كان يتمنى أن يستمدَ قواهُ أكثرَ من شيءٍ آخر , واستعادة قدراته الفكرية على التركيز مجدداً , لإزالة جميع الإتهامات والشكوك المزعجة من حوله , التي باتت تهيمنُ على كاملِ محتواه المتبلد , ليستطيع التعايش والعيش بكرامةٍ بين الشرفاء والكرماء , لكن تبدلت الأحوال وشاءَ القدر أن يبتعد عن تلك المدينةِ المغطاة بالخزي والعار , فقررَ الرحيلُ بعيداً عنها كي لا يكونُ عبداً خاضعاً مهاناً كأفرادها الأذلاء , وذاتَ ظهيرة حارقة هلعَ كالمجنون خارجاً من تلك البلدة السوداء , هاربًا دون أن يلتفت يميناً أو شمالاً أو حتى ينظرَ خلفه , إجتاز حدود المدينة مشياً على الأقدام دونَ قطرة ماء , وبعدَ مرور الوقت افتقده أهل المدينة , فشاعَ الخبر حتى وصل إلى السلطان , نهض من كرسيه وصاحَ بصوتٍ عالٍ تقشعرُ له الأبدان ( تباً وسُحقاً لذلك الأبله , لقد فعلها الخائنُ الجبان , يا لخيبتي على أفراد مدينتي وقلة حيلتي بحاجبي الممدوح ذو الوقار , صمتَ لبرهةٍ من الوقت , ثم صرخ قائلاً : أيها الحاجب !!! , إذهب برفقةِ مجموعة من الفرسان واجلبه أمامي حياً أو ميتاً , خرج الحاجب بصحبةِ عشرة من الفرسان للبحثِ عنه خارج المدينة , وبعدَ مرور الوقت وُجِدَ قتيلاً على تلٍ من الرمال , تنهشُ أحشاءَ صدرهِ الضباعُ والذئاب , وما تبقى من جسده سالماً سوى كفه اليسرى , محتفظاً بقطعةٍ صغيرة من القماشِ كُتِبَ عليها ( أنا لن أكونَ يوماً عبداً مستضعفاً لأحد , أو حتى بطلاً قاسي القلب عديم الشعور , اخترت أن أمضي قدماً نحوَ الشمسِ دونَ توقف , كي أموتَ نقياً صافيَ القلب شجاعاً , قبلَ أن يلطخَ معشر السفهاء اسمي بالعار ) عاد الحاجب بقطعة القماش داخل كفه , ثم حملها عائداً إلى المدينةِ مسرعاً , وبعد وصول الحاجب إلى القصر دخلَ على الملكِ قائلاً , مولاي جئتكَ بخبرِ ( كان ) هذا ما تبقى منه , نظرَ الملكُ إلى الحاجب بنظراتِ كُره عميقة وحقد واستكبار قائلاً : يتضحُ لي أن هذه القطعة من القماش تحتوي على رسالةٍ ما , أليسَ كذلك؟ , أجابَ الحاجب نعم يا مولاي , قالَ الملك أرني ما بداخلها , وبعد قراءة الكلمات المكتوبة على قطعةِ القماش التي تركها لهم , لطمَ السلطانُ على جبينهِ وصرخَ قائلاً : أودُ الذهابَ إلى المكان , ذهبَ الملكُ والحاجبُ ومجموعةٌ كبيرة من الفرسانِ ولم يجدو منه سوى بقايا العظام , حينها ترجلَ الملكُ عن فرسهِ وهو يتخطى عكس أشعة الشمس قائلاً : لم أكن أعلم أن النهايات تكونُ بهذهِ المأساوية والبشاعة , فالشرفاءُ أناسٌ أنقياء , يتمتعونَ بالحبِ والإنسانية بالشرفِ والأمانة العظيمة , لن يغيرهم جاهٌ ولا مال ولا مغريات الدنيا بأكملها , صمتَ برهةً من الوقتِ , حتى انفجر بالصراخِ والبكاء طالباً من الحاجبِ العودةَ إلى الديار , وبعد وصولِهم طلبَ الملكُ من الحاجبِ إغلاق البابَ والبقاءَ معهُ منفرداً وقال له : هذهِ الحادثةُ الأليمة ليست بالإعتيادية مطلقاً , قد تكون الرسالة , هي رسالةٌ نصيةٌ إلاهية ذاتَ مضمونٍ شخصي أيها الحاجب , فاللهُ يعلمُ بطغياننا ومعاصينا ، ببطشنا وكثرةُ فسادنا وسفالتنا ، بِجَورنا وظلمنا على الأرض , وقد تكون رسالةٌ تنبيهية لنا قبلَ فواتِ الأوان , قاطعهُ الحاجب وهو ينهضُ من مقعدهِ متسائلاً ماذا تقترحُ يامولاي ؟! , حقاً لا أعلمُ شيئاً أيها الحاجب , عليكَ الذهاب الآن وتركي بمفردي حتى شروق شمس الصباح , لعلي أجدُ مخرجاً لنا جميعاً لما كانت تحتويهِ تلكَ الرسالةُ المخيفة , وبعدَ حلولِ الظلام غفى السلطانُ على كرسيهِ الخشبي من شدةِ الخوفِ والقلق , ولم يُحَرك ساكناً أو يتحركُ من مكانهِ إطلاقاً , حتى جاءَ الصباحُ عادَ الحاجبُ باكراً وجدهُ ميتاً على كرسيه ولم يستطع حلَ شيفرة تلكَ الرسالة الإلهية ..