كان الموت يزيح نقابه في كل لحظة ثم يتوارى بعيدا خلف عواصف من الخوف,وبعد كل لحظة يستيقظ تاركا اصواتا مفزعة أشبه بالعواء او تثاؤب كائنات تعيش في ممالك مجهولة,ربما سمعت شيئا مثلها خلف القضبان,او في المقبرة التي تلي بناية السجن. تلك الأصوات لانسمعها الا حينما يداهمنا السأم فنعرف أن في الغد ثمة قوائم جديدة بأسماء من سينفذ فيهم الاعدام.
كنت اتحسس رقبتي بصمت مفكرا في حبل المشنقة,وكيف يتسنى له ان يجهز على تعاستي بلحظات قد تطول او تقصر وانا مبحر في أعماقي, لكنني كنت لا ألبث إلا ان اشعر انني مكبل بالخوف فاهمس لنفسي:
– هنا لايدفن المعدوم حسبما يريد ولا تسلم جثته الى أهله، بل يدفن في مقبرة تلحق بالسجن ويعطى رقما سريا في سجلات سرية .
ترى اي رقم ينتظر هذه الرقبة النحيفة؟!
كان منظر القضبان المتصالبة امامي يصنع من كل شيء خصما لدودا , من الرتاج الى الاقفال حتى هواء الزنزانة, فتكوِّن أمامي لوحة كابية يتدحرج فيها السام والفزع على كل ثغرة مسلوبة النور, لأعود بعدها اتساءل مرة اخرى:
-هل كانت هذه اللحظة لحظة خوف عابر ام هي عالم متحجر في ذاكرتي بدأ يتحرك الان ام هي عواصف تائهة عثرت بين عيني.. ربما صدقّت بهذا التحدي لمرونة الوعي..ولكن ألم يكن الموت حدثا محفورا في تلافيف الدماغ وعظام الجبهة؟
كل هذه التداعيات كانت تبرق وتخبو في جو الزنزانة المشبع بالرطوبة والخوف.لكن حكايتي مع السأم قيض لها ان تنتهي يوما ما حينما وَقعَ قلم القاضي على الارض بعدما حدق بحقيبة الدولارات, خمسة ملايين دولار نفحها ابي رزما من فئه المائة دولار في كل رزمة تحدق صورة الرئيس فرانكلين بفمه المزموم وكأنه يختزن البصاق باحثا عن جبين املس. وهكذا بقيت حيا شاهدا لم اشنق، عقد الخوف على روحي اربعا وستين عقدة بمدة شهرين واربعة ايام لم اذق الموت لكني كنت اهرول في اقبيته طوال تلك الفترة .
قبل قرار العفو الذي أستحصله أبي,وفي فترة مكوثي في قاطع الإعدام كنت قد تحولت الى مسخ يتحمل كل شيء حتى مراقصة الجرذان او النوم في صدفة سلحفاة ميتة او الاستئناس بالنوم جنب هياكل عظمية تتحرك …كل شيء فسد في بدني حتى دمي الذي اراه يسيل باهت اللون مالحا تتورم منه الجروح.
لم يبق من فتات روحي سوى شبحي الآدمي الذي يود تحطيم كل شيء , لقد تحول بدني الى فقاعة هوائية تنفجر وتتجدد كل لحظة ….. الى ان وجدت كسرة المرآة, مرآة صغيرة حجمها بحجم راحة اليد لا اعرف من أين أتت كانت مثل صفحة سريةسقطت من كتاب ممنوع,انها صغيرة كنت استطيع اخفاءها في جيبي او في ياقة قميصي,تحسستها فبدت كأنما ارتسمت على حافتها المقوسة المعينية لعائن السجن والاقدار لتتحول عندي الى نافذة سرية انظر من خلالها الى لعبة الاستهانة بأشلاء الانسان,فكنت أضعها خلسة على حافة النافذة الكونكريتية الموصدة لتتكئ ازاء فتحتها المستعرضة التي تفغر فاها لكي يمر من خلالها هواء الخارج المشبع بالموت ويدخل ليستبدَل بهواء الخوف الذي لامس وجنات من ينتظر الموت, كنت أتأمل تدفق الصور البشعة المنعكسة من خلالها,أعثر بصور المعدومين وتشنجات اوداجهم وتحديق عيونهم في الفراغ العدمي وأبصر لون الفزع الهارب منها وانظر الى ارتعاد أبدانهم حتى حركة نزع الروح فتظهر في المرآة مثل انسياب خيوط مستقيمة هادئة لكنها صور سالبة تشبه لون الدخان. كنت تعلمت التحكم بوضوح الصورة بالتحكم في انحناء المرآة التي كانت ترصد كل مايحدث من مشاهد مفزعة في غرفة الإعدام القريبة , فكانت تأتيني مشاعر الموت محمومة طازجة تارة مثل البرق وتارة مثل ضباب اسود رسائل متموجة من وجوه المشنوقين بألسنتهم المبَتَلَعة وعيونهم الجاحظة.
كان باب غرفة الاعدام واسعا مشرعا دوما فلم اره موصدا,وفي يوم من الايام بينما كنت استرق النظر بمرآتي الصغيرة الى تلك المشاهد المفزعة التي تحدث في يومين اثنين في الاسبوع وهما يوما الاحد والثلاثاء كان العبث في المرآة في تلك اللحظات مثل العبث بفك طلاسم مفزعة تستنفر الصمت بهدوءفلا يصل الى زنزانتي الا عشر من شقاء تلك الوجوه. في البدء كنت اخاف من تلك المناظر لكن مسحة الغموض عند السجناء كان تستنفر فضولي ,فذات يوم رأيت شابا يتلو آيات قرآنية استخف به احد الجلادين حتى دفعه بقوة الى الأمام وهو معصوب العينين فتماسك الشاب نفسه حتى بصق في الهواء باحثا عن وجه احد الحراس .
كانت الصور المنعكسة تتراقص في المرآةعندما لمحت ارتجاف رجلي أحد الضباط وهو يقف منتصبا بقامته الفارعة, لقد أرعبتني ملامحه وهو يحدق في فضاء غرفة الإعدام ساهما وكانت يداه ترتجفان مثل يدي عجوز خائف بينما اصطبغ وجهه الجامد بلون الكركم, كنت اتابع هذه المشاهد ويكاد راسي ينشطر الى فلقتين فاشعر انني بلا وجه، سُلخ جلدي من الأسى وكأن كل ما احمله من ماض سياسي هوى في قاع من الحيرة وكل ثقافتي اليسارية تناثرت ملحا على جرح في عيني حينما حدقت بوجه غالب النايف وهو يتصفح وجوه الحرس بصمت كمن يطل من تلال خضراء على مستنقع آسن، كان يقف شامخا ولو سقطت على ام راسة نقطة ماء لانشطرت الى نصفين متساويين كان وجهه صحيحا تشوبه حمرة هادئة بينما كانت انفاسه تتصاعد بهدوء وتخبو وبدا كانه يلهو بعالم غير عالم السجن والاعدام,أدمت النظر الى صمته بضعة دقائق, رأيته يرفض العصابة السوداء التي قدمها الجلاد…كنت اشعر ان الريح تصغي لهواجسه,فوقف على موضع مرتفع لكيما يضع هو الحبل في عنقه, ثم طلب من الجلاد ان يريح وثاقة ليستدير قليلا ليضع يده اليمنى على رأسه, كنت انتظره أن يلعن جلاديه او يتلو شيئا لكنه أطرق صامتا يتمتم بشيء لم ادركه وضع يده مرة اخرى على صدره وأغمض عينيه ربما كان يرى شيئا وهميا متيقنا منه … لاادري كيف شعرت بالذهول حتى كادت كسرة المرآة أن تسقط من يدي , ولأول مرة في حياتي شعرت كأني أسمع صوتا سماويا يناديه: تعال…
كانت الشمس اذا دارت دورتها وابتلعها الظلام ….. تنتهي مراسيم الإعدام فتنسحب معها ارواحنا لترجع الى اجسادنا مرة اخرى ويستوي بعدها الصمت في الزنزانة لتتبعثر فيها الكلمات بين وجوه الجالسين ….فتتحول اشبه بذبذبات متقطعة تهتز في بقعة الخوف التي تبتلع الاجساد لتتحول الى أصوات مبهمةلا تفصح الا عن لون اليوم القادم وما يُشطبْ به من أسماء وتطيح به رؤوس.
كان هاجس انتظار الموت مثل مغص كلوي يصبغ كل الوجوه الشاحبة امامي بلون الصدأ إلا وجه سيد عدنان فقد كان يبدو صامتا متزنا مثل صدر جواد اشهب يعدو على أرض من الصقيع وكأنه هو الحي الأوحد بين كل هؤلاء الموتى من السجناء فيفيض صوته الرخيم مجتازا لغة الصمت التي تنتقل من وجه الى وجه مكتومة بشفرة لايدرك اسرارها الا من يقترب من الموت و لا يعكر صفوها الا هواجس احلام لم تتحقق , فكل زوايا الزنزانة كانت تصمت ولا تجيب بصوت الا صدى مبهم.
بينما كان الشعور بالضجر يستيقظ بين الفينة والأخرى من بين رماد اللحظات الهاربة من أفق بعيد منسوخ من صورةالأزل, لذاصرنا مثل الممسوسين ندور حول ظلالنا في دهاليز لا ترى الا مرارة القدر فنتساءل كالمعتوهين لنظفر بجواب طعمه مثل ابتلاع التراب …
لما يتنفس الآخرون الصعداء ونحن ننتظر الموت ؟.
كان الشعور بالموت في البدء هو الفناء المساوق للجنون وهو مسار خفي نتحول فيه الى ذكرى ما تلبث ان تغوص بالماضي السحيق اي إني اتحول الى رقم مثل اوتوحيكال او اي ملك سومري مات قبل خمسه الاف سنه قلت:
-حتما اني ممسوس
بعد بضعة اسابيع صرت احمل روحا مثل روح الجزار تتعايش مع الموت مثل حاجة بيولوجية ضرورية مثلها مثل النوم والطعام لكي يتوازن هذا الواقع مع قيم المادية الديالكتيكية التي احمل الكثير منها.
لكن كسرة المرآة كانت هدية الاقدار للنهار القاتل, اما في الليل فكنت اسرح فيه بخيالي ممتطيا لحظات الصمت حيث ينام البعض ويصلي الآخرون وكان الليل مثل بحر هادي لم تعد تسمع فيه صيحة أو زفرة الا همهمات بعض المتدينين وهم منشغلون بالصلاة والاستغاثة بأسماء لم اسمع بها من قبل,اسماء انبياء واولياء صالحين كان ينفرد منهم صفاء المندائي وهو يتجة قليلا نحو اليسار من الزنزانة بوضع لم أعهده عند باقي المصلين كان يتمتم قليلا ثم يردد( بشمي آهيون ربي اسوثا )اما انا فكنت استرجع منظر الحبل واتحسس خشونته واتخيل لونه الشاحب واستشعر قوته وكيف انه حبل متين ينتهي بأنشوطة محكمة تلتف على الرقبة وما ان يستحكم التفافها حول العنق حتى تتهشم الفقرة الاولى من فقرات العنق وتحدث خدوشا وكدمات سوداء في الرقبة ومن ثم تقطع الحبل الشوكي وتجهز على انفاسي فينتهي عندئذ الحزن وتنمحي الخيبات .
كنت امارس لعبه الموت هذه بمازوشية ادركت اني بدأت استمتع بها بينما تأتيني لحظات اخرى اتمنى فيها ان اعدم رميا بالرصاص فربما رصاصة واحدة في الجبين أو بين الحاجبين ستحدث ظلاما مفاجئا وتَلِفُ الوجود من امامي بغلالة من ضباب اسود لأتحول بعدها الى شيء اشبه بكائنات الاعماق كتلة لحمية لاترى ولاتبصر.وبعد لحظة يباغتها الموت فيسلب منها ذكريات الطفولة ولون الآمال والغضب،وهكذاستخبو الحياة فلا اترك من اشيائي سوى هذا البنطلون الاسود والقميص البائد ولا فرق بيني وبين اي جثة هامدة من جثث الاقوياء ورجال السلطة الحاكمة وذكرى جدي السومري كاتب اول رقيم طيني في اور.
كان جو الزنزانة حياة نعيشها بين فكي الموت اذ تنغرز انيابه في ترقوتي وحنجرتي لأتابع بعده رحلة طويلة لا ادري اين ستنتهي كمن يبحث عن جسد آلهة نائمة في فضاء ضبابي او عالم متحجر… انه انتظار الموت او التسابق نحو اللاجدوى.
المساء بارد رطب في الزنزانة ,انه الخامس عشر من كانون الاول في سنة 1998 ميلادي .
فضاء خانقا كسماء المقابر لازالت تتزاحم فيه مخالب الموت , والى الان امضيت ستة اسابيع واعتدت ان انتظر في كل يوم صباحا كالحا لكي اتبادل مع الموت مكان الوجود هو ام انا ؟ كانت اللحظات تتصل الواحدة بالأخرى,وتمر الساعات ثقالا مثل نهار المنفيين, نهار طويل يتخطى الكدر فيها الصباحات والامسيات المكفهرة ليدير مؤشر الحزن دورة كاملة تنتهي بتقهقرنا في الساعة التي تسبق وقت المغرب حيث طقوس الشنق المخيفة ومنظر الحبل المتين ولفة الانشوطة الصامتة اذ تتدلى من اعلى خشبة مستعرضة ساكنة تنتظر ان يحتك بغبارها عنق طويل .
وتستمر بعدها الحياة بوجهين وجه بلون كسرة المرآة ووجه بلون الزنزانة , كنا نتابع هذه المشاهد من اول خطوة للمحكومين وهم يودعون اصحابهم في الزنازين المطلة امامي الواحد تلو الاخر وعندها ينبري بعض المتدينين فيلقنونهم مراسيم الموت والشهادتين وبعضهم يدخر له قليلا من الماء لكي يغسل كل أجزاء بدنه غسلا خاصا ……., كنت اتابع مسارات الذاهبين الى الموت فمنهم من يسير متزنا وئيدا بمنظر مهيب ما ان يقترب من المشنقة حتى ينفجر بالسباب والشتائم واصفا رجال السلطة الحاكمة بالكفرة وبعضهم يتقاعس عن تكملة المسير لخوار يدب في اطرافه السفلى , ولم أنسَ زكي حبيب وهو يسير بصمت حتى اذا ما اقترب من المنصة اخذ يخف في سيره ليقف وينحني واضعا بيده الحبل ,كان منظرا مهيبا تسللت اليه خيوط الشمس لتذوب في كبد السماء و ترسل اخر شعاع لهايتدحرج على وجهه القمحي,اخر شعاع يرسم لون حياته القادمة,كنت مذهولا أفكر في سر العجلة في سيره وهو ذاهب الى منيته ليقع بعد بضع دقائق جثة هامدة ,وكنت انظر الى محمود غضبان وهو يسير متأخرا عن رفاقه حتى اذ اقترب من المشنقة سقط بقامته القصيرة ,كنت انظر الى كل هذه الاحداث وكأني اغوص تارة بالماء وتارة بالنار وبينها اقرع طبول الخوف.
و ينتهي النهار والليل لتمرفيه عشرات الارواح تسابق الريح تاركة في فضائه المعتم بقايا اهتزازات للعائن اللاعنين, وليستمر الصمت و لألمح بعض الاحيان بصيصا من نور لمصباح خاب يوقد عند الغروب , اي مصباح .. واي نور.. فما جدوى النور هناك , فجثث الموتى لاتحتاج الى النور في المشنقة ولا عالم الموتى يحتاج الى نور.
في يوم الجمعة كنا على موعد مع وجبة جديدة من اللذين سينفذ بهم , تركت مرآتي على حافة النافذة وعيناي تبحث عن خطوات الزائر الجديد…… فلمن تقرع الاجراس …ومن سوف تلتهمه الزنزانة؟ وقد ابتلعت كل جسد مكث هنا,لم تترك دما او مزقا من لحوم ضحاياها, دخل ذلك الشاب في الزنزانة حوالي الساعة الرابعة عصرا ليكتب أسمه في دفتر النسيان وهو مشحون بالخوف, كان صوته خفيظا, وعندما يتكلم يتحرك بلعومه بارتجافة تشبه سكرات الموت , و كانت رقبته طويلة تنحني كأنها علامة استفهام زائدة تنتظر موعدا مجهولا , وكلما تمضي الساعة بعد الساعة كنت اشعر ان وجهه تحول الى نتوءات كصدفة الحلزون,لتتغير بعدها ملامحه ,كان وجهه معبأ بسائل رجراج لا يدعه يهجع بل يمسك بقضبان الزنزانة. يحاول ان يتكلم مع الحرس ,فلا يكترثون إليه، فينقلب كالشحاذ الذي لا تفارق عيناه ايادي الاخرين, قال لي انه امضى في قاطع الاعدام حوالي شهرين لذلك كان على موعد قريب للتنفيذ فجيء به قبل يومين الى زنزانتنا, تأملت مرة اخرى في ملامحه الى شعره الكثيف الذي ينسدل فوق اذنيه وازار قميصه المتساقطة التي تظهر خيط الشعر الكثيف الممتد تحت اسفل سرته الناتئة .
قلت:
– اجلس
فأجاب وهو يحاول ان يستر بطنه بجيب قميصه متمتما:
-ان راسي يكاد ان ينفجر
ابتسمت بوجهه وقلت:
-في هذه الزنزانة كل شيء نائم الا الموت , وكل شيء خلاه فهو مثل الطيور الميتة هل تفهم ؟فلا تعتقد ان الحياة ستتحول الى سرير حب الا في ذهن المجانين … اهدأ واسأل الله ان يأتي اسمك في اقرب قائمة , ماذا فعلت لتحكم بالإعدام؟
قال
-قد لا تصدقني
قلت
– ولمالا أصدقك
– لأني: ….وصَمَتْ
قلت هنا لاتحتاج الى الكتمان ولا للتمويه ولا للكذب ولا للتقية كما هو عند المتدينين , تكلم حتى لوكنت ضاجعت امرأة قاضي القضاة …الموت شيء بسيط !!
نظرلي نظرة شرسة ثم :
قال:
– كيف
قلت :
– انه لم يعد غامضا او شيئا مشكوكا فيه بفضل هذه الزجاجة او كسرة المرآة.
نظر إلي نظرة خائف بعين تكاد ان تدمع وهو يتأمل كسرة المرآة ..ولم ينبس ببنت شفة
كأن وجهه أجبن وجه في ثورة فاشلة,وبدت عيناه النرجسيتان كأنهماغرستا بكتلة ثلج كبيرة, فيما توزعت على ملامحه الاخرى لحظات الفزع وقد نحتت بهدوء,فكأن منخريه ثقبان متباعدان وانفه من ورق مقوى وشفتيه مثل حافة ماعون من الفافون.
سألته عن اسمه فاجاب:
-سيف عبد الدايم
كنت احدق في عينيه فغار بصري في بئر مليء بالحصى والحجارة ,رأيت عينيه استنفذتا دموعها منذ زمن قصير, كان يمد عودا خشبيا مثل عود الكبريت في اذنه اليسرى بين الفينة والاخرى وعندما يشرع بالكلام ينبجس من عينيه شعاع خابٍ متقطع مثل برق غيمة دكناء, اما الرأس فلا ترقد فيه روح هادئة فكان يتملل من الحديث مثل من داهمه فالج, لمحت شفتيه ترتجفان لذا حاولت ان أطمئنه , لكنه مالبثت ان تراخت شفتاه مثل سقوط دعامتي مركب غارق , فرك عينيه وكان يقول انه يشعر بالعطش والجوع والحر,وفجأة صمت للحظة واحدة اخذ يحدق في السقف بوجه شاحب ثم سقط بقامته الفارهة,كانت بشرته بضة وقد رسم حرف اس انكليزي في اعلى صدره وبرزت من تحت مباني صدره أخاديد لأضلاع ناتئة, ادركت ماحدث , كانت نوبة هستيرية تفتقد الى الاتساق في افتعالها وكانت تشبه نوبة (صرع اكبر) تخللتها ارتجافه مصطنعة غير متوازنة من كل جسده ليصطنع اثناءها رغوة بيضاء من بين شفتيه السمراوين ,صفعته على خده الأيسر فاستفاق بكامل وعيه عندئذ تيقنت انهانوبة هستيريا , تركته كيما يرتاح ويسترد ماتبقى من وعيه,و لأمر لم ادركه شغلني التفكير في هذا الرجل طوال الليلة تلك, كان الغد هو يوم الثلاثاء وكل محكوم يتوقع ان يذاع اسمه إن امضى ستة اسابيع .
وكانت الساعة السابعة صباحا هي اشد ساعة يجثم فيها الموت على صدورنا لنتحول الى مجرد اسم يدون في صحيفة جزار ينطق بالعربية الاسم تلو الاخر , فنلوذ في تلك الساعة مثل طيور تختنق ببطيء يأكل عيوننا الرعب ويتحول وجه الجلاد الكالح الى ظهر مقلاة اسود, ويتحول صوته الى عواء ذئب ينهش وجناتنا ويصير كل صوت اخر نسمعه صوتا معدنيا مثل شحذ سكاكين طويلة , الى ان تنتهي القائمة التي كانت تختار واحدا من كل زنزانة كنا جالسين نتابع صوت الحرسي وهو يتلو الأسماء فكان اخر اسم نطق به هو اسم سيف عبد الدايم مرهون… فتح الحرسي باب الزنزانة وصاح بصوت خفيظ:
-انهض
نهض سيف بتكاسل وما ان استقام حتى هوى مرة اخرى على ارضية الزنزانة الاسمنتية حاول الحارس ان يساعده لكنه نهض بشيء من القوة ….. فوضع الجامعة الحديدية في يده من الخلف وأمره ان يسير , أمسك الحرسي كمه الايسر وسحبه إلى الأمام بشدة كنت احدق في عيني سيف التي بدت وكأنهما تحولتا الى عيني عجوز هرم اوعيني جثة أكلها الدود كانت ساقاه ترتجفان مثل راية جيش مهزوم في مهب الريح لمحت رأسه الكبير وقد انتصب شعره مثل ذيل هر خائف , اخد الحرسي يدفع به للأمام وهو يتعثر بسيره كمن يسير على مسامير حادة , كنت اتابع مسيره حتى دخوله الى غرفة المشنقة فتأخر قليلا ثم لمحته يتنحى بعيدا ليهمس في اذن الحرسي شيئا ما كنت أتساءل ما سر هذا الهمس المفاجئ وفي ظرف عصيب كذلك الظرف وما جدوى الكلام في تلك اللحظة وما السر الذي من اجله توقف؟انحنى الحرسي ليقرب اذنه اليمنى ازاء فم سيف حتى رأيت التماع صلعته الملساء , وفجأة اومأ الحرسي الى جلاد آخر بقربه بينمااخذ يخب بسيره ليختفي ويظهر راجعا ثم يفاجئني امام ٍباب الزنزانة وهو ينظر لي شزرا ويصيح آمرا بخبث
– أين المرآة ؟
6 أب 2022