كان بيتا محاطا بالغموض….بعد الواحدة ظهرا تزحف نحوه سيارة اجرة وسخة .. ويسكن انينها حتى فجر اليوم الثاني ..امراة حنطية ممتلئة خلّف الجدري على وجهها اثاره واستوطنتها عصبية غير عدائية ..اما زوجها ابو داود.. فهو ممتليء الجسم له عيون ثعلب ..كان عمر اكبر اولاده لم يتجاوز العقد واخواه يصغرانه بسنوات ..في تلك الايام كان جارهم يسمع من غرفته اللصيقة بهم صراخ المرأة ووقع اللكمات في ليالي الشتاء .. في الصبح حين تستأنف العجلة انينها لا يشم الجيران اثرا لمعارك الليل ويمر اليوم على البيت كأنه زاخر بالسلام ..ويغطس ابو داود بسفاهة السواق وتبادل السب والشتائم والطرف الفاضحة او بعنوان لامراة صيادة .. فيما تظهر امراته لتتبضع وهي تسح صغيرها المدلل الخامل ثم تغلق الباب حتى الصباح الاخر .
اتى بنجله من امرأته الطليقة .. ووضعه منفردا بحجرة واغلقها , ثم تناول سوطا وهوى به على جسده الغض حتى كاد يبلغ الغيبوبة , وخاطبه بعيون مجمرة :
ــ اسمع يا كلب .. ان سألك القاضي <هل تريد مع امك او ابيك >.. فقل له (اريد ابي ).. أي كلام اخر تقوله .. ساجلدك حتى تزهق..هكذا احتفظ الرجل بولده اسماعيل في بيته .. محروما من حنان الام .. ليعايش اذلال ام داود له ويتشرب كل لحظة بنظراتها الحاقدة وصفعها المفرغ من ذرة رحمة ..
نشطت غريزة النهب وهذا بلد مباح ..اسابيع قليلة كانت تكفي لنهب بلد ونقله الى بلد..كان رجال السلطة اول من شرعوا بالاستيلاء فقد دخلوا القصور الاميرية واستولوا على سبائك الذهب والاموال والتحف ..
يروي البديل
<بعد احتلال الكويت تلقيت تعليمات بالتوجه الى هناك والى شركة الغانم بالتحديد ومحلات المجوهرات والموبيليا والمواد الغذائية لأشحنها الى مزارع (ع). كانت التعليمات التي تلقيتها تقضي بشحن سيارات الـ “بي. ام. دبليو” و”المرسيدس” و”الجاغوار” والسيارات الفخمة و الأموال الموجودة في البنوك و (تابوت الذهب الكويتي)
لم يتركوا مخبأ لسلحفاة الا وتم نهبه .. حتى لوحات بيكاسو والمصنفات وامهات الكتب صيروها جمرا لتخدير الشاي .. بلد مباح يواجه نشاطا بركانيا لغريزة الفرهود والنهب .. هكذا تنقل ابو داود بين العراق والكويت في لوري يحمل انواع الاثاث والسلع الثمينة .. فلما غادر العراقيون الكويت بالدبابات الساحقة والقاصفات .. قال ابو داود لقريبه :
ــ الان اريد حقي
ــ وما هو حقك ؟ انت سائق عندي فقط .. عامل باجر ..
ــ ما هكذا اتفقنا .. كنا شرعنا بناء على مناصفة بالمال
ــ واهم انت ابو داود ..
مضى اسبوع على هذا الحوار فاصيب ابو داود بالقلب بعصرة مباغتة لكنه نجا منها بنصف انسان ..
ــ (بعدها عملت في البناء ).. كان يحدث جاره قرب كراج السيارات ..(كنت انقل طاسة الاسمنت بيدي وانا احدث نفسي < اين كنت ؟ ماذا اصبحت ؟ كيف خدعت به .. اتفقنا على ان نتقاسم الاموال ؟) وراى جاره بانه يلفظ الكلمات بصعوبة بالغة .. وتزحف جمله ثقيلة متعثرة كجذع ثقيل في نهر اقصر منه .. وعيناه طافحتان بالحسرة والندم تنضحان الخيبة والاسى .. وان ذراعيه تتحركان بجهد بحركات سلحفاة ..
تلك اخر كلماته التي لن ينطق سواها فيما بعد واخر حركات لاطرافه .. فقد عاد الى البيت وفتك به القلب ليلا وابلغه الشلل..
تتذكر صفعاته والركل في جوف الليالي .. تفكر بالمعيشة .. وهو يستقر امامها مقعدا كمنفذ لرائحة صفيحة مبولة .. لا نفع منه .. رجل عاجز ..غادرته الارادة وحبس منه اللسان ..ربما لا يتذكر قوله (ان سائق التكسي لا يعمل بعد الظهر بل يقضي ساعاته مع قنينة خمر على الضفاف او التصاق بأمرأة في الدروب المتربة البعيدة ).. لكنه رأى زوجته وهي تطرد جاره < مريض وانت تشاركه الطعام ؟!! > .. تلك حجة الهدف من ورائها ان تحجره عن العالم …وحين فكرت بعلاجه قالت لجارها (نحن لا نريده ان يتعافى .. نريد ان يخبرنا الطبيب متى سيموت او هل سيظل حيا فتتواصل فينا المعاناة ) .. انه يحاول ان يستغيث .. ان يحتج .. او يطلب شيئا فلا يستطيع .. وان حاول بالاشارات فلا احد يبالي به .. هكذا انطبع غيظ والم فاتك في عينيه وتغضن جبينه بعمق وبادرته قوة الشيخوخة .