جوقي تعال ..جوقي.
نظر عبر النافذة التي تفتح فاهاعلى الشارع لتسمع سريان الكلمات المضحكة المبكية ،وتنشرها داخل الغرفة ذات البثور الملوّنة.كان نزيز الارض يفتح شقوقاً متناثرة .وحدها هذه الغرفة التي آوت الألوان تلتقط بأعينها خبايا المكان المتناسل. صرخت شلّة الأطفال وماذا بعد يا أبي مِن جوقي ؟اكمل نفض دخانه يسرّبه عبر النافذة يبصر بعينيهِ المدورتين الوجوه التي إستأنست بحكاية جوقي قائلاً:هل تصدّقون رجلاً يكسب عيشَهُ مِن خدّهِ
وكيف ذلك يا أبي ؟ يصمت الأب ! يتلّمس كُلّ ولد خَدّه بباطن كفّهِ،وينظر إلى الآخر تعلو الضحكات بينهم .
يسرد الحكاية.جوقي رجُلُ طيٌب عمِل حمٌالاً،كناساً،عامل بناء خدم في المقاهي ،احسّ يثقل الأيام يزداد عليه .يفرّجُ بين ماضيهِ.صاحبَ جميعَ الاعمال ،ونظرته إلى يوم تبتسم له الحياة فلوس دون عمل !
أسقط من حياته الحمّالة ،وتناسى كنس الشوارع .اقّر بحرارة الخبطة تلسع يديهِ عند الظهيرة .ترك خدمة المقاهي تتأمر الالسنة عليه هات شاياً حاراً…عندك واحد بالركن ..اجبره صاحب المقهى على عدم تسلّم البخشيش
اسئلة كثيرة دارت في مخيلته عن الأيام المدثّرة ..لماذا تركتَ الحمّالة ؟هل إنكسر ظهرك تكنس شوارع الناس ؟وبيتك مقّر القمامة تلعب الرياح باكوامها ورائحتها تنتشر مسافات !
تذكٌر يوم افلت َ الطابوقة فهوت على رأس الاسطى ،وهنا بدأ الحساب حين قطعتْ أجرته لعمل نصف نهار ،ولسان الأسطى لم يسكت بعد في وصفهِ! كان ينظر عبر النافذة ،ويكمل حكاية جوقي.
_ردّ الاولاد، واين وصل بهِ الطريق؟نظر الأب إلى اولاده ،وقد اخذت حكاية جوقي كُلّ مسامعهم قرّر جوقي عندها أن ينهي سجلّ الايام الماضية ويلغي مِن ذاكرته سلسلة الاوامر ،والصدقات،ورأس الأسطى الذي كوّر لفافاً ابيض حوله بضعة أيام .
_احد الأولاد أبي ماذا عن خد جوقي؟
إبتسم الابُ ،وهو يتلّمس خده تكسوه لحية بيضاء قررّ جوقي أن يأخذ من المقهى طريقاً لجلب لقمة العيش يجدّد وقفته كل يوم ينظر إلى الجالسين يسرع إلى أحدهم يميل خدّه قائلاً : اضربني على خدّي يضحك بعدها من الفرح ليقول اعطني خمسين فلساً ،ويكرر ثانية يضحك الرجل الذي رفع كفّه على خدّي جوقي ويضربه ثمّ يضحك ويخرج قطعة نقود يفركها بيدِه ثمّ يدسّها في جيب سترتهِ . تتعالى الأصوات جوقي..تعال جوقي .
زادت ضحكات الأولاد مدّ كِل منهم خدّه إلى الآخر ليجربّ فيه زاد الصراخ بينهم من شدّة الضربات .
نظر الأب نظرة إشفاق على المتآلم من ضربة الآخرليخرج من لعبة الأيام التي حسب لها الأب فلم يعد يقوى على العمل ،وسجل الحصار تشّرف بالدخول إلى بينهم قبل إعلانه من الامم المتّحدة .
اخذ يرّد على الصراخ :اسكت عن البكاء وإلاّ دفنتك حيّاً! زادت الحكاية واللقمة تباعدت عن افواههم فلربّما تنتهي عصراً ليناموا قبل العشاء ..حسابات دقيقة ،وساعات ثقيلة تمّر داروا ببصرهم جميعاّ نحو الأب يسترسل
في الكلام.
مضى أسبوع على جوقي ،وهو يدخل المقهى يحسب الاجسام التي تتحّرك باللعب والصراخ تضحك بلا معنى.وجد ضالتّه المفقودة إستوقفه ثلاثة اشخاص على طاولة مرتّبة ،ردد بصوت خفيض يبدو انٌهم لم يسمعوا عن اللعبة لافتح معهم الباب . وقف أمام أحدهم قائلاً: اضربني على خدّي!
_لماذا اضربك؟
_اضربني على خدّي !
انتقل صاحب الكف بصفعة قوّية إدارت خدّه ،وتحرّك جسمه إلى الوراء اشبه بتمثال يميل إلى السقوط ! ولكن رباطة جاشه جعلته يصمد ليفتح فاه ضاحكاّ اعطني قطعة النقود ! ضحك الثلاثة مِلء افواههم،وجرّب الثاني اللعبة ،بينما أخرج الثالث قطعة النقود ليجعلها في يد جوقي إعتذر عن تسلّمها!
_لماذا فانا أريد أن اساعدك؟
_انا اعمل بعرق جبيني ،ولا اُريد الصدقة.
_هل تتحمّل عشر ضربات في فترة قصيرة ؟
_استطيع أن اتحّمل !
_لماذا لم تجد لك عملاً؟
_جرّبت كلّ الأعمال ،ولم أجد غير هذه المهنة المريحة.
تعلو الضحكات بينهم، يرّد جوقي بضحكة طويلة ،وينتقل إلى الجالسينَ يشاركهم الصمت ،ويميل خدّه لتبدا حكايته.
ينظر الأب إلى اولاده صبيحة اليوم التالي يتحسّس الجوع ويسمع قرقرة المعدة عندهم ..وشفاههم المتيبّسة ليتاّكد إن الحصار دخل دورته بين زوايا الغرفة ،مدّ يده على خدّه احد يخطو نحو باب الغرفة خطوات تقمّصت حكاية الأمس ِ قائلاً لاولاده ومن شملهم الصمت الصباحيّ:أنا ذاهب إلى المقهى في رأس الشارع منِ الآن ادعوني بابا جوقي ..جوقي .
يترك الغرفة ليبدأ حكاية جوقي التي ربٌما تنفع في رفع قرقرة المعدة عندهم ،وتكسر حاجز الصمت وخيوط الحصار ولو لأيام قد لا يحلم بها.
….البصرة/2021