«الغريب إن نطق.. نطق حزنان متقطعاً، وإن سكت.. سكت حيران مرتدعاً.. وإن قرب.. قرب خاضعـاً.. وإن بَعُد.. بعد خاشعاً.. إن أصبح.. أصبح حائل اللّون من وساوس الفِكرْ.. وإن أمسى.. أمسى مُنتهبَ السرّ من هواتك السِّتر.. مصّه الذبول.. وحالفه النحول».
«أبو حيان التوحيدي»
كتاب «الإشارات الإلهية»
من الحالات النادرة في تاريخ الأدب العراقي القصصي، أن يمنحنا كاتب ما فرصة التعرّف على سيرته الإبداعية، وبشكل خاص الاعتراف بمصادره الواقعية، والكيفية التي يتحول فيها الواقع إلى نصّ، إلى ورقة كتابة، إلى مخيّلة، لأنّ من المعروف، أنّ الكاتب العراقي لا يعطي قيمة لسيرته بل يخجل منها أحياناً ويصاب بالحرج في حـلة إعلانه عن طقوس إبداعه «وخفايا» آلياته الإبداعية. وقد يكون المبدع العراقي الكبير «مهدي عيسى الصقر» هو أولّ من حاول القيام بذلك بصورة منهجية ومدروسة ومقصودة من خلال كتابه «رجع الكتابة» الذي يقول فيه: «طرحت إحدى المجلات سؤالاً على عدد من الأدباء «العراقيين»، حول سبب إحجام الكثير منهم عن كتابة مذكراتهم الشخصية. قال أحدهم: إنه لا يرى نفسه شخصاً مهماً إلى درجة تجعله يسجّل تفاصيل حياته، ليقرأها الآخرون، وإن كانت حياته مليئة بالأحداث».. «وجع الكتابة ص62».
ويعلق «الصقر» على هذا الخلل السلوكي الإبداعي لدى الكتّاب العراقيين بالقول: «في تقديري إنّ كتابة المذكرات بحاجة إلى جرأة كبيرة، واستعداد لتحّمل العواقب، فالمذكرات ليست قصّة، أو رواية، يتخّفى فيها الكاتب أحياناً، وراء شخوصه الوهميين، ليلامس جراحه الخاصّة، في تردّد وحذر، بل هي نبش مباشر يفترض فيه أن يكون صادقاً، وأمينا يكشف، بلا مواربة، عمّا يدور في أعماق النفس، من نوازع «ربما كانت شريرة» وما دار حقّاً، في حياة الكاتب، وفي المحيط، الذي عاش فيه. وكتابة المذكرات تغدو أكثر صعوبة، لمن يريد أن يتحدث، عمّا دار في حياتنا، من أحداث تجاوزت كلّ ما هو خرافي. أمّا عذابات النفس، وخيباتها، فإننا نحاول أن نتناساها، قدر المستطاع، من أجل أن نقدر على مواجهة مصاعب حياتنا اليومية، لابسين قناع التفاؤل فوق وجوهنا الحزينة».. «وجع الكتابة ص62».
أي أنّ «الصقر» يقرّ بأن كتابة المذكرات أو السيرة الذاتية هي «كشف» يتطلب جرأة وروحاً تعرّضية، وقد قدّم هذا المبدع – وفق هذا التصوّر – سيرة ذاتية «منضبطة» همّها الأساسي تقديم الحوادث والوقائع واليوميات ذات الصلة بالعملية الإبداعية، مبتعداً عن الطريقة الفضائحية الصادمة التي اتبعها بعض المبدعين الذين سطّروا سيرهم الذاتية في الأدب العالمي والعربي، تلك الطريقة التي حققت لمذكراتهم انتشاراً واسعاً بين القرّاء الذين يستولى عليهم الفضول الشديد للتعرف على خفايا «النصف الأسفل» من حياة المبدع السرّية وبشكل خاص الجوانب الجنسيّة المثيرة. ولعلّ أهمّ ما قدّمه «الصقر» في مذكراته، بالإضافة إلى عرض طقوسه وعاداته الإبداعية وهو أمر قليل الحصول في الأدب العراقي، هو تصوير الكيفية التي يلتقط بها موضوعاته من أرض الواقع ليعيد تشكيلها، عبر المخيلة، في سماء النصّ، أي أنّه يقدم لنا درساً هاماً في الإجابة عن تساؤل هام هو: كيف تكتب قصّة؟ وكيف يتحول ما هو واقعي ومادّي إلى إبداعي لغوي؟ وما الذي يحققه القاص أو يضيفه إلى الحدث؟ ثم، وهذا هو الأهم، ما هو المقدار الذي تلعبه دوافع المبدع اللاّشعورية في تشكيل النتاج القصصي النهائي؟
لقد قدمنا دراسة حول هذا الأمر؛ كيفية نقل الواقع إلى النصّ، من خلال متابعة مراحل خلق «الصقر» لقصته القصيرة: «زوجة محارب» ركزّنا فيها على فعل لاشعور المبدع وتجاربه المختزنة في تحديد مسارات تشكّل التجربة النصيّة، وأقدّم هنا دراسة ثانية عن قصة: «في الهواء رنين أجراس» التي ضمتها مجموعته القصصية «أجراس».
كيف «التقط» القاص موضوع قصّته من بين الكم الهائل من الحوادث الذي يحفل به الواقع والتي تواجهه في حياته اليومية؟
يقول «الصقر»: «قبل نحو عشرين سنة، وأنا في سفر، خارج العراق، التقيت رجلاً كهلاً، من اسكوتلندة، كان مسافراً هو أيضاً. ومثل أي غريبين، بعيدين عن الوطن، ينشدان الرفقة، والتواصل مع الآخرين، رحنا نتحدث، قال: إنه في طريقة لزيارة صديق ألماني مقيم في مدينة «ميونيخ»، تعرّف عليه أيام الحرب. نظرت إليه في دهشة:
«تقول: أيام الحرب؟»
«نعم، أيام الحرب».
«ولكن كيف، وأنتما من بلدين، كان في حالة صراع؟»
ابتسم الكهل: «لن تندهش إذا عرفت الحكاية، أو لعلك تندهش قليلاً، ولكن لسبب آخر». وراح الرجل يروي لي حكايته، بكلماته الهادئة البطيئة وبلهجته الاسكوتلندية التي يتندّر عليها الإنجليز أحياناً: «في الحقيقة أنا كنت أسيراً في ألمانيا، وكان صديقي هذا – الذي أذهب لزيارته الآن – واحداً من حرس المعسكـر، الذي كنت فيه. ونظر الكهل في وجهي: «أتدخن أنت؟».
«لا».
«حسناً تفعل، فهذه النـزوات التافهة، التي نعتاد عليها، في حياتنا، تجعلنا نتعرّض لكثير من المهانة أحياناً». «في الماضي كنت أدخن كثيراً، أنت لا تستطيع أن تتصوّر كم كنّا نكرههم، هؤلاء الحرس، لقد جعل «هتلر» من رجاله وحوشاً، لا يتورعون أن يأكلوك، وأنت حي. كانوا يستمتعون بتعذيبنا، نحن الأسرى، كنّا نعمل، في العراء، نستخرج لهم البطاطس، والأرض تغطيها طبقة من الثلج، ونحن شبه عراة، وهم بملابسهم الدافئة وأحذيتهم الثقيلة، يتجولون بيننا، يحملون مسدساتهم وعصيهم ويدخنون باسترخاء. وكان الواحد منهم، إذا انتهى من تدخين سيجارته، رمى بالعقب جانباً، حتى إذا لمح يد واحدٍ من الأسرى، تمتد لالتقاطه، من على الأرض، أقبل كالنمر، وسحق بجزمته اليد، والعقب، بالتراب، فترتفع عندئذٍ، ضحكاتهم المتشفية. كانت تلك واحدة من اللعب التي يتّسلون بها، يومها أقسمت أن أترك التدخين، ولكن، في ذلك الوقت كان الدخان سلوتنا الوحيدة».
ورأيت الكهل يمد يده إلى جيبه، كأنه يبحث عن شيء. إلاّ أنه أخرجها فارغة، بعد قليل.
«في أحد الأيام جلست أستريح قليلاً فشعرت بكعب حذاء واحد منهم ينـزل، بين أكتافي، وصوت غاضب يصرخ بي: «أربايته.. دوشفاين» «اعمل أيها الخنـزير». سقطت على وجهي، ثم جلست أنفض عني الثلج المعفّر بالتراب، وتابعت العمل. لم أرفع رأسي. شعرت، بعد ذلك، بالأقدام تبتعد، مرّت لحظة، ثم لمحت ساقين، وحذاءين ضخمين، يقتربان منّي ، انكمشت على نفسي. هل عاد هذا المتوحش ليضربني؟ بقيت خائفاً. سمعت صوتاً يقول: «حاول أن تكون أكثر حذراً لكي لا تُضرب». كان ذلك صوت رجل آخر. فوجئت. لم تفاجئني الكلمات. فنحن كنّا معتادين على التهديد. إنّما فاجأتني النبرة التي لفظ فيها الحارس كلماته. أحسسـت كـأن الرجل ينصحني. رفعت وجهي إليه، فرأيت ما يشبه العطف، في عينيه، أحقيقة ما أسمع وما أرى. لم يقل الحارس شيئاً آخر، ومضى يبتعد عنّي. كنّا نرتاب في نواياهم، ونخشى أي اتصال بهم. قلت لنفسي: لعلّي أتخيل أشياء لا وجود لها. أحياناً، في ساعات المحنة، يتمنى الإنسان أشياء مستحيلة فيصوّر له خياله حدوثها. بقيت حائراً، مرتبكاً، ولكن في اليوم التالي، وهو يمر بجواري يتفقد العمل، ترك سيجارة تسقط، من بين أصابعه، في حفرة صغيرة أمامي، كأن ذلك حدث سهوا . ” سيجارة كاملة ، تصور !! ” . ولمعت عينا الكهل وهو يستعيد ذكرى ما جرى. «ثمة أشياء لا نكترث لها كثيراً، في حياتنا اليومية الاعتيادية، تغدو كأنها أكسير الحياة، في مواقف معينة. سيجارة كاملة، تقع في يدي، ونحن نحلم بالعثور على عقب واحد غفل عنه الحارس».
قلت له: «إنني أستطيع أن أتصور مشاعره ساعتها».
«ربّما.. ربّما.. ولكن ما لم تعش التجربة، أنت بنفسك، فإنك.. على أية حال أنا تركت التدخين، بعد خروجي من المعتقل. أمّا في ذلك الوقت. «وأغمض الكهل عينيه لحظة».
«في الأيام التالية أخذ هذا الرجل يحدثني عن نفسه. ليس علناً طبعاً، ذلك مستحيل. كان يأتي ليقف فوق رأسي، ويصيح بي معنفاً، ثم يهمس بكلمات قليلة، عبارة، أو عبارتين، ويمضي. وبدأت أطمئن إليه، ورحت أرد عليه، وأنا مطرق، مواصلاً عملي، عرفت أنه كان مدرّساً للموسيقى، قبل الحرب، وأنه متزوج، وله بنت واحدة اسمها «مارتا»، وإنه يمقت العمل الذي يقوم به، في المعسكر. ومع الأيام نمت بيننا – في ذلك المكان المرعب – صداقة حذرة، متكتمة، محفوفة بالأخطار، ساعدتني كثيراً، على تحمل ما تبقى من سنوات الأسر، وسط ذلك الجحيم.
«وأنت تذهب الآن لزيارته».
«وإلى أين تذهب أنت؟»
قلت له: «إني أعود إلى بغداد.. ثم افترقنا». «وجع الكتابة ص142 – 146».
ثم يتحدث «الصقر» عن الكيفية التي أثّرت تلك الحكاية في وجدانه وكيف اختمرت فكرتها ثم بزغت ناضجة كموضوع قصّة قصيرة تدخل في تشذيبها الخيال، فيقول: «… وقد هزتني تجربة هذا الكهل، مع أنّ علاقات الصداقة، والحب أحياناً، التي تنمو – مثلما تنمو الزهور البّرية، في وسط مستنقع – بين أناس من فريقين متحاربين، هي ممارسة إنسانية قديمة تناولها الأدباء والشعراء في قصصهم، وقصائدهم، وهي تكشف لنا أنّ الإرهاب والخوف، وليده الشرعي، لا يستطيعان أن يتغلبا، على الخصال النبيلة، في القلوب الحرّة، والشجاعة. وبقيت حكاية الرجل الأسكوتلندي، وصداقته، مع حارس المعسكر النازي أيام الحرب، ترقد في رأسي، لعدد من السنين، بين حشد الذكريات والانطباعات، التي عدت بها من السفر، حتى جاء يوم وجدتها تخرج إلى السطح فوضعتها، عندئذٍ، في أقصوصة أسميتها: «في الهواء رنين أجراس»؛ غير أنّ الخيال كان قد أضاف إليهـا، وحذف منها، كالعادة طبقاً للضرورات الفنية. إلاّ أنّ الجوهر يبقى كما هو – موقف الإنسان، الذي يرفض أن يتخلّى عن شروط إنسانيته، في مواجهة القوى، التي تسعى إلى مسخه، وسلبه حرّية الاختيار». «ص 147».
لقد نقلنا هذا النصّ الطويل لأنّه في غاية الأهميّة، فهو «النصّ» المرجعي الذي سوف نقيس النصّ الإبداعي/القصّة عليه لنرى ما الذي فعله «الصقر» به حين استخدمه مادة أولية شكّل منها ما أنجزه من أنموذج فنّي، وينبغي أن ننتبه أولاً إلى أنّ الكاتب قد اختزن هذه الحادثة لأكثر من عشرين سنة، ثم «طفت» الفكرة إلى السطح ذات يوم، أي أنها اختمرت لمدة طويلة جداً، وكان «انبثاقها» وفق حالة أشبه بالإلهام، إذ لا يستطيع المبدع القول أين كانت هذه التجربة مختبئة طول هذه السنين، ولماذا انبثقت في تلك اللحظة بالذات، وكأن قوة «سحرية» مدّت لها «حبلاً» وسحبتها من بئر الذاكرة المظلمة. وقد يكون المحفز لتحريك الفكرة المخزونة حادثة خارجية بسيطة كقراءة خبر في صحيفة أو رؤية مشهد في التلفاز مثلاً. إلخ.. وقد يكون المثير مرتبطاً بمتغيرات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه المبدع الذي يتفاعل مع أحوال مجتمع بضمير حيّ واستجابات ساخنة. وإذا أعدنا إلى ذهن القارئ أن الكاتب قد كتب قصته في «تموز 1988»، أي بعد شهر واحد على نهاية الحرب بين العراق وإيران، والتي أكلت «الأخضر واليابس» في حياة البلدين ، فإنّ هذه القصّة هي استجابة خلاّقة تشجب العدوان وتراهن على الدوافع الإنسانية لدى الإنسان في كل مكان، وأنّ الطريق الوحيدة للقضاء على غولة الحرب تكمن في المراهنة على الأخوة البشرية التي تتجاوز حدود اللون والعرق واللغة والقوميّة، لقد حاول الكاتب تقديم حلّ لحالة العدوان المدّمرة للمجتمع البشري من خلال الفنّ، ومن خلال حادثة ظلت «نائمة» أكثر من عشرين سنة.
ومرحلة كمون الفكرة أو الواقعة هو ما يسميّه المختصون بـ«مرحلة الحضانة أو الاختمار – incubation» حيث يرون أنّ «العملية التي يتم بها الإبداع الملهم تجتاز أربع مراحل:
1- مرحلة الإعداد التحضير: Preparation:
وفيها تحدّد المشكلة وتفحص من جميع النواحي وتجمع المعلومات وتهضم جيّداً، ثم يقوم المبدع بمحاولات للحل يستبعد بعضها ويستبقي البعض الآخر لكن يصعب الحل وتبقى المشكلة قائمة، وقد قال «جوته» في وصف هذه المرحلة: «كل ما تستطيعه هو أن نجمع الحطب ونتركه حتى يجف، وستدب النار فيه في الوقت المناسب».
2- مرحلة الحضانة أو الاختمار:
وهي مرحلة تريّث وانتظار لا ينتبه فيها المبدع إلى المشكلة انتباهاً جدّياً، غير أنها ليست فترة خمود بل فترة كمون، فيها يتحرّر العقل من كثير من الشوائب والمواد التي لا صلة لها بالمشكلة، وفيها تطفو الفكرة بين آن وآخر على سطح الشعور.. وقد تطول هذه المرحلة لعدة سنين وتكون المشكلة إبان هذه الفترة تحت تأثير عمليات لا شعورية مختلفة لتلك العمليات الهامة الخافية التي تحدث في البيضة أثناء مرحلة الحضانة.
3- مرحلة الإلهام أو الإشراق:
فيها يثب الحل إلى الذهن ويتضح على حين فجأة.. مثل من ينظر في صورة من تلك الصور الملغزة يحاول أن يكشف فيها عن رسم غزال مختبئ، أو صيّاد متربّص أو طائر على شجرة.
4- مرحلة إعادة النظر أو التحقّق: Verification:
«قد يكون الإلهام الخطوة الأخيرة في التفكير الإبداعي أحياناً، غير أنه في أغلب الأحيان يتعيّن على المبدع أن يختبر الفكرة المبتدعة ويعيد النظر فيها ليرى هل هي فكرة صحيحة أم تتطلب شيئاً من الصقل والتهذيب». «أصول علم النفس – أحمد عزت راجح – ص361 – 364».
ولكن ما الذي حصل لدى «الصقر» وهو يبدع قصّته هذه؟ وكيف سنفهم تسلسل هذه المراحل الإبداعية ارتباطاً بتجربته؟
لم يخطط «الصقر» أولاً لاختيار موضوعه، لقد التقى بـ«مصدره» مصادفة أثناء سفره خارج العراق واختزن الفكرة لعشرين سنة ثم بدأ بالتخطيط لوضعها في صورة قصّة قصيرة في يوم معيّن، أي أنّ تسلسل مراحل الإلهام الإبداعي بالسنبة لهو هو: الاختمار الإعداد والإنجاز التحقّق. ولم تبزغ الفكرة بصورة إشراقية ولم يأتِ موقفه معتمداً على «الحدس». كان هناك مثير حفز الفكرة المختزنة والكامنة فصعدت إلى سطح الشعور لتتلقفها أنامل المبدع البارعة. أي أن تسلسلاً آخر موازياً للتسلسل الأولى يمكن أن يرسم مراحل الفعل الإبداعي وهو:
تجربة (حادثة، لقاء..إلخ) فكرة اختمار محفز عودة الفكرة «وفي أحشائها تفاصيل التجربة القديمة إعداد وإنجاز تحقق . وأعتقد أنّ الكثير جوانب الخلق الفني لدى المبدعين تقوم على أساس اختزان التجارب اليومية من علاقات وتجاذبات وحوادث وصدمات واختزانها في هيئة أفكار، وصور تختمر لأوقات قد تطول أو تقصر منتظرة مثيراً ما – خارجياً أو داخلياً – يحفزها ويحرّكها. وقد تتحفز الفكرة أو الصورة لأكثر من مرّة لكنها لا تدفع المبدع إلى العمل بسبب انتظار «المموّل» الداخلي الذي يمنحها الطاقة النفسية الكافية . وهذا الممّول يكون في العادة رغبة لاشعورية تبغي الإشباع أو صراع لاشعوري يطلب الحل أو دافع لاشعوري هو الذي يموّل إخراج الفكرة الكامنة إبداعياً لمصلحته. وإذا راجعنا دراستنا الموسّعة حول «قلق الموت لدى المبدعي مهدي عيسى الصقر» سنكتشف حافزاً مضافاً جعل الذكرى النائمة تصحو وتطرق أبواب شعوره ليستلهمها في قصته، وهذا الحافز هو قلق الموت الذي تأصل في لاشعوره منذ طولته وتحديداً منذ أن واجـه تلك التجربة الفاجعة المتمثلة في حضوره – صغيرا ووحيداً- احتضار والدته، وقد تجلّى هذا القلق – كما بينّا في دراستنا تلك – في مجمل نشاطه الإبداعي، رواية وقصّة وسيرة، ومن الواضح أن تقدّم «الصقر» في العمر لأكثر من عشرين عاماً قد رفع من حدّة هذا القلق وجعله يستعيد التجارب التي يستطيع توظيفها بطريقة تخفف من حدة مخاوفه وتحافظ على تماسكه النفسي وتمنحه الإحساس بالديمومة ومقارعة الفناء. ومن بين هذه التجارب لقاء «المصادفة» الذي حصل مع ذلك العجوز الأسكوتلندي الذاهب إلى رؤية «جلاّده» السابق في معسكر الأسر خلال الحرب العالمية الثانية. فالحادثة التي «قصّها» العجوز هي واقعة مواجهة مع الموت لأنها حصلت في أتون الحرب، والحرب هي الغولة التي يبعثها الموت كي «تلحس» لا أقدام وجودنا فحـسب، بـل أرواحنا موتى وأحياء؛ فحتى الناجين من مخالبها الباشطة يعودون وقد ركبهم الشعور بالذنب؛ ذنب النجاة.. «لماذا عاشوا في الوقت الذي مات فيه زملاؤهم؟ لماذا لم يفعلوا شيئاً لإنقاذ الآخرين؟ هل انتهزوا الفرصة على حساب غيرهم؟ هل ضحّى الآخرون بأرواحهم من أجل إنقاذهم؟..».. ثم هناك ذنب القتل وخطف روح آخر شبيه بهم من حيث تعلّقهم بالحياة وبعائلاتهم.. العائدون من الحرب يعودون بغيلان صغيرة سوداء تعشش في زوايا أرواحهم وتنشط في أحلامهم وتجعل حياة يقظتهم جحيماً لأنّها تقفز من أماكنها بصورة شيطانية مع أي محفّز – مهما كان بسيطاً – يعيد ذكريات الموت بصورة إشراطية «قد يجفل محارب سابق بعد الحرب عند سماعه صوت تكسّر قدح زجاجي أو زعقة منبّه سيارة.. إلخ» وقد عاد العجوز الأسكوتلندي من معسكرات الأسر الألمانية الرهيبة التي كان يديرها وحوش فعليون كما وصفهم في حديثه للصقر، قلّة قليلة كانت تعود إلى ديارها على قيد الحياة من تلك المعسكرات.. (إنّ أي شك حول التأثيرات الرهيبة لعمليات الأسر على الإنسان يمكن طرحها جانباً من خلال مراجعة الإحصائيات التي أوردها المختصون حـول الأسـر خـلال الحرب العالمية الثانية حيث وصلت معدلات الوفيات بين أسرى الحرب إلى مستويات لا تصدق قدرت بين «6 – 10» ملايين، فمن بين جميع الأسرى البريطانيين والأمريكيين مات (11%) تقريباً خلال فترة الأسر، وأغلبهم بسبب سوء التغذية أو الإهمال، و(45%) من الأسرى الألمان في معسكرات السوفييت و(60%) من الأسرى السوفييت في معسكرات الألمان لم يعودوا إلى بلدانهم بعد الحرب حيث ماتوا خلال «الأسر».
في الواقع حدّث العجوز الصقر عن المعاملة اللاإنسانية والشرسة التي كان يقوم بها الحرس «استخراج البطاطا من تحت طبقة الثلج بأصابع عارية، العمل في الصقيع شبه عراة، محاربة الأسرى المدخنين بأعقاب السجائر، بالأحذية، والشتائم».
لكن في القصّة، أضاف «الصقر» طريقة تعذيب لا أعلم أين اطلّع عليها حيث يقول: «كانوا ينـزعون عن الأسير ثيابه، ويسكبون ماءً بارداً على جسده العاري، ويتركونه ساعات طويلة في العراء تحت الثلج المتساقط في ليالي الشتاء.. ثم يأتون به إلى حجرة دافئة، جسداً متصلباً.. ويجيئون بامرأتين عاريتين، ويجعلون كل واحدة منهما تنام على جانب من الجسد المتجمّد وتعملان معاً على بعث الحياة فيه من جديد، بحرارة لحمهما العاري. وفي الغالب يكون الأسير الذي يؤتى به من العراء قد فارق الحياة منذ بعض الوقت. وتكتشف الامرأتان بعد وهلة، أنهما كانتا تلهثان على جثة هامدة. ولكن كان يحدث أحياناً أن يستعيد الأسير وعيه شيئاً فشيئاً، وينتعش الجسد البارد، وفي بعض الحالات يطبق الرجل المستثار على إحدى الامرأتين فيضاجعها وسط ضحكات المشرفين على التجربة..» «أجراس، ص 20 – 21».
أنا، شخصياً، اطلّعت خلال القراءة المستفيضة، على الكثير من أساليب تعذيب الأسرى في معسكرات النازي، ولم أطلّع على مثل هذه الطريقة رغم أنّها ممكنة الحصول، لكن السؤال الهام الذي يثور في ذهن المتلقي هو ما الذي دفع بالكاتب إلى اختيار تجربة يمتزج فيها التعذيب الجسدي بالجانب الجنسي الإستثاري؟
إنّ السبب الذي يطرحه الكاتب لتبرير هذه التجربة الغريبة هو أنّ الجلادين كان يهمهم أن يعرفوا إلى أيّ مدى يستطيع الإنسان أن يصمد أمام البرد القارس، وما هي أنجع سبل العلاج لجندي موشك على الهلاك برداً، لكي يوفروا أسباب السلامة للجندي الألماني الذي يقضي فترات طويلة في الخنادق، وهو عامل متهافت علميـاً، لكن العبارة الكاشفة هي التي يقول فيها «الصقر» من أنّ الجلادين كانوا يدهشون للقدرة السحرية التي يمتلكها جسد الأنثى على إعادة الحياة إلى رجل هالك، ثم الصعود به إلى ذورة النشاط الجنسي. فهذه التجربة الجنسية في مضمونها رغم غطائها العلمي تشبع الدوافع التبصصّية والاستعرائية الممزوجة بالسادية لدى الجلادين.. والمبدع حين يبني مشاهد نصّه يسترق ويتبصّص ويفرغ دوافعه السادية أيضاً. ومن ناحية ثانية، من الضروري الإشارة إلى أنّ هناك عوامل كبيرة تتحكم في الكيفية التي يبني بها الكاتب نصّه وبشكل خاص تسلسل حوادثه من بين أهمها الإشراط النفسي اللاّشعوري. وبقدر تعلق الأمر بتجربة «التعذيب» التي أشار إليها «الصقر» فإنها من الناحية الفنية والنفسيّة تضعف حدّة وحشية أساليب التعذيب الأخرى التي أخبره بها العجـوز والـتي سطّرها في قصته أيضاً لأنّ الوقع النفسي لتعذيب ينتهي بالجماع الجنسي والمغازلات المهيّجة لا يولّد الانطباع المأساوي الذي تخلقه الطرق الوحشية الأخرى. فلماذا ذكرها الكاتب؟ ولمَ لمْ ينتبه إلى المفارقة التي يخلقها هذا النوع من «التعذيب» مع المسار الدموي والشرس المعروف عن الأنواع الأخرى؟
لقد جعل القاص بطله العجوز «توم تبلر» في القصّة – يتشارك في مقصورة واحدة من القطار الذي أقلّه إلى «ميونيخ» لملاقاة جلاّده/ صديقه السابق، مع زوجين: أفريقي أسود وألمانية شقراء. وعند منتصف الليل توسد حقيبته وغطى نفسه بالمعطف. لم يستطع النوم بعمق بسبب حركة القطار. ثم أطفئ الضوء داخل المقصورة. سمـع همسـاً وتنهـدات فبقـي سـاكـنـاً، لم يشـأ أن يقطـع علـى الأفريقـي وزوجته ماكانا فيه… انفلتت ضحكة صغيرة من فم الامرأة النشوى على المقعد المقابل، وسمع الأفريقي يهمس محذراً: «إ شـ شـ ش..». «ص20».
إنّ من المؤكّد أنّ المغازلة بين الزوجين قد أثارت قواه المتهالكة وأشاعت التهيّج في أوصاله، ومن الطبيعي أن «يسحب» هذا المشهد، بعملية إشراط لاشعوري وليس بالإشراط «البافلوفي»، ذكرى ذات طابع جنسي من مخزون ذاكرة العجوز «بتلر» تتلّبس بأغطية العذاب من تجربته المريرة التي يصوغها القاص الذي «تماهى» مع بطله وانسجمت دوافعه الخاصة، ككاتب تقدم به ا لعمر مثل «بتلر»، مع الاستثارة الحسيّة التي ولّدتها خلوة الزوجين في ظلمة المقصورة. ولهذا استدعى الكاتب تلك التجربة، تجربة «تعذيب» الأسير واستثارته بامرأتين عاريتين، ليضرب عصفورين بحجر لا شعوري واحد.
عندما نقل القاص الواقعة الفعلية إلى عالم النصّ، قام بتحويرها وتطويرها وتطويع تفصيلاتها لمتطلبات الفن القصصي فعرض حكاية العجوز في ثلاثة أقسام، هي:
1- الفتى الصغير.
2- الأفريقي وزوجته.
3- رنين الأجراس.
1- في القسم الأول عرض لنا حالة بطله «توم بتلر»، العجوز الأسكوتلندي، وهو يبحر بعبّارة من ميناء «دوفر» البريطاني إلى «أوستند» في بلحيكا، فهو متهالك القوى لا يقوى على الصعود والنـزول على السلالم الحديدية ليرى البحر بكل سعته وامتداده من سطح السفينة مثل الآخرين، ولكنه كان يشعر بالبهجة، كما لو كان يجلس وسط نادٍ كبير، أو يشارك في مهرجان، ويقدم القاص لنا ملاحظة عرضية هامة عن شعوره بالسعادة فيقول: «لأول مرّة – منذ زمن طويل – يشعر بالبهجة لوجوده بين الناس»، أي أنّ «بتلر»، قد أمضى العقود السابقة من حياته بعد خلاصه من الأسر، منعزلاً عن الآخرين ولا يشعر بالارتياح حين يكون بينهم، وهذه من علامات الخراب النفسي الذي سبّبته الفاجعة التي تعرّض لها. فالعائدون من تلك الفاجعة يشعرون بدرجة كبيرة من الاغتراب عن ذواتهم وعن الآخرين، وقد يصل الأمر حدّ تحطم أواصر حياتهم العائلية. وفي استهلال القصة يبين لنا الكاتب أنّ «بتلر» قد خرج من إسار عزلته بفعل إلحاح زوجته عليه بالسفر.
خلال الرحلة يجلس أمامه شاب صغير «يبتسم طوال الوقت، وكانت خصلة من شعره الأشقر تسقط على جبينه كلما تحرك، فينفضها إلى الوراء بحركة سريعة من رأسه كما تفعل فتاة في مقتبل العمر» «ص9».. وعندما يبدأ «بتلر» بالحديث مع الشاب الجميل يقدم لنا القاص ملاحظة أخرى هامة يقول فيها: «الحديث مع الناس يجعل المخاوف تبدو أقل حدّة»، وبعد أسطر قليلة ينقل إلينا جانباً من مشاعر «بتلر» بعد أسئلة وأجوبة مع الشاب فيقول: «لم يرد على الفتى بشيء ، راح يحدق إلى البحر ساهماً.. من وراء الزجاج السميك.. الحديث مع الناس يفتح – أحياناً – الجراح القديمة..» «ص10».
المخاوف والجراح القديمة نامت بعين واحدة كما يقال توقظها المثيرات البسيطة فترفع رؤوسها السود ويكون ثمن هذه اليقظة باهظاً. هذه اليقظة غير مباركة، تثير القلق والخوف القديم في نفس «بتلر» وتحفزّ غيلان التجربة الكريهة، تبذل الضحية الناجية من الفاجعة جهوداً مستميتة للابتعاد عن مسرح التجربة الكارثية القديمة، ولهذا نجده يؤجّل زيارة صديقه و«جلاّده» السابق في ألمانيا من سنة إلى أخرى. «زمن طويل مرّ وهو يؤجل هذه الزيارة من سنة إلى أخرى. كان يتذرع بأعذار مختلفة أمام زوجته الحائرة، ولكنه لم يذكر لها أبداً السبب الحقيقي الذي كان يجعله يتردّد في الذهاب، خشية أن تظنه جباناً، أو مصاباً بمرض نفسي، وتقترح عليه الذهاب إلى طبيب. كانت تنتابه المخاوف عند التفكير برؤية ألمانيا مرّة أخرى.. مخاوف غامضة.. مدّت جذورها في أعماق نفسه خلال تلك السنين السوداء». «ص11».
إن هذه الجذور الأفعوانية تغوص في تربة روح الضحية حتى بعد انتهاء الفاجعة زمنياً ومكانياً. وقد تكاثرت في أعماق «بتلر» مثل رؤوس الميدوزا خلال الأربعين سنة التي تلت إطلاق سراحه، ولهذا نجده لا يشعر بالخوف والتوتر من مجرد فكرة العودة إلى ألمانيا فحسب بل يحاول تجنّب أيّ مثير يذكره بها أيضاً. بالنسبة له يعمل (الرمز) عمل الوحش الأصلي تماماً، بل قد يفوقه أحياناً، فالأصل كان محدداً ويطلق سهامه المدمّرة نحو الضحية من الخارج، أمّا الرمز فإنه يشعل التهديد من الداخل، وأنّ أكثر أنواع المعارك دماراً هي التي تكون ساحة عملياتها نفوسنا الممزّقة. إن أفظع حالات التهديد تحصل حين يكون عدوّك رابضاً في داخلك ويشكّل جزءاً من واقعك النفسي. والأشد بشاعة أيضاً، هو عندما يثخن هذا العدو نفوسنا بالجراح العميقة دون أن يكون لدينا حول أو قوّة لردعه أو لجم عدوانه. فوق ذلك فإن تأثير المحفزات التي تنشط همّة هذا الخصم الشرس يتم «آلياً» و«اقتحامياً» فيجعل حياتنا جحيماً في اليقظة والمنام على حدّ سواء، إن بإمكانه، هذا العدو الداخلي، أن يخرّب علينا فرصة للبهجة والاندماج التلقائي في الحياة البشرية الدافئة. وهذا ما حصل لـ«بتلر»، فعندما سأل الشاب الصغير الجميل عن وجهته وقال له إنه عائد إلى وحدته العسكرية في ألمانيا وعلم أنه جندي متطوع في قوات حلف الناتو، «أراد أن يقول له: أوَلمْ تجد حرفة أخرى؟» «ص10».
لقد انزعج لأن ذكرى الجندية نهضت في ذهنه بكل مآسيها وعذاباتها والفاجعة الشخصية التي تضمنتها. حصل هذا الانزعاج رغم أنّ الشاب كان يرتدي ثياباً مدنية، بالإضافة إلى ذلك فإن رحلة الشاب من بريطانيا إلى ألمانيا تذكره برحلته القديمة نفسها. لقد خرّبت الجندية حياته وضيّعت أجمل سنوات عمره بسبب الحرب الطويلة. سمع الفتى يسأله وهو ينهض من مكانه: «أنا ذاهب إلى حانوت السفينة.. هل آتيك بشيء؟ بيرة؟ سجائر»؟!
قال له: «لا.. شكراً».
غريب كيف ماتت رغبته في التدخين دفعة واحدة..»
إنّ عرض الخدمة الذي قدمه له الشاب أزعجه أيضاً. وهو يبّرر موت رغبته في التدخين بأن إدمانه على التدخين هـو الـذي جعله يعرّض نفسه إلى المهانة. وهذا تبرير مراوغ يقلب الحقائق ويوقف الأمور على رأسها، فمن المفترض أنّ خلاصه من الأسر يمثل فرصة للتعويض عن الحرمان الذي عانى منه، حيث يستطيع في ظلّ عودته إلى الحريّة والحياة المدنية أن يدخن بالكيفية التي يريدها، لقد ترك واحدة من أهمّ المتع في حياته حين تيّسرت له الفرصة لممارستها، وكان شغوفاً بها حدّ تحمل المهانة والأذى حين كانت ممنوعة عليه وهو في معسكر الاعتقال، فأيّ المكانين وأي الزمانين هو الملائم لإشباع رغبته؟ لقد ترك عادة التدخين إلى الأبد بعد أن أصبح حراً، لكنه في الواقع لم يستعد حريته النفسية الكاملة، لقد أكره على التخلي عن رغباته ومنها التدخين. أصبحت السيجارة مصدر تهديد لأنها صارت من مسبّبات يقظة شياطين الداخل. وحتى على المستوى السلوكي العام نجده يشير إلى معلومات تشير إلى «نكوصه» النفسي واعتماديته الشديدة: «منذ أن عاد من الأسر قبل أكثر من أربعين عاماً وزوجته تعامله كما لو كان طفلاً مريضاً. وكان ينتبه إليها أحياناً وهي ترنو إليه في أسى.. عندما تراه يجلس صامتاً.. ساهماً.. ساعات طويلة». «ص12». يختم القاص القسم الأول من قصّته بالقول: «كانت الحركة على ظهر السفينة قد هدأت، وخفّ اللغط، بعدما استنفذ المسافرون ما لديهم من كلام، وظهر التعب على الأطفال.. وكان هو يشعر بشيء من الحزن وهو يتأمل الفتى النائم» «ص13». كان يتمنى لو بقي هذا الشاب الصغير في وطنه ولم ينخرط في سلك الجندية التي لا تعني بالنسبة له سوى الموت والخراب المؤبّد. في هذا القسم استخدم القاص ما يمكن أن نسميّه بـ«مرتكزات الإسقاط الانفعالية» وهي أشياء حيّة أو جامدة يوظفها الكاتب في قصّته من أجل أن يسقط عليها جوانب من الحالة النفسية الانفعالية لشخوصه أو لتعكس جوانب من الموقف النفسي الكلي في القصة «صراعاتها، تجاذبات علاقاتها ومكبوتاتها..إلخ». وقد كان طائر النورس، في هذا القسم، هو مرتكز الإسقاط الانفعالي في هذا القسم، فمع بداية رحلة «بتلر» وبهجته النسبيّة يقول القاص: «العبّارة تشق صفحة البحر في هدوء.. يرافقها سرب من النوارس يخفق بأجنحته البيضاء في الشمس.. فوقها وعلى جانبها». «ص9». تعكس النوارس السكينة العامّة في أجواء القصّة وكشارة سلامة للرحلة المقبلة، ولكن عندما تبدأ المخاوف تستولي على نفس «بتلر» وينـزعج من ذكرى الجندية من خلال إجابة الشاب الصغير/الجندي ويحدق إلى البحر ساهماً ويشعر أن حديثه مع الشاب قد فتح جراحه القديمة، يقول القاص: «كانت النوارس قد اختفت.. عادت إلى اليابسة، غير نورس وحيد ظل يحوم حول السفينة في إلحاح».. «ص10». وحركة النورس الوحيد هي تعبير عن وحدة «بتلر» وعزلته المضنية، أمّا عندما «تنضج» آلام «بتلر» وتعود الذكرى الفاجعة التي طالما تهرّب منها، يقول القاص: «أصبح البحر امتداداً لا حدود له، وكانت السماء لا تزال صافية تقريباً ولم يعد طائر النورس الذي كان يلاحق السفينة وحده، لعلّه حط على ظهرها ليستريح بعد أن أجهده التعب». «ص12». وهي حركة عكست فرصة لالتقاط الأنفاس وهدوء الانفعال، والشاب يحتسي البيرة وهو يتناول طعامه وشرابه. وفي هذا القسم أيضاً بدأ القاص بمحاولات تمهيدية لترميم الواقع النفسي المتداعي لبطله من خلال إشارات ومواقف تعزّز في داخله الأمل وتشيع مسحة من التفاؤل في نظرته إلى الحياة والعالم وصولاً إلى المراهنة على إنسانية الإنسان، هذه المراهنة التي ستنسيه وحشة جلاّديه السابقين الذين ذاق الأمرّين على أيديهم. هناك ركاب السفينة من رجال ونساء وهم يتحدثون ويضحكون ويشربون وكأنهم في مهرجان، وهناك الشاب الصغير الجميل الذي يعرض عليه خدماته وهو يبتسم دائماً ويلاحق الفتيات بنظراته ثم يغفو مثل طفل صغير، ولكن الأهم هو الموقف الذي صمّمه لمد الجسور بين «بتلر» وجلاّده/ صديقه السابق، فقد أشار إلى أنّ هذا الصديق هو الذي كان يلحّ على «بتلر» لزيارة ألمانيا وتحقيق لقاء بينهما، كما أنّ هذا الصديق قام بإرسال ابنته «مارتا» لتقيم مع «بتلر» وزوجته أكثر من ستة أشهر لتتعلم اللغة في بريطانيا، وقد رعتها زوجته وأحبتها كما لو كانت ابنتها الوحيدة وعندما تركتهما وعادت إلى أهلها شعرا بفراغ كبير، لكنها ظلت تتراسل مع زوجته. وعن طريق ذلك يحاول القاص تمتين وشائج الأخوة الإنسانية بين «بتلر» وصديقه والتأكيد على أنّ التصالح بين الضحية والجلاد ممكن بعد الخراب العاصف.
2- في القسم الثاني الذي حمل عنوان «الأفريقي وزوجته» يصعّد الكاتب من جهوده البنائية التي تحاول تجميل صورة العالم أمـام عيـني «بتلـر» اللتـين لم تعدا تريان غير الجانب المظلم من هذا العالم. ترك القاص، بقصدية ودراية، امتداداً من القسم الأول يعزّز الأواصر السردية بين القسمين: الأول والثاني، تمثل هذا الامتداد في تأخر «بتلر» عن قطاره في المرحلة الثانية في رحلته، لأنّه أضاع بعض الدقائق في محاولة إيقاظ الفتى الثمل.. «ولكنه اضطر في النهاية إلى تركه في مكانه يتمطى ويتثاءب وينظر حوله في ذهول.. كان يداخله شيء من القلق عليه، ولكن ماذا كان بمستطاعه أن يفعل، كان عليه أن يلحق بقطاره».. «ص13».
في القطار، جعل القاص بطله يتشارك في المقصورة مع زوجين: أفريقي أسود وألمانية بيضاء شقراء. كان «بتلر» يعتبر مثل هذه الزيجة عجيبة من عجائب الدنيا. «كان قيام رجل غير ألماني بمضاجعة امرأة ألمانية يعد عملاً شائناً. أما أن يضاجعها أفريقي أسود فتلك كان جريمة بشعة. ولكنهم كان يجيئون بالنساء قسراً، من البلدان المحتلة، من أجل متعة الضباط الألمان». «ص20». والأكثر إثارة للدهشة في نفس «بتلر» هو أنّ الأفريقي أخبره بأنهما – هو وزوجته – ذاهبان لزيارة أهل زوجته. وقد تعمد القاص أن يظهر الزوجين «المتناقضين» وهما في غاية الانسجام والرضا والسعادة. وهذا دليل شكّله القاص ليثبت «لبتلر» – ولنا أيضاً – أن العالم مازال بخير وأنّ الفوارق التي أسستها السياسات والأيديولوجيات بين البشر على أساس أعراقهم وألوانهم يمكن أن تزول، وبالتالي – وهذا هو القصد النهائي للقاص. فمن الممكن أن تلتقي الضحية بجلادها مادام الاثنان هما ضحية تلك السياسات والأيديولوجيات نفسها. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ العالم الآن لا تسوده الأحقاد وروح العداء بل الألفة والمسالمة. الكل يساعد بعضه البعض الآخر. لقد أبدى له الزوجان الكثير من ألوان المساعدة وكانا حريصان على راحته، حتى أنهما خرجا يدخنان في الممر حين عرفا أنه قد ترك التدخين منذ زمن بعيد.. وقد صمّم القاص مشاهد هذا القسم بذكاء بحيث جعل المواقف الإيجابية المحملة بالروح الإنسانية التي تجري في حاضر القصة تستدعي وتوازي الممارسات السلبية التي تبزغ في ذاكرة «بتلر» الجريحة. فالزوجان يدخنان بحرّية ويعرضان عليه علبة السجائر في الوقت الذي يتذكر فيه حرمانه من التدخين في معسكر الأسر، والمهانة التي يتعرض لها الأسرى حين يلتقطون أعقاب السجائر التي يتعمد الجلادون رميها ثم سحق يد الأسير التي تمتد نحوها خلسة بكعاب الأحذية الثقيلة، وفي هذه اللحظة يسترجع موقف صديقه/ جلاده الذي منحه القاص اسم «هانز هوفمان» الذي كلمه بنبرة صديقة لا تُصدق وألقى له بسيجارة كاملة في بادرة إنسانية لا يمكن توقعها وسط أجواء العذاب والعدوان. لكن قبضة الخراب الخانقة لم ترتخِ تماماً وظلّت شياطين الفجيعة تتقافز كلما سنحت لها الفرصة وتوفّر لها المثير المناسب. فمشهد الزوجين وهما يدخنان وعرض التدخين الذي قدّماه له أهاج جروحه القديمة وأعاد إليه الذكريات المؤلمة. ومازال كيان «بتلر» هشّاً أمام «الرموز» المهددة. فعندما يُطرق باب المقصورة ويدخل المفتش بقي «بتلر» مضجعاً لا بحب أن يرى رجال بثياب دكناء. هذه الثياب تذكره بملابس الحرس النازي وتستدعي، بالتالي، سلوكهم الوحشي. وفي موقف آخر: «.. دخل المقصورة رجل آخر.. سمعه يكلّم الأفريقي باللغة الألمانية. ولمح ساقيه تنتصبان على مقربة، فانقبض قلبه».. «ص22». لقد أمضى سنوات اعتقاله مطأطأ الرأس ومنحنياً وكلما همّ برفع بصره اصطدمت عيناه بمشهد ساقي الحارس الضخمتين تنتصبان بجانبه وتكادان تلامسانه. وعندما شاهد الزوجين الشابين يضحكان بانطلاق: «فكر مع نفسه وهو يتأملهما.. ما أروع زمن الشباب وما أقصره، أما هو فقد أضاعوه عليه»، لم يكن قادراً على نسيان أنّ من عذّبوه كانوا وحوشاً، وكان الصوت يضج في أعماقه: «وحوش.. وحوش.. سمع عجلات القطار تردّد وراءه في ضربات رتيبة متواصلة.. وحوش.. وحوش.. وحوش». «ص16» ناسياً أنّ منقذه الحارس كان يلبس الثياب نفسها، ويحمل مسدساً كبيراً وعصا سوداء مثل الحراس الآخرين، ولكنه كان إنساناً فريداً، كان تعرّفه على الحارس «هانز هوفمان» هو الذي ساعده على العيش والتّحمل.
3- في القسم الثالث والأخير الذي حمل عنوان: «رنين الأجراس»، ففيه لحظة الذروة، لحظة لقاء «بتلر» بصديقه/جلاده القديم «هانز هوفمان». وفي بداية هذا القسم يستمر القاص في توكيد وحدة قصته ويثبت أنّ المبدع المقتدر هو الذي يمتلك انتباهة حادّة ونظرة شمولية تجعله لا «ينسى» أيّاً من شخوص قصته الأساسيين.
ها هو العجوز «بتلر» ينـزل من القطار وقتياً ليشاهد جندي «الناتو» الصغير بخصلة الشعر الساقطة على جنبيه، كان مثل طفل يلهو فتمنى «بتلر» لو أنّ هذا الفتى بقي في وطنه معبّراً عن سأمه من حرفة هدفها الأساسي هو احتراف فن مواجهة الموت. ولكن هذا جانب من الهدف الأكبر والأسمى للكاتب، هدفه المتمثل في رسالة الأديب الإنسانية المقدّسة والتي تتجسد في المراهنة على إنسانية الإنسان ونبله، وإثبات أن هناك بذرة للنماء وسط أشد ظروف العدوان قساوة. في المحطة راح «بتلر» يتأمل بناءها الضخم ويفكر «كم يبدو الناس صغاراً تحت هذا السقف المهيمن!» هو يتساءل: «يعرفون كيف يبنون إذا أرادوا»، الناس في حركة عمل ونشاط هائلين، «لمح بناءً ضخماً تعلوه رقعة كبيرة كتبت عليها كلمة واحدة «مرسيدس». لقد قام الإنسان بإعمار ما خرّبه من منجزاته بفعل قسوته وساديّته. ها هي المراعي الخضراء تمتد أمام عينيه، وها هو – وهنا بيت قصيد الكاتب – «بتلر» يجد نفسه من جديد في ساحة جحيم معاناته السابقة. «داخله شعور بأنّ تلك المخاوف الغامضة، التي شلّته دهراً هي ليست سوى عرض مرضي من بقايا سنوات الأسر الطويلة». «ص25». وهو محق في ذلك وإن كان وصوله إلى هذه الحقيقة قد تأخر لعقود طويلة – أكثر من أربعين عاماً – وكان ثمن هذا التأخير المزيد من المعاناة والألم والوحشة. ينظر من خلل نافذة القطار المندفع بجنون فيشاهد أبقاراً سمنية، بضروع ملأى وهي ترعى مطمئنة وفي عنق كلّ واحدة منها جرس كبير. «وكان لرنين أجراسها وقع غريب على الأذن، وهي تفرّ مذعورة على غير هدى، بين هدير الطائرات المغيرة، ودوي انفجارات القنابل، ووسط كل ذلك.. الخراب». «ص25». ورغم هدير القطار المجنون، لا تفزع ولا تجفل. ملعون عدوان الإنسان فقد كان قادراً على بث الرعب في نفوس حتى الحيوانات المسكينة، فكيف الحال بالإنسان نفسه؟ إذا كانت الأبقار تفرّ مذعورة ويتصاعد رنين الأجراس المعلّقة في أعناقها كشارة للموت والخراب، فـإن ما حصل «لبتلر» وباقي رفاقه الذين عاشوا فاجعة الأسر هو أنّ الحرب قد علّقت الأجراس، السوداء المدوية في أعناق أرواحهم المذعورة المتلفتة أبداً فصارت تدق وتزعق ليل نهار محطمة وجودهم ومخربة حيواتهم. لكن «تغيرت كثيراً هذه الأبقار! كل شيء تغير.. ولم يتبق من آثار ذلك الزمان غير ندوب قديمة في نفوس الشيوخ أمثاله، و – أحياناً – في أجسادهم.. وحشد من الذكريات ما عادوا يرغبون الحديث فيها. هذه الأبقار التي ترعى على بعد قليل من سكة القطار، ترى كيف يبدو رنين أجراسها الآن ؟ كم يحب أن يسمعه». «ص25» وهنا تتجلى «فلسفة» عنوان القصّة: في الهواء رنين أجراس، لم يكن في هواء «القصة» أي رنين للأجراس، وكان العجوز «بتلر» يتمنى أن يسمع رنين الأجراس المعلّقة في أعناق الأبقار، ومن المؤكد أن هذا الرنين سيكون هادئاً ولطيف الوقع لأنه يصدر عن حركة أبقار مطمئنة في مرعاها في مرحلة السلام بدلاً من ذلك الرنين الغريب لأجراس الأبقار المذعورة في مرحلة الحرب. وبالتالي فإن هذا العنوان سيكون مضلّلاً ومورّطاً إذا أخذنا معناه المباشر على طريقة «ثريا النص» الجامعة المانعة، إن المعنى الكامن والعميق لهذا العنوان، وبعد أن قطعنا هذا الشوط الطويل في تحليل وقائع القصّة – يشير الى رنين أجراس الرعب والعذاب المعلقة في أعناق أرواح ضحايا الفاجعة كما قلنا، وهو رنين مُنفر ومقلق يخنق «هواء» أجواء النفس البشرية للناجين الذين لم يستطيعوا النسيان وظلّت مخاوف الشدّة الفاجعة تتطفل على عقولهم كما يمتص العلق دم ضحيته، لكن لابدّ من النسيان، وأن نكافح من أجل النسيان كمنفذ وحيد للخلاص، ويجب أن نتعاون جميعاً من أجل النسيان وطيّ صفحة العذاب، وهذا هو الدرس الإنساني الهائل الذي يقدّمه «الصقر» لنا وهو يختم قصّته الرائعة، ولكنه يضعنا أمام معضلة خطيرة جديدة ليس هنا مجال بحثها ومفادها أنّ النسيان يبدو أكثر يسراً على الجلاّد منه على الضحيّة. يصف «الصقر» لحظة لقاء «بتلر» بصديقه في المحطة في نهاية القصة قائلاً: «كان «بتلر» يقف حائراً عندما لمح كهلاً مقبلاً من بعيد، وهو يجهد ليجعل خطواته أسرع قليلاً، وكان يحمل رقعة في يده، لعله هو، انتظره حتى دنا ، كان الاسم واضحاً، ولكنه تعرف عليه من نظرة عينيه، هو نفسه، صديقه القديم «هانز هوفمان» فالزمن مهما عبث بملامح وجهه فإنه لن يستطيع أن يغيّر من تلك النظرة التي عرفها هو جيداً في تلك الأيام. انبسط وجهه ومشى يلتقيه، طوى «هانز» الرقعة ودسها في جيبه، ثم بسط له ذراعه:
– وأخيراً جئت!
وتعانقا
– ولكن أين بقية أمتعتك؟
أراه الحقيبة والكيس
– هذا كل شيء.. فما عاد للمقتنيات الكثيرة من معنى.. منذ أن..
لكن حارسه القديم قاطعه وهو يمسك بذراعه في مودة:
– حاول أن تعود إلى العالم يا صديقي.. وأن تنسى.. حاول أن تنسى..
ثم قاده برفق،وخرج به من المحطة.
ملاحظة بسيطة: في أثناء وصف القاص لمعاناة بطله وكيف ضربه الرقيب الجلاد بالسوط وقال له: «أربايته.. دوشفاين»، لم يفسر لنا معنى هذه الجملة الألمانية في حين كان قد فسّرها في كتابه «وجع الذاكرة» وهو يشرح الواقعة الفعلية، ومعنى هذه الجملة هو: «اعمل أيها الخنـزير».
المصادر:
1- وجع الكتابة، مذكرات ويوميّات – «مهدي عيسى الصقر» بغداد – دار الشؤون الثقافية – 2001.
2- أجراس، أعمال قصصية (1950 – 1988) «مهدي عيسى الصقر»- بغداد – دار الشؤون الثقافية 1991.
3- أصول علم النفس – أحمد عزت راجح – من دون تاريخ .
«أبو حيان التوحيدي»
كتاب «الإشارات الإلهية»
من الحالات النادرة في تاريخ الأدب العراقي القصصي، أن يمنحنا كاتب ما فرصة التعرّف على سيرته الإبداعية، وبشكل خاص الاعتراف بمصادره الواقعية، والكيفية التي يتحول فيها الواقع إلى نصّ، إلى ورقة كتابة، إلى مخيّلة، لأنّ من المعروف، أنّ الكاتب العراقي لا يعطي قيمة لسيرته بل يخجل منها أحياناً ويصاب بالحرج في حـلة إعلانه عن طقوس إبداعه «وخفايا» آلياته الإبداعية. وقد يكون المبدع العراقي الكبير «مهدي عيسى الصقر» هو أولّ من حاول القيام بذلك بصورة منهجية ومدروسة ومقصودة من خلال كتابه «رجع الكتابة» الذي يقول فيه: «طرحت إحدى المجلات سؤالاً على عدد من الأدباء «العراقيين»، حول سبب إحجام الكثير منهم عن كتابة مذكراتهم الشخصية. قال أحدهم: إنه لا يرى نفسه شخصاً مهماً إلى درجة تجعله يسجّل تفاصيل حياته، ليقرأها الآخرون، وإن كانت حياته مليئة بالأحداث».. «وجع الكتابة ص62».
ويعلق «الصقر» على هذا الخلل السلوكي الإبداعي لدى الكتّاب العراقيين بالقول: «في تقديري إنّ كتابة المذكرات بحاجة إلى جرأة كبيرة، واستعداد لتحّمل العواقب، فالمذكرات ليست قصّة، أو رواية، يتخّفى فيها الكاتب أحياناً، وراء شخوصه الوهميين، ليلامس جراحه الخاصّة، في تردّد وحذر، بل هي نبش مباشر يفترض فيه أن يكون صادقاً، وأمينا يكشف، بلا مواربة، عمّا يدور في أعماق النفس، من نوازع «ربما كانت شريرة» وما دار حقّاً، في حياة الكاتب، وفي المحيط، الذي عاش فيه. وكتابة المذكرات تغدو أكثر صعوبة، لمن يريد أن يتحدث، عمّا دار في حياتنا، من أحداث تجاوزت كلّ ما هو خرافي. أمّا عذابات النفس، وخيباتها، فإننا نحاول أن نتناساها، قدر المستطاع، من أجل أن نقدر على مواجهة مصاعب حياتنا اليومية، لابسين قناع التفاؤل فوق وجوهنا الحزينة».. «وجع الكتابة ص62».
أي أنّ «الصقر» يقرّ بأن كتابة المذكرات أو السيرة الذاتية هي «كشف» يتطلب جرأة وروحاً تعرّضية، وقد قدّم هذا المبدع – وفق هذا التصوّر – سيرة ذاتية «منضبطة» همّها الأساسي تقديم الحوادث والوقائع واليوميات ذات الصلة بالعملية الإبداعية، مبتعداً عن الطريقة الفضائحية الصادمة التي اتبعها بعض المبدعين الذين سطّروا سيرهم الذاتية في الأدب العالمي والعربي، تلك الطريقة التي حققت لمذكراتهم انتشاراً واسعاً بين القرّاء الذين يستولى عليهم الفضول الشديد للتعرف على خفايا «النصف الأسفل» من حياة المبدع السرّية وبشكل خاص الجوانب الجنسيّة المثيرة. ولعلّ أهمّ ما قدّمه «الصقر» في مذكراته، بالإضافة إلى عرض طقوسه وعاداته الإبداعية وهو أمر قليل الحصول في الأدب العراقي، هو تصوير الكيفية التي يلتقط بها موضوعاته من أرض الواقع ليعيد تشكيلها، عبر المخيلة، في سماء النصّ، أي أنّه يقدم لنا درساً هاماً في الإجابة عن تساؤل هام هو: كيف تكتب قصّة؟ وكيف يتحول ما هو واقعي ومادّي إلى إبداعي لغوي؟ وما الذي يحققه القاص أو يضيفه إلى الحدث؟ ثم، وهذا هو الأهم، ما هو المقدار الذي تلعبه دوافع المبدع اللاّشعورية في تشكيل النتاج القصصي النهائي؟
لقد قدمنا دراسة حول هذا الأمر؛ كيفية نقل الواقع إلى النصّ، من خلال متابعة مراحل خلق «الصقر» لقصته القصيرة: «زوجة محارب» ركزّنا فيها على فعل لاشعور المبدع وتجاربه المختزنة في تحديد مسارات تشكّل التجربة النصيّة، وأقدّم هنا دراسة ثانية عن قصة: «في الهواء رنين أجراس» التي ضمتها مجموعته القصصية «أجراس».
كيف «التقط» القاص موضوع قصّته من بين الكم الهائل من الحوادث الذي يحفل به الواقع والتي تواجهه في حياته اليومية؟
يقول «الصقر»: «قبل نحو عشرين سنة، وأنا في سفر، خارج العراق، التقيت رجلاً كهلاً، من اسكوتلندة، كان مسافراً هو أيضاً. ومثل أي غريبين، بعيدين عن الوطن، ينشدان الرفقة، والتواصل مع الآخرين، رحنا نتحدث، قال: إنه في طريقة لزيارة صديق ألماني مقيم في مدينة «ميونيخ»، تعرّف عليه أيام الحرب. نظرت إليه في دهشة:
«تقول: أيام الحرب؟»
«نعم، أيام الحرب».
«ولكن كيف، وأنتما من بلدين، كان في حالة صراع؟»
ابتسم الكهل: «لن تندهش إذا عرفت الحكاية، أو لعلك تندهش قليلاً، ولكن لسبب آخر». وراح الرجل يروي لي حكايته، بكلماته الهادئة البطيئة وبلهجته الاسكوتلندية التي يتندّر عليها الإنجليز أحياناً: «في الحقيقة أنا كنت أسيراً في ألمانيا، وكان صديقي هذا – الذي أذهب لزيارته الآن – واحداً من حرس المعسكـر، الذي كنت فيه. ونظر الكهل في وجهي: «أتدخن أنت؟».
«لا».
«حسناً تفعل، فهذه النـزوات التافهة، التي نعتاد عليها، في حياتنا، تجعلنا نتعرّض لكثير من المهانة أحياناً». «في الماضي كنت أدخن كثيراً، أنت لا تستطيع أن تتصوّر كم كنّا نكرههم، هؤلاء الحرس، لقد جعل «هتلر» من رجاله وحوشاً، لا يتورعون أن يأكلوك، وأنت حي. كانوا يستمتعون بتعذيبنا، نحن الأسرى، كنّا نعمل، في العراء، نستخرج لهم البطاطس، والأرض تغطيها طبقة من الثلج، ونحن شبه عراة، وهم بملابسهم الدافئة وأحذيتهم الثقيلة، يتجولون بيننا، يحملون مسدساتهم وعصيهم ويدخنون باسترخاء. وكان الواحد منهم، إذا انتهى من تدخين سيجارته، رمى بالعقب جانباً، حتى إذا لمح يد واحدٍ من الأسرى، تمتد لالتقاطه، من على الأرض، أقبل كالنمر، وسحق بجزمته اليد، والعقب، بالتراب، فترتفع عندئذٍ، ضحكاتهم المتشفية. كانت تلك واحدة من اللعب التي يتّسلون بها، يومها أقسمت أن أترك التدخين، ولكن، في ذلك الوقت كان الدخان سلوتنا الوحيدة».
ورأيت الكهل يمد يده إلى جيبه، كأنه يبحث عن شيء. إلاّ أنه أخرجها فارغة، بعد قليل.
«في أحد الأيام جلست أستريح قليلاً فشعرت بكعب حذاء واحد منهم ينـزل، بين أكتافي، وصوت غاضب يصرخ بي: «أربايته.. دوشفاين» «اعمل أيها الخنـزير». سقطت على وجهي، ثم جلست أنفض عني الثلج المعفّر بالتراب، وتابعت العمل. لم أرفع رأسي. شعرت، بعد ذلك، بالأقدام تبتعد، مرّت لحظة، ثم لمحت ساقين، وحذاءين ضخمين، يقتربان منّي ، انكمشت على نفسي. هل عاد هذا المتوحش ليضربني؟ بقيت خائفاً. سمعت صوتاً يقول: «حاول أن تكون أكثر حذراً لكي لا تُضرب». كان ذلك صوت رجل آخر. فوجئت. لم تفاجئني الكلمات. فنحن كنّا معتادين على التهديد. إنّما فاجأتني النبرة التي لفظ فيها الحارس كلماته. أحسسـت كـأن الرجل ينصحني. رفعت وجهي إليه، فرأيت ما يشبه العطف، في عينيه، أحقيقة ما أسمع وما أرى. لم يقل الحارس شيئاً آخر، ومضى يبتعد عنّي. كنّا نرتاب في نواياهم، ونخشى أي اتصال بهم. قلت لنفسي: لعلّي أتخيل أشياء لا وجود لها. أحياناً، في ساعات المحنة، يتمنى الإنسان أشياء مستحيلة فيصوّر له خياله حدوثها. بقيت حائراً، مرتبكاً، ولكن في اليوم التالي، وهو يمر بجواري يتفقد العمل، ترك سيجارة تسقط، من بين أصابعه، في حفرة صغيرة أمامي، كأن ذلك حدث سهوا . ” سيجارة كاملة ، تصور !! ” . ولمعت عينا الكهل وهو يستعيد ذكرى ما جرى. «ثمة أشياء لا نكترث لها كثيراً، في حياتنا اليومية الاعتيادية، تغدو كأنها أكسير الحياة، في مواقف معينة. سيجارة كاملة، تقع في يدي، ونحن نحلم بالعثور على عقب واحد غفل عنه الحارس».
قلت له: «إنني أستطيع أن أتصور مشاعره ساعتها».
«ربّما.. ربّما.. ولكن ما لم تعش التجربة، أنت بنفسك، فإنك.. على أية حال أنا تركت التدخين، بعد خروجي من المعتقل. أمّا في ذلك الوقت. «وأغمض الكهل عينيه لحظة».
«في الأيام التالية أخذ هذا الرجل يحدثني عن نفسه. ليس علناً طبعاً، ذلك مستحيل. كان يأتي ليقف فوق رأسي، ويصيح بي معنفاً، ثم يهمس بكلمات قليلة، عبارة، أو عبارتين، ويمضي. وبدأت أطمئن إليه، ورحت أرد عليه، وأنا مطرق، مواصلاً عملي، عرفت أنه كان مدرّساً للموسيقى، قبل الحرب، وأنه متزوج، وله بنت واحدة اسمها «مارتا»، وإنه يمقت العمل الذي يقوم به، في المعسكر. ومع الأيام نمت بيننا – في ذلك المكان المرعب – صداقة حذرة، متكتمة، محفوفة بالأخطار، ساعدتني كثيراً، على تحمل ما تبقى من سنوات الأسر، وسط ذلك الجحيم.
«وأنت تذهب الآن لزيارته».
«وإلى أين تذهب أنت؟»
قلت له: «إني أعود إلى بغداد.. ثم افترقنا». «وجع الكتابة ص142 – 146».
ثم يتحدث «الصقر» عن الكيفية التي أثّرت تلك الحكاية في وجدانه وكيف اختمرت فكرتها ثم بزغت ناضجة كموضوع قصّة قصيرة تدخل في تشذيبها الخيال، فيقول: «… وقد هزتني تجربة هذا الكهل، مع أنّ علاقات الصداقة، والحب أحياناً، التي تنمو – مثلما تنمو الزهور البّرية، في وسط مستنقع – بين أناس من فريقين متحاربين، هي ممارسة إنسانية قديمة تناولها الأدباء والشعراء في قصصهم، وقصائدهم، وهي تكشف لنا أنّ الإرهاب والخوف، وليده الشرعي، لا يستطيعان أن يتغلبا، على الخصال النبيلة، في القلوب الحرّة، والشجاعة. وبقيت حكاية الرجل الأسكوتلندي، وصداقته، مع حارس المعسكر النازي أيام الحرب، ترقد في رأسي، لعدد من السنين، بين حشد الذكريات والانطباعات، التي عدت بها من السفر، حتى جاء يوم وجدتها تخرج إلى السطح فوضعتها، عندئذٍ، في أقصوصة أسميتها: «في الهواء رنين أجراس»؛ غير أنّ الخيال كان قد أضاف إليهـا، وحذف منها، كالعادة طبقاً للضرورات الفنية. إلاّ أنّ الجوهر يبقى كما هو – موقف الإنسان، الذي يرفض أن يتخلّى عن شروط إنسانيته، في مواجهة القوى، التي تسعى إلى مسخه، وسلبه حرّية الاختيار». «ص 147».
لقد نقلنا هذا النصّ الطويل لأنّه في غاية الأهميّة، فهو «النصّ» المرجعي الذي سوف نقيس النصّ الإبداعي/القصّة عليه لنرى ما الذي فعله «الصقر» به حين استخدمه مادة أولية شكّل منها ما أنجزه من أنموذج فنّي، وينبغي أن ننتبه أولاً إلى أنّ الكاتب قد اختزن هذه الحادثة لأكثر من عشرين سنة، ثم «طفت» الفكرة إلى السطح ذات يوم، أي أنها اختمرت لمدة طويلة جداً، وكان «انبثاقها» وفق حالة أشبه بالإلهام، إذ لا يستطيع المبدع القول أين كانت هذه التجربة مختبئة طول هذه السنين، ولماذا انبثقت في تلك اللحظة بالذات، وكأن قوة «سحرية» مدّت لها «حبلاً» وسحبتها من بئر الذاكرة المظلمة. وقد يكون المحفز لتحريك الفكرة المخزونة حادثة خارجية بسيطة كقراءة خبر في صحيفة أو رؤية مشهد في التلفاز مثلاً. إلخ.. وقد يكون المثير مرتبطاً بمتغيرات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه المبدع الذي يتفاعل مع أحوال مجتمع بضمير حيّ واستجابات ساخنة. وإذا أعدنا إلى ذهن القارئ أن الكاتب قد كتب قصته في «تموز 1988»، أي بعد شهر واحد على نهاية الحرب بين العراق وإيران، والتي أكلت «الأخضر واليابس» في حياة البلدين ، فإنّ هذه القصّة هي استجابة خلاّقة تشجب العدوان وتراهن على الدوافع الإنسانية لدى الإنسان في كل مكان، وأنّ الطريق الوحيدة للقضاء على غولة الحرب تكمن في المراهنة على الأخوة البشرية التي تتجاوز حدود اللون والعرق واللغة والقوميّة، لقد حاول الكاتب تقديم حلّ لحالة العدوان المدّمرة للمجتمع البشري من خلال الفنّ، ومن خلال حادثة ظلت «نائمة» أكثر من عشرين سنة.
ومرحلة كمون الفكرة أو الواقعة هو ما يسميّه المختصون بـ«مرحلة الحضانة أو الاختمار – incubation» حيث يرون أنّ «العملية التي يتم بها الإبداع الملهم تجتاز أربع مراحل:
1- مرحلة الإعداد التحضير: Preparation:
وفيها تحدّد المشكلة وتفحص من جميع النواحي وتجمع المعلومات وتهضم جيّداً، ثم يقوم المبدع بمحاولات للحل يستبعد بعضها ويستبقي البعض الآخر لكن يصعب الحل وتبقى المشكلة قائمة، وقد قال «جوته» في وصف هذه المرحلة: «كل ما تستطيعه هو أن نجمع الحطب ونتركه حتى يجف، وستدب النار فيه في الوقت المناسب».
2- مرحلة الحضانة أو الاختمار:
وهي مرحلة تريّث وانتظار لا ينتبه فيها المبدع إلى المشكلة انتباهاً جدّياً، غير أنها ليست فترة خمود بل فترة كمون، فيها يتحرّر العقل من كثير من الشوائب والمواد التي لا صلة لها بالمشكلة، وفيها تطفو الفكرة بين آن وآخر على سطح الشعور.. وقد تطول هذه المرحلة لعدة سنين وتكون المشكلة إبان هذه الفترة تحت تأثير عمليات لا شعورية مختلفة لتلك العمليات الهامة الخافية التي تحدث في البيضة أثناء مرحلة الحضانة.
3- مرحلة الإلهام أو الإشراق:
فيها يثب الحل إلى الذهن ويتضح على حين فجأة.. مثل من ينظر في صورة من تلك الصور الملغزة يحاول أن يكشف فيها عن رسم غزال مختبئ، أو صيّاد متربّص أو طائر على شجرة.
4- مرحلة إعادة النظر أو التحقّق: Verification:
«قد يكون الإلهام الخطوة الأخيرة في التفكير الإبداعي أحياناً، غير أنه في أغلب الأحيان يتعيّن على المبدع أن يختبر الفكرة المبتدعة ويعيد النظر فيها ليرى هل هي فكرة صحيحة أم تتطلب شيئاً من الصقل والتهذيب». «أصول علم النفس – أحمد عزت راجح – ص361 – 364».
ولكن ما الذي حصل لدى «الصقر» وهو يبدع قصّته هذه؟ وكيف سنفهم تسلسل هذه المراحل الإبداعية ارتباطاً بتجربته؟
لم يخطط «الصقر» أولاً لاختيار موضوعه، لقد التقى بـ«مصدره» مصادفة أثناء سفره خارج العراق واختزن الفكرة لعشرين سنة ثم بدأ بالتخطيط لوضعها في صورة قصّة قصيرة في يوم معيّن، أي أنّ تسلسل مراحل الإلهام الإبداعي بالسنبة لهو هو: الاختمار الإعداد والإنجاز التحقّق. ولم تبزغ الفكرة بصورة إشراقية ولم يأتِ موقفه معتمداً على «الحدس». كان هناك مثير حفز الفكرة المختزنة والكامنة فصعدت إلى سطح الشعور لتتلقفها أنامل المبدع البارعة. أي أن تسلسلاً آخر موازياً للتسلسل الأولى يمكن أن يرسم مراحل الفعل الإبداعي وهو:
تجربة (حادثة، لقاء..إلخ) فكرة اختمار محفز عودة الفكرة «وفي أحشائها تفاصيل التجربة القديمة إعداد وإنجاز تحقق . وأعتقد أنّ الكثير جوانب الخلق الفني لدى المبدعين تقوم على أساس اختزان التجارب اليومية من علاقات وتجاذبات وحوادث وصدمات واختزانها في هيئة أفكار، وصور تختمر لأوقات قد تطول أو تقصر منتظرة مثيراً ما – خارجياً أو داخلياً – يحفزها ويحرّكها. وقد تتحفز الفكرة أو الصورة لأكثر من مرّة لكنها لا تدفع المبدع إلى العمل بسبب انتظار «المموّل» الداخلي الذي يمنحها الطاقة النفسية الكافية . وهذا الممّول يكون في العادة رغبة لاشعورية تبغي الإشباع أو صراع لاشعوري يطلب الحل أو دافع لاشعوري هو الذي يموّل إخراج الفكرة الكامنة إبداعياً لمصلحته. وإذا راجعنا دراستنا الموسّعة حول «قلق الموت لدى المبدعي مهدي عيسى الصقر» سنكتشف حافزاً مضافاً جعل الذكرى النائمة تصحو وتطرق أبواب شعوره ليستلهمها في قصته، وهذا الحافز هو قلق الموت الذي تأصل في لاشعوره منذ طولته وتحديداً منذ أن واجـه تلك التجربة الفاجعة المتمثلة في حضوره – صغيرا ووحيداً- احتضار والدته، وقد تجلّى هذا القلق – كما بينّا في دراستنا تلك – في مجمل نشاطه الإبداعي، رواية وقصّة وسيرة، ومن الواضح أن تقدّم «الصقر» في العمر لأكثر من عشرين عاماً قد رفع من حدّة هذا القلق وجعله يستعيد التجارب التي يستطيع توظيفها بطريقة تخفف من حدة مخاوفه وتحافظ على تماسكه النفسي وتمنحه الإحساس بالديمومة ومقارعة الفناء. ومن بين هذه التجارب لقاء «المصادفة» الذي حصل مع ذلك العجوز الأسكوتلندي الذاهب إلى رؤية «جلاّده» السابق في معسكر الأسر خلال الحرب العالمية الثانية. فالحادثة التي «قصّها» العجوز هي واقعة مواجهة مع الموت لأنها حصلت في أتون الحرب، والحرب هي الغولة التي يبعثها الموت كي «تلحس» لا أقدام وجودنا فحـسب، بـل أرواحنا موتى وأحياء؛ فحتى الناجين من مخالبها الباشطة يعودون وقد ركبهم الشعور بالذنب؛ ذنب النجاة.. «لماذا عاشوا في الوقت الذي مات فيه زملاؤهم؟ لماذا لم يفعلوا شيئاً لإنقاذ الآخرين؟ هل انتهزوا الفرصة على حساب غيرهم؟ هل ضحّى الآخرون بأرواحهم من أجل إنقاذهم؟..».. ثم هناك ذنب القتل وخطف روح آخر شبيه بهم من حيث تعلّقهم بالحياة وبعائلاتهم.. العائدون من الحرب يعودون بغيلان صغيرة سوداء تعشش في زوايا أرواحهم وتنشط في أحلامهم وتجعل حياة يقظتهم جحيماً لأنّها تقفز من أماكنها بصورة شيطانية مع أي محفّز – مهما كان بسيطاً – يعيد ذكريات الموت بصورة إشراطية «قد يجفل محارب سابق بعد الحرب عند سماعه صوت تكسّر قدح زجاجي أو زعقة منبّه سيارة.. إلخ» وقد عاد العجوز الأسكوتلندي من معسكرات الأسر الألمانية الرهيبة التي كان يديرها وحوش فعليون كما وصفهم في حديثه للصقر، قلّة قليلة كانت تعود إلى ديارها على قيد الحياة من تلك المعسكرات.. (إنّ أي شك حول التأثيرات الرهيبة لعمليات الأسر على الإنسان يمكن طرحها جانباً من خلال مراجعة الإحصائيات التي أوردها المختصون حـول الأسـر خـلال الحرب العالمية الثانية حيث وصلت معدلات الوفيات بين أسرى الحرب إلى مستويات لا تصدق قدرت بين «6 – 10» ملايين، فمن بين جميع الأسرى البريطانيين والأمريكيين مات (11%) تقريباً خلال فترة الأسر، وأغلبهم بسبب سوء التغذية أو الإهمال، و(45%) من الأسرى الألمان في معسكرات السوفييت و(60%) من الأسرى السوفييت في معسكرات الألمان لم يعودوا إلى بلدانهم بعد الحرب حيث ماتوا خلال «الأسر».
في الواقع حدّث العجوز الصقر عن المعاملة اللاإنسانية والشرسة التي كان يقوم بها الحرس «استخراج البطاطا من تحت طبقة الثلج بأصابع عارية، العمل في الصقيع شبه عراة، محاربة الأسرى المدخنين بأعقاب السجائر، بالأحذية، والشتائم».
لكن في القصّة، أضاف «الصقر» طريقة تعذيب لا أعلم أين اطلّع عليها حيث يقول: «كانوا ينـزعون عن الأسير ثيابه، ويسكبون ماءً بارداً على جسده العاري، ويتركونه ساعات طويلة في العراء تحت الثلج المتساقط في ليالي الشتاء.. ثم يأتون به إلى حجرة دافئة، جسداً متصلباً.. ويجيئون بامرأتين عاريتين، ويجعلون كل واحدة منهما تنام على جانب من الجسد المتجمّد وتعملان معاً على بعث الحياة فيه من جديد، بحرارة لحمهما العاري. وفي الغالب يكون الأسير الذي يؤتى به من العراء قد فارق الحياة منذ بعض الوقت. وتكتشف الامرأتان بعد وهلة، أنهما كانتا تلهثان على جثة هامدة. ولكن كان يحدث أحياناً أن يستعيد الأسير وعيه شيئاً فشيئاً، وينتعش الجسد البارد، وفي بعض الحالات يطبق الرجل المستثار على إحدى الامرأتين فيضاجعها وسط ضحكات المشرفين على التجربة..» «أجراس، ص 20 – 21».
أنا، شخصياً، اطلّعت خلال القراءة المستفيضة، على الكثير من أساليب تعذيب الأسرى في معسكرات النازي، ولم أطلّع على مثل هذه الطريقة رغم أنّها ممكنة الحصول، لكن السؤال الهام الذي يثور في ذهن المتلقي هو ما الذي دفع بالكاتب إلى اختيار تجربة يمتزج فيها التعذيب الجسدي بالجانب الجنسي الإستثاري؟
إنّ السبب الذي يطرحه الكاتب لتبرير هذه التجربة الغريبة هو أنّ الجلادين كان يهمهم أن يعرفوا إلى أيّ مدى يستطيع الإنسان أن يصمد أمام البرد القارس، وما هي أنجع سبل العلاج لجندي موشك على الهلاك برداً، لكي يوفروا أسباب السلامة للجندي الألماني الذي يقضي فترات طويلة في الخنادق، وهو عامل متهافت علميـاً، لكن العبارة الكاشفة هي التي يقول فيها «الصقر» من أنّ الجلادين كانوا يدهشون للقدرة السحرية التي يمتلكها جسد الأنثى على إعادة الحياة إلى رجل هالك، ثم الصعود به إلى ذورة النشاط الجنسي. فهذه التجربة الجنسية في مضمونها رغم غطائها العلمي تشبع الدوافع التبصصّية والاستعرائية الممزوجة بالسادية لدى الجلادين.. والمبدع حين يبني مشاهد نصّه يسترق ويتبصّص ويفرغ دوافعه السادية أيضاً. ومن ناحية ثانية، من الضروري الإشارة إلى أنّ هناك عوامل كبيرة تتحكم في الكيفية التي يبني بها الكاتب نصّه وبشكل خاص تسلسل حوادثه من بين أهمها الإشراط النفسي اللاّشعوري. وبقدر تعلق الأمر بتجربة «التعذيب» التي أشار إليها «الصقر» فإنها من الناحية الفنية والنفسيّة تضعف حدّة وحشية أساليب التعذيب الأخرى التي أخبره بها العجـوز والـتي سطّرها في قصته أيضاً لأنّ الوقع النفسي لتعذيب ينتهي بالجماع الجنسي والمغازلات المهيّجة لا يولّد الانطباع المأساوي الذي تخلقه الطرق الوحشية الأخرى. فلماذا ذكرها الكاتب؟ ولمَ لمْ ينتبه إلى المفارقة التي يخلقها هذا النوع من «التعذيب» مع المسار الدموي والشرس المعروف عن الأنواع الأخرى؟
لقد جعل القاص بطله العجوز «توم تبلر» في القصّة – يتشارك في مقصورة واحدة من القطار الذي أقلّه إلى «ميونيخ» لملاقاة جلاّده/ صديقه السابق، مع زوجين: أفريقي أسود وألمانية شقراء. وعند منتصف الليل توسد حقيبته وغطى نفسه بالمعطف. لم يستطع النوم بعمق بسبب حركة القطار. ثم أطفئ الضوء داخل المقصورة. سمـع همسـاً وتنهـدات فبقـي سـاكـنـاً، لم يشـأ أن يقطـع علـى الأفريقـي وزوجته ماكانا فيه… انفلتت ضحكة صغيرة من فم الامرأة النشوى على المقعد المقابل، وسمع الأفريقي يهمس محذراً: «إ شـ شـ ش..». «ص20».
إنّ من المؤكّد أنّ المغازلة بين الزوجين قد أثارت قواه المتهالكة وأشاعت التهيّج في أوصاله، ومن الطبيعي أن «يسحب» هذا المشهد، بعملية إشراط لاشعوري وليس بالإشراط «البافلوفي»، ذكرى ذات طابع جنسي من مخزون ذاكرة العجوز «بتلر» تتلّبس بأغطية العذاب من تجربته المريرة التي يصوغها القاص الذي «تماهى» مع بطله وانسجمت دوافعه الخاصة، ككاتب تقدم به ا لعمر مثل «بتلر»، مع الاستثارة الحسيّة التي ولّدتها خلوة الزوجين في ظلمة المقصورة. ولهذا استدعى الكاتب تلك التجربة، تجربة «تعذيب» الأسير واستثارته بامرأتين عاريتين، ليضرب عصفورين بحجر لا شعوري واحد.
عندما نقل القاص الواقعة الفعلية إلى عالم النصّ، قام بتحويرها وتطويرها وتطويع تفصيلاتها لمتطلبات الفن القصصي فعرض حكاية العجوز في ثلاثة أقسام، هي:
1- الفتى الصغير.
2- الأفريقي وزوجته.
3- رنين الأجراس.
1- في القسم الأول عرض لنا حالة بطله «توم بتلر»، العجوز الأسكوتلندي، وهو يبحر بعبّارة من ميناء «دوفر» البريطاني إلى «أوستند» في بلحيكا، فهو متهالك القوى لا يقوى على الصعود والنـزول على السلالم الحديدية ليرى البحر بكل سعته وامتداده من سطح السفينة مثل الآخرين، ولكنه كان يشعر بالبهجة، كما لو كان يجلس وسط نادٍ كبير، أو يشارك في مهرجان، ويقدم القاص لنا ملاحظة عرضية هامة عن شعوره بالسعادة فيقول: «لأول مرّة – منذ زمن طويل – يشعر بالبهجة لوجوده بين الناس»، أي أنّ «بتلر»، قد أمضى العقود السابقة من حياته بعد خلاصه من الأسر، منعزلاً عن الآخرين ولا يشعر بالارتياح حين يكون بينهم، وهذه من علامات الخراب النفسي الذي سبّبته الفاجعة التي تعرّض لها. فالعائدون من تلك الفاجعة يشعرون بدرجة كبيرة من الاغتراب عن ذواتهم وعن الآخرين، وقد يصل الأمر حدّ تحطم أواصر حياتهم العائلية. وفي استهلال القصة يبين لنا الكاتب أنّ «بتلر» قد خرج من إسار عزلته بفعل إلحاح زوجته عليه بالسفر.
خلال الرحلة يجلس أمامه شاب صغير «يبتسم طوال الوقت، وكانت خصلة من شعره الأشقر تسقط على جبينه كلما تحرك، فينفضها إلى الوراء بحركة سريعة من رأسه كما تفعل فتاة في مقتبل العمر» «ص9».. وعندما يبدأ «بتلر» بالحديث مع الشاب الجميل يقدم لنا القاص ملاحظة أخرى هامة يقول فيها: «الحديث مع الناس يجعل المخاوف تبدو أقل حدّة»، وبعد أسطر قليلة ينقل إلينا جانباً من مشاعر «بتلر» بعد أسئلة وأجوبة مع الشاب فيقول: «لم يرد على الفتى بشيء ، راح يحدق إلى البحر ساهماً.. من وراء الزجاج السميك.. الحديث مع الناس يفتح – أحياناً – الجراح القديمة..» «ص10».
المخاوف والجراح القديمة نامت بعين واحدة كما يقال توقظها المثيرات البسيطة فترفع رؤوسها السود ويكون ثمن هذه اليقظة باهظاً. هذه اليقظة غير مباركة، تثير القلق والخوف القديم في نفس «بتلر» وتحفزّ غيلان التجربة الكريهة، تبذل الضحية الناجية من الفاجعة جهوداً مستميتة للابتعاد عن مسرح التجربة الكارثية القديمة، ولهذا نجده يؤجّل زيارة صديقه و«جلاّده» السابق في ألمانيا من سنة إلى أخرى. «زمن طويل مرّ وهو يؤجل هذه الزيارة من سنة إلى أخرى. كان يتذرع بأعذار مختلفة أمام زوجته الحائرة، ولكنه لم يذكر لها أبداً السبب الحقيقي الذي كان يجعله يتردّد في الذهاب، خشية أن تظنه جباناً، أو مصاباً بمرض نفسي، وتقترح عليه الذهاب إلى طبيب. كانت تنتابه المخاوف عند التفكير برؤية ألمانيا مرّة أخرى.. مخاوف غامضة.. مدّت جذورها في أعماق نفسه خلال تلك السنين السوداء». «ص11».
إن هذه الجذور الأفعوانية تغوص في تربة روح الضحية حتى بعد انتهاء الفاجعة زمنياً ومكانياً. وقد تكاثرت في أعماق «بتلر» مثل رؤوس الميدوزا خلال الأربعين سنة التي تلت إطلاق سراحه، ولهذا نجده لا يشعر بالخوف والتوتر من مجرد فكرة العودة إلى ألمانيا فحسب بل يحاول تجنّب أيّ مثير يذكره بها أيضاً. بالنسبة له يعمل (الرمز) عمل الوحش الأصلي تماماً، بل قد يفوقه أحياناً، فالأصل كان محدداً ويطلق سهامه المدمّرة نحو الضحية من الخارج، أمّا الرمز فإنه يشعل التهديد من الداخل، وأنّ أكثر أنواع المعارك دماراً هي التي تكون ساحة عملياتها نفوسنا الممزّقة. إن أفظع حالات التهديد تحصل حين يكون عدوّك رابضاً في داخلك ويشكّل جزءاً من واقعك النفسي. والأشد بشاعة أيضاً، هو عندما يثخن هذا العدو نفوسنا بالجراح العميقة دون أن يكون لدينا حول أو قوّة لردعه أو لجم عدوانه. فوق ذلك فإن تأثير المحفزات التي تنشط همّة هذا الخصم الشرس يتم «آلياً» و«اقتحامياً» فيجعل حياتنا جحيماً في اليقظة والمنام على حدّ سواء، إن بإمكانه، هذا العدو الداخلي، أن يخرّب علينا فرصة للبهجة والاندماج التلقائي في الحياة البشرية الدافئة. وهذا ما حصل لـ«بتلر»، فعندما سأل الشاب الصغير الجميل عن وجهته وقال له إنه عائد إلى وحدته العسكرية في ألمانيا وعلم أنه جندي متطوع في قوات حلف الناتو، «أراد أن يقول له: أوَلمْ تجد حرفة أخرى؟» «ص10».
لقد انزعج لأن ذكرى الجندية نهضت في ذهنه بكل مآسيها وعذاباتها والفاجعة الشخصية التي تضمنتها. حصل هذا الانزعاج رغم أنّ الشاب كان يرتدي ثياباً مدنية، بالإضافة إلى ذلك فإن رحلة الشاب من بريطانيا إلى ألمانيا تذكره برحلته القديمة نفسها. لقد خرّبت الجندية حياته وضيّعت أجمل سنوات عمره بسبب الحرب الطويلة. سمع الفتى يسأله وهو ينهض من مكانه: «أنا ذاهب إلى حانوت السفينة.. هل آتيك بشيء؟ بيرة؟ سجائر»؟!
قال له: «لا.. شكراً».
غريب كيف ماتت رغبته في التدخين دفعة واحدة..»
إنّ عرض الخدمة الذي قدمه له الشاب أزعجه أيضاً. وهو يبّرر موت رغبته في التدخين بأن إدمانه على التدخين هـو الـذي جعله يعرّض نفسه إلى المهانة. وهذا تبرير مراوغ يقلب الحقائق ويوقف الأمور على رأسها، فمن المفترض أنّ خلاصه من الأسر يمثل فرصة للتعويض عن الحرمان الذي عانى منه، حيث يستطيع في ظلّ عودته إلى الحريّة والحياة المدنية أن يدخن بالكيفية التي يريدها، لقد ترك واحدة من أهمّ المتع في حياته حين تيّسرت له الفرصة لممارستها، وكان شغوفاً بها حدّ تحمل المهانة والأذى حين كانت ممنوعة عليه وهو في معسكر الاعتقال، فأيّ المكانين وأي الزمانين هو الملائم لإشباع رغبته؟ لقد ترك عادة التدخين إلى الأبد بعد أن أصبح حراً، لكنه في الواقع لم يستعد حريته النفسية الكاملة، لقد أكره على التخلي عن رغباته ومنها التدخين. أصبحت السيجارة مصدر تهديد لأنها صارت من مسبّبات يقظة شياطين الداخل. وحتى على المستوى السلوكي العام نجده يشير إلى معلومات تشير إلى «نكوصه» النفسي واعتماديته الشديدة: «منذ أن عاد من الأسر قبل أكثر من أربعين عاماً وزوجته تعامله كما لو كان طفلاً مريضاً. وكان ينتبه إليها أحياناً وهي ترنو إليه في أسى.. عندما تراه يجلس صامتاً.. ساهماً.. ساعات طويلة». «ص12». يختم القاص القسم الأول من قصّته بالقول: «كانت الحركة على ظهر السفينة قد هدأت، وخفّ اللغط، بعدما استنفذ المسافرون ما لديهم من كلام، وظهر التعب على الأطفال.. وكان هو يشعر بشيء من الحزن وهو يتأمل الفتى النائم» «ص13». كان يتمنى لو بقي هذا الشاب الصغير في وطنه ولم ينخرط في سلك الجندية التي لا تعني بالنسبة له سوى الموت والخراب المؤبّد. في هذا القسم استخدم القاص ما يمكن أن نسميّه بـ«مرتكزات الإسقاط الانفعالية» وهي أشياء حيّة أو جامدة يوظفها الكاتب في قصّته من أجل أن يسقط عليها جوانب من الحالة النفسية الانفعالية لشخوصه أو لتعكس جوانب من الموقف النفسي الكلي في القصة «صراعاتها، تجاذبات علاقاتها ومكبوتاتها..إلخ». وقد كان طائر النورس، في هذا القسم، هو مرتكز الإسقاط الانفعالي في هذا القسم، فمع بداية رحلة «بتلر» وبهجته النسبيّة يقول القاص: «العبّارة تشق صفحة البحر في هدوء.. يرافقها سرب من النوارس يخفق بأجنحته البيضاء في الشمس.. فوقها وعلى جانبها». «ص9». تعكس النوارس السكينة العامّة في أجواء القصّة وكشارة سلامة للرحلة المقبلة، ولكن عندما تبدأ المخاوف تستولي على نفس «بتلر» وينـزعج من ذكرى الجندية من خلال إجابة الشاب الصغير/الجندي ويحدق إلى البحر ساهماً ويشعر أن حديثه مع الشاب قد فتح جراحه القديمة، يقول القاص: «كانت النوارس قد اختفت.. عادت إلى اليابسة، غير نورس وحيد ظل يحوم حول السفينة في إلحاح».. «ص10». وحركة النورس الوحيد هي تعبير عن وحدة «بتلر» وعزلته المضنية، أمّا عندما «تنضج» آلام «بتلر» وتعود الذكرى الفاجعة التي طالما تهرّب منها، يقول القاص: «أصبح البحر امتداداً لا حدود له، وكانت السماء لا تزال صافية تقريباً ولم يعد طائر النورس الذي كان يلاحق السفينة وحده، لعلّه حط على ظهرها ليستريح بعد أن أجهده التعب». «ص12». وهي حركة عكست فرصة لالتقاط الأنفاس وهدوء الانفعال، والشاب يحتسي البيرة وهو يتناول طعامه وشرابه. وفي هذا القسم أيضاً بدأ القاص بمحاولات تمهيدية لترميم الواقع النفسي المتداعي لبطله من خلال إشارات ومواقف تعزّز في داخله الأمل وتشيع مسحة من التفاؤل في نظرته إلى الحياة والعالم وصولاً إلى المراهنة على إنسانية الإنسان، هذه المراهنة التي ستنسيه وحشة جلاّديه السابقين الذين ذاق الأمرّين على أيديهم. هناك ركاب السفينة من رجال ونساء وهم يتحدثون ويضحكون ويشربون وكأنهم في مهرجان، وهناك الشاب الصغير الجميل الذي يعرض عليه خدماته وهو يبتسم دائماً ويلاحق الفتيات بنظراته ثم يغفو مثل طفل صغير، ولكن الأهم هو الموقف الذي صمّمه لمد الجسور بين «بتلر» وجلاّده/ صديقه السابق، فقد أشار إلى أنّ هذا الصديق هو الذي كان يلحّ على «بتلر» لزيارة ألمانيا وتحقيق لقاء بينهما، كما أنّ هذا الصديق قام بإرسال ابنته «مارتا» لتقيم مع «بتلر» وزوجته أكثر من ستة أشهر لتتعلم اللغة في بريطانيا، وقد رعتها زوجته وأحبتها كما لو كانت ابنتها الوحيدة وعندما تركتهما وعادت إلى أهلها شعرا بفراغ كبير، لكنها ظلت تتراسل مع زوجته. وعن طريق ذلك يحاول القاص تمتين وشائج الأخوة الإنسانية بين «بتلر» وصديقه والتأكيد على أنّ التصالح بين الضحية والجلاد ممكن بعد الخراب العاصف.
2- في القسم الثاني الذي حمل عنوان «الأفريقي وزوجته» يصعّد الكاتب من جهوده البنائية التي تحاول تجميل صورة العالم أمـام عيـني «بتلـر» اللتـين لم تعدا تريان غير الجانب المظلم من هذا العالم. ترك القاص، بقصدية ودراية، امتداداً من القسم الأول يعزّز الأواصر السردية بين القسمين: الأول والثاني، تمثل هذا الامتداد في تأخر «بتلر» عن قطاره في المرحلة الثانية في رحلته، لأنّه أضاع بعض الدقائق في محاولة إيقاظ الفتى الثمل.. «ولكنه اضطر في النهاية إلى تركه في مكانه يتمطى ويتثاءب وينظر حوله في ذهول.. كان يداخله شيء من القلق عليه، ولكن ماذا كان بمستطاعه أن يفعل، كان عليه أن يلحق بقطاره».. «ص13».
في القطار، جعل القاص بطله يتشارك في المقصورة مع زوجين: أفريقي أسود وألمانية بيضاء شقراء. كان «بتلر» يعتبر مثل هذه الزيجة عجيبة من عجائب الدنيا. «كان قيام رجل غير ألماني بمضاجعة امرأة ألمانية يعد عملاً شائناً. أما أن يضاجعها أفريقي أسود فتلك كان جريمة بشعة. ولكنهم كان يجيئون بالنساء قسراً، من البلدان المحتلة، من أجل متعة الضباط الألمان». «ص20». والأكثر إثارة للدهشة في نفس «بتلر» هو أنّ الأفريقي أخبره بأنهما – هو وزوجته – ذاهبان لزيارة أهل زوجته. وقد تعمد القاص أن يظهر الزوجين «المتناقضين» وهما في غاية الانسجام والرضا والسعادة. وهذا دليل شكّله القاص ليثبت «لبتلر» – ولنا أيضاً – أن العالم مازال بخير وأنّ الفوارق التي أسستها السياسات والأيديولوجيات بين البشر على أساس أعراقهم وألوانهم يمكن أن تزول، وبالتالي – وهذا هو القصد النهائي للقاص. فمن الممكن أن تلتقي الضحية بجلادها مادام الاثنان هما ضحية تلك السياسات والأيديولوجيات نفسها. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ العالم الآن لا تسوده الأحقاد وروح العداء بل الألفة والمسالمة. الكل يساعد بعضه البعض الآخر. لقد أبدى له الزوجان الكثير من ألوان المساعدة وكانا حريصان على راحته، حتى أنهما خرجا يدخنان في الممر حين عرفا أنه قد ترك التدخين منذ زمن بعيد.. وقد صمّم القاص مشاهد هذا القسم بذكاء بحيث جعل المواقف الإيجابية المحملة بالروح الإنسانية التي تجري في حاضر القصة تستدعي وتوازي الممارسات السلبية التي تبزغ في ذاكرة «بتلر» الجريحة. فالزوجان يدخنان بحرّية ويعرضان عليه علبة السجائر في الوقت الذي يتذكر فيه حرمانه من التدخين في معسكر الأسر، والمهانة التي يتعرض لها الأسرى حين يلتقطون أعقاب السجائر التي يتعمد الجلادون رميها ثم سحق يد الأسير التي تمتد نحوها خلسة بكعاب الأحذية الثقيلة، وفي هذه اللحظة يسترجع موقف صديقه/ جلاده الذي منحه القاص اسم «هانز هوفمان» الذي كلمه بنبرة صديقة لا تُصدق وألقى له بسيجارة كاملة في بادرة إنسانية لا يمكن توقعها وسط أجواء العذاب والعدوان. لكن قبضة الخراب الخانقة لم ترتخِ تماماً وظلّت شياطين الفجيعة تتقافز كلما سنحت لها الفرصة وتوفّر لها المثير المناسب. فمشهد الزوجين وهما يدخنان وعرض التدخين الذي قدّماه له أهاج جروحه القديمة وأعاد إليه الذكريات المؤلمة. ومازال كيان «بتلر» هشّاً أمام «الرموز» المهددة. فعندما يُطرق باب المقصورة ويدخل المفتش بقي «بتلر» مضجعاً لا بحب أن يرى رجال بثياب دكناء. هذه الثياب تذكره بملابس الحرس النازي وتستدعي، بالتالي، سلوكهم الوحشي. وفي موقف آخر: «.. دخل المقصورة رجل آخر.. سمعه يكلّم الأفريقي باللغة الألمانية. ولمح ساقيه تنتصبان على مقربة، فانقبض قلبه».. «ص22». لقد أمضى سنوات اعتقاله مطأطأ الرأس ومنحنياً وكلما همّ برفع بصره اصطدمت عيناه بمشهد ساقي الحارس الضخمتين تنتصبان بجانبه وتكادان تلامسانه. وعندما شاهد الزوجين الشابين يضحكان بانطلاق: «فكر مع نفسه وهو يتأملهما.. ما أروع زمن الشباب وما أقصره، أما هو فقد أضاعوه عليه»، لم يكن قادراً على نسيان أنّ من عذّبوه كانوا وحوشاً، وكان الصوت يضج في أعماقه: «وحوش.. وحوش.. سمع عجلات القطار تردّد وراءه في ضربات رتيبة متواصلة.. وحوش.. وحوش.. وحوش». «ص16» ناسياً أنّ منقذه الحارس كان يلبس الثياب نفسها، ويحمل مسدساً كبيراً وعصا سوداء مثل الحراس الآخرين، ولكنه كان إنساناً فريداً، كان تعرّفه على الحارس «هانز هوفمان» هو الذي ساعده على العيش والتّحمل.
3- في القسم الثالث والأخير الذي حمل عنوان: «رنين الأجراس»، ففيه لحظة الذروة، لحظة لقاء «بتلر» بصديقه/جلاده القديم «هانز هوفمان». وفي بداية هذا القسم يستمر القاص في توكيد وحدة قصته ويثبت أنّ المبدع المقتدر هو الذي يمتلك انتباهة حادّة ونظرة شمولية تجعله لا «ينسى» أيّاً من شخوص قصته الأساسيين.
ها هو العجوز «بتلر» ينـزل من القطار وقتياً ليشاهد جندي «الناتو» الصغير بخصلة الشعر الساقطة على جنبيه، كان مثل طفل يلهو فتمنى «بتلر» لو أنّ هذا الفتى بقي في وطنه معبّراً عن سأمه من حرفة هدفها الأساسي هو احتراف فن مواجهة الموت. ولكن هذا جانب من الهدف الأكبر والأسمى للكاتب، هدفه المتمثل في رسالة الأديب الإنسانية المقدّسة والتي تتجسد في المراهنة على إنسانية الإنسان ونبله، وإثبات أن هناك بذرة للنماء وسط أشد ظروف العدوان قساوة. في المحطة راح «بتلر» يتأمل بناءها الضخم ويفكر «كم يبدو الناس صغاراً تحت هذا السقف المهيمن!» هو يتساءل: «يعرفون كيف يبنون إذا أرادوا»، الناس في حركة عمل ونشاط هائلين، «لمح بناءً ضخماً تعلوه رقعة كبيرة كتبت عليها كلمة واحدة «مرسيدس». لقد قام الإنسان بإعمار ما خرّبه من منجزاته بفعل قسوته وساديّته. ها هي المراعي الخضراء تمتد أمام عينيه، وها هو – وهنا بيت قصيد الكاتب – «بتلر» يجد نفسه من جديد في ساحة جحيم معاناته السابقة. «داخله شعور بأنّ تلك المخاوف الغامضة، التي شلّته دهراً هي ليست سوى عرض مرضي من بقايا سنوات الأسر الطويلة». «ص25». وهو محق في ذلك وإن كان وصوله إلى هذه الحقيقة قد تأخر لعقود طويلة – أكثر من أربعين عاماً – وكان ثمن هذا التأخير المزيد من المعاناة والألم والوحشة. ينظر من خلل نافذة القطار المندفع بجنون فيشاهد أبقاراً سمنية، بضروع ملأى وهي ترعى مطمئنة وفي عنق كلّ واحدة منها جرس كبير. «وكان لرنين أجراسها وقع غريب على الأذن، وهي تفرّ مذعورة على غير هدى، بين هدير الطائرات المغيرة، ودوي انفجارات القنابل، ووسط كل ذلك.. الخراب». «ص25». ورغم هدير القطار المجنون، لا تفزع ولا تجفل. ملعون عدوان الإنسان فقد كان قادراً على بث الرعب في نفوس حتى الحيوانات المسكينة، فكيف الحال بالإنسان نفسه؟ إذا كانت الأبقار تفرّ مذعورة ويتصاعد رنين الأجراس المعلّقة في أعناقها كشارة للموت والخراب، فـإن ما حصل «لبتلر» وباقي رفاقه الذين عاشوا فاجعة الأسر هو أنّ الحرب قد علّقت الأجراس، السوداء المدوية في أعناق أرواحهم المذعورة المتلفتة أبداً فصارت تدق وتزعق ليل نهار محطمة وجودهم ومخربة حيواتهم. لكن «تغيرت كثيراً هذه الأبقار! كل شيء تغير.. ولم يتبق من آثار ذلك الزمان غير ندوب قديمة في نفوس الشيوخ أمثاله، و – أحياناً – في أجسادهم.. وحشد من الذكريات ما عادوا يرغبون الحديث فيها. هذه الأبقار التي ترعى على بعد قليل من سكة القطار، ترى كيف يبدو رنين أجراسها الآن ؟ كم يحب أن يسمعه». «ص25» وهنا تتجلى «فلسفة» عنوان القصّة: في الهواء رنين أجراس، لم يكن في هواء «القصة» أي رنين للأجراس، وكان العجوز «بتلر» يتمنى أن يسمع رنين الأجراس المعلّقة في أعناق الأبقار، ومن المؤكد أن هذا الرنين سيكون هادئاً ولطيف الوقع لأنه يصدر عن حركة أبقار مطمئنة في مرعاها في مرحلة السلام بدلاً من ذلك الرنين الغريب لأجراس الأبقار المذعورة في مرحلة الحرب. وبالتالي فإن هذا العنوان سيكون مضلّلاً ومورّطاً إذا أخذنا معناه المباشر على طريقة «ثريا النص» الجامعة المانعة، إن المعنى الكامن والعميق لهذا العنوان، وبعد أن قطعنا هذا الشوط الطويل في تحليل وقائع القصّة – يشير الى رنين أجراس الرعب والعذاب المعلقة في أعناق أرواح ضحايا الفاجعة كما قلنا، وهو رنين مُنفر ومقلق يخنق «هواء» أجواء النفس البشرية للناجين الذين لم يستطيعوا النسيان وظلّت مخاوف الشدّة الفاجعة تتطفل على عقولهم كما يمتص العلق دم ضحيته، لكن لابدّ من النسيان، وأن نكافح من أجل النسيان كمنفذ وحيد للخلاص، ويجب أن نتعاون جميعاً من أجل النسيان وطيّ صفحة العذاب، وهذا هو الدرس الإنساني الهائل الذي يقدّمه «الصقر» لنا وهو يختم قصّته الرائعة، ولكنه يضعنا أمام معضلة خطيرة جديدة ليس هنا مجال بحثها ومفادها أنّ النسيان يبدو أكثر يسراً على الجلاّد منه على الضحيّة. يصف «الصقر» لحظة لقاء «بتلر» بصديقه في المحطة في نهاية القصة قائلاً: «كان «بتلر» يقف حائراً عندما لمح كهلاً مقبلاً من بعيد، وهو يجهد ليجعل خطواته أسرع قليلاً، وكان يحمل رقعة في يده، لعله هو، انتظره حتى دنا ، كان الاسم واضحاً، ولكنه تعرف عليه من نظرة عينيه، هو نفسه، صديقه القديم «هانز هوفمان» فالزمن مهما عبث بملامح وجهه فإنه لن يستطيع أن يغيّر من تلك النظرة التي عرفها هو جيداً في تلك الأيام. انبسط وجهه ومشى يلتقيه، طوى «هانز» الرقعة ودسها في جيبه، ثم بسط له ذراعه:
– وأخيراً جئت!
وتعانقا
– ولكن أين بقية أمتعتك؟
أراه الحقيبة والكيس
– هذا كل شيء.. فما عاد للمقتنيات الكثيرة من معنى.. منذ أن..
لكن حارسه القديم قاطعه وهو يمسك بذراعه في مودة:
– حاول أن تعود إلى العالم يا صديقي.. وأن تنسى.. حاول أن تنسى..
ثم قاده برفق،وخرج به من المحطة.
ملاحظة بسيطة: في أثناء وصف القاص لمعاناة بطله وكيف ضربه الرقيب الجلاد بالسوط وقال له: «أربايته.. دوشفاين»، لم يفسر لنا معنى هذه الجملة الألمانية في حين كان قد فسّرها في كتابه «وجع الذاكرة» وهو يشرح الواقعة الفعلية، ومعنى هذه الجملة هو: «اعمل أيها الخنـزير».
المصادر:
1- وجع الكتابة، مذكرات ويوميّات – «مهدي عيسى الصقر» بغداد – دار الشؤون الثقافية – 2001.
2- أجراس، أعمال قصصية (1950 – 1988) «مهدي عيسى الصقر»- بغداد – دار الشؤون الثقافية 1991.
3- أصول علم النفس – أحمد عزت راجح – من دون تاريخ .