفد الكلام .
ثم خرجت فلاحقا صدى خروجها البطئ .
قال سليم الوزان :
– هل تذكر يوم استبدلوا بضعة جنود بأربعة آلآف أوأكثر من العسكريين والمدنيين ؟
أجاب أحمد اليافي :
– أجل . وكان بعضها جثثا ً قديمة .
– هل حصل ذلك مرة واحدة ؟
– لا لقد تكرر مرات عدّة .
عبر صرصار كبير باب الحجرة قادما ً من الداخل ، وتقدّم نحوهما فأوحى منظره لأحمد اليافي برائحة ما ، وحين نهض للتخلص منه تذكـّر أنه مهموم منذ بضعة أشهر بمشكلة أنابيب الصرف الصحي في البيت ، إذ إنها أصبحت متآكلة تنز مياهً ثقيلة ً آسنة ً وروائح كريهة .
هتف سليمان الوزان :
– لا تقتله بحذائي؟ إنني أكره رائحة هذه الحشرة .
لكن أحمد اليافي سحقه بحذائه . وهو يختض ضاحكا ً ، ثم أخرج من جيب قميصه منديلا ً ورقيا ً ، وحمل الصرصار النافق وغادر المكان .
أدار سليم الوزان أنظاره في أرجاء الحجرة . الجدران صفر كابية ؛ بدا وكأنها لم تنعم برشة دهان منذ أمد بعيد ، وحروف الجدران الدنيا الملامسة للأرضية مقصّفة
منخورة ، شقوقها بائنة للعيان في أكثر من موضع ، وملاط السقف مبقـّع بآثار نزف ٍ مائي قديم ، وبعض أجزاء الطلاء تتدلى موشكة على السقوط ، وثمة ستارة قصيرة قماشها رخيص مخرّم من دون بطانة أزيح نصفها الآن ؛ من أجل مرور الهواء والضوء عبر ظلفتي نافذة مفتوحتين خلفها تلوح أغصان شجرة برتقال ذاوية ، غرست في المساحة الوحيدة الخالية في فناء البيت ، كثيرا ً ما فكر – عند رؤيتها – بأنها تعاني ظمأ ً مستديما ً ، وعلى الجدران لوحات وصور عائلية وكلمة ( عائدون ) مشغولة بخرز أخضر تبدو وكأنها مصنوعة بمزاج طفل . وعلى الجانب المقابل لنافذة الحجرة الوحيدة ، رُكنت خزانة خشبية مملوءة بالكتب والمجلات والصحف ، وفي مخيلته تداعت صور شتى تخصهما هما الاثنان – المدرسة الأبتدائية في يافا ، وكارثة الأحتلال ، وديار الشتات ، ومخيم اللاجئين في البصرة ، ثم دار الأقامة في بغداد منذ أوائل الخمسينيات . وتداعت أيضا ً شظايا من مهانة عمر قاحل أمده أحدى وسبعون سنة ، توّجته مع كرّ السنين ، أمراض السكري وضغط الدم ، والرئتان المنخورتان بدخان السكائر الرخيصة .
عند عودة أحمد اليافي وجلوسه قبالته سأله :
– هل رأيت المقالة ؟
– لا ، ولكن ألم تفكر بعد بعمل شئ من أجل التمديدات الصحية في البيت .. انني متأكد من أن جميع الأنابيب منخورة وتالفة الآن .
– صحيح . وقد اقترحت ُ على صاحب المنزل بأن يعفيني من أجرة شهرين لكي أتمكن من استبدالهما، واصلاح ما أصادفه من خلل في المنظومة كلها . لكنه أبى .
أتما شرب القهوة منذ زمن ، وأخذا يدخنان وهما سادران في نوبة صمت جديدة . كانت ساعة الغروب تهبط بينهما ؛ أحسا بها من خلال شحوب الضوء القادم من النافذة حين اشتبكا في حوار صامت أليم . وماتزال شاشة التلفاز تصدر وميضها المتخاطف على الجدار خلفهما ، على أن حاجزا ً واحدا ً كان يمنعهما من تبادل الأحاديث ، انه حاجز الرهبة من التورط في ذكر أي شئ عن المقالة التي قرأها أحمد اليافي صباح هذا اليوم في جريدة ( المكان ) ، وأراد أن يتسلى بصدمة اكتشاف مضمونها من قبل صديق طفولته وفتوته وشبابه وكهولته ، ولكي يشاركه في التعرف على ذلك التحليل المنمق المذل الذي أثار حفيظته ، مع أن ما تستلهمه المقالة بات أمرا ً متداولا ً ، ولا تخلو منه نشرات الأخبار في المذياع أوفي التلفاز هذه الأيام . ثم سمعا صوت المرأة يأتي من الداخل :
– هل اعد لكما الشاي ؟
أجاب أحمد اليافي :
– هيّا ولكن لاتخطئي في وضع السكر.
ثم التفت الى سليم الوزان وسأله :
– الا تشعر بالخجل ؟ انهم يروّجون لاستبدال أسير واحد بألف سجين منـّا .
– الخجل . بلى هذا مانشعر به الآن !
– وماذا بشأن الحلم ؟
– لمس سليم الوزان طرف الجريدة ، التي ماتزال مطوّية أمامه ، وبعد لحظة أبعدها بأطراف أصابعه وأشعل سيكارة ثم خفض رأسه مستغرقا ً في نوبة سعال قاسية ، ولم ينبس بنت شفة .