الغربة و الاغتراب : مصطلحان يحملان في طياتهما كثيرا من الشعور السلبي إذا ما اقترنا بالإنسان، فالغربة هي هجرة سواء أكانت طوعية أو قهرية تحت ضغط ما اقتصادي ، اجتماعي أو نفسي ، تقترن في الأذهان برحلة خارج الوطن ، بتوديع للأرض التي نشأ فيها الفرد ، و بتوديع الأقارب و الأهل والأصدقاء ، و تختلف الأهداف المتوخاة منها ، فهناك من يهاجر موطنه بحثا عن آفاق أفضل لتحقيق ذاته سواء بالدراسة او العمل ، او تحت وطأة ظروف نفسية ،
وهنا يشعر الفرد بالاختلاف الصارخ عن بقية أفراد مجتمعه في التفكير وفي الثقافة ..الخ، و قد يكون في الهجرة نوع من القهرية ، بحيث يجد الفرد نفسه مجبرا عليها نظرا لانعدام التوافق مع الغير أو لانسداد الأفق ، و عدم وجود أرضية مشتركة للتعايش مع الآخر باعتبار أن الهوية المجتمعية تقتضي من كل منا الخضوع لقيم و مفاهيم المجتمع الذي وجدنا فيه ..أيا كان فهناك من يتعايش مع وضعه الجديد في البلد الذي توجه إليه طوعا ، بحيث تكون لديه قابلية الانسجام في مجتمعه الجديد فيستطيع تغيير عاداته السابقة و يبدأ في تكوين علاقات وصداقات ،
فيصبح الوضع عاديا نوعا ما إلا فيما يخص الشعور بالحنين للموطن، للأقارب و الأصدقاء القدامى و الذكريات الماضية…
و مع الوقت ، يصير الوضع متقبلا من الفرد المهاجر ثم يبدأ في الاندماج وسط مجتمعه الجديد دون إنهاء علاقته الذاتية بجذوره الثقافية و الدينية وروابطه العائلية …إلى هنا يبدو الأمر منطقيا إلى حد ما .
لكن الشعور بالاغتراب ، يعد نوعا من الاستيلاب ومن إلغاء لذاتية الفرد كهوية حقيقية ، وهو ليس مقترنا بتغيير الموطن سواء أكان طوعا أو قسرا ، بل الاغتراب شعور مدمر يمكن أن ينتاب الشخص حتى وهو داخل أسرته ، و في ظل مجتمعه ووطنه ، بحيث يطغى هذا الشعور السلبي على الفرد فتراه منعزلا ومنطويا على نفسه ، لا يشارك أحدا بما يجول في خاطره ، اعتقادا وإيمانا منه أنه لا أحد سيشاركه أفكاره وهواجسه ، ولعله من الصعب تناول موضوع الاغتراب نظرا لتداخل عدة عوامل كما وأن مجالات عدة تناولته ومازالت تتناوله منها الفلسفة ، علم الاجتماع ، علم النفس الاجتماعي …ألخ و كل من زاوية تخصصه ،إضافة إلى أنه في العصر الحديث، حاول الباحثون إخضاع مفهوم الاغتراب للعلمية – مع صعوبة ذلك نظرا لتداخل العوامل المسببة له – وبهذا تم تناوله من قبل الباحث الامريكي ” دي دين ويجي نتلر ” سنة 1962 دراسة أميريكية نشرت في إحدى المجلات تحت عنوان ” الاغتراب معناه و قياسه “، و للإشارة فقط ، فقد سبقه لهذا الفيلسوف و الاقتصادي المغمور ” كارل ماركس ” ، الذي قرن مفهوم الاغتراب بالعامل البسيط ، بحيث يرى أن ظروف العمل القاسية التي أوجدتها المجتمعات الرأسمالية ، هي ما أنتجت مفهوم اغتراب العامل ، جراء حرمانه من الرفاهية الاجتماعية بسبب انعدام الفرص التي تؤهله لذلك و بالتالي فالنتيجة : إحساسه بالاغتراب عن الطبيعة الإنسانية ..و هذا تأكيد على أن الإحساس بالطبقية المجتمعية يجعلنا نعيش خارج الهوية الحقيقية ، إننا نعيش كمستهلكين لقيم ، و نظم لم نخترها أو نؤسس لها ، بهذا المفهوم وبغيره لشتى التفسيرات العلمية للباحثين ، فالاغتراب ، يوجد داخل كل منا …مع اختلاف التعايش معه ، فكلما زاد الوعي الحقيقي بالذات ، كلما زاد الإحساس بالاغتراب ، و بالمرجعية لديننا الحنيف فالرسول الكريم محمد صلى الله عليه و سلم قد عاش الاغتراب في أوضح تجلياته مع الصحابة الكرام خلال الهجرة و ما لاقوه من أنواع العذاب في سبيل الدعوة للدين الحنيف حتى قال عليه افضل الصلاة و السلام : ” جاء الإسلام غريبا و سيعود غريبا فطوبى للغرباء ” و كذا دعاؤه صلى الله عليه و سلم جراء معاناته مع المشركين : ” اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين و أنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو وكلته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي و لكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، و لا حول و لا قوة إلا بك ” . فهذا الدعاء يحمل في طياته ألم الاغتراب و المعاناة في سبيل الدعوة إلى العبودية الحقة ..
يبقى الاغتراب إذن معاناة نفسية مرت منها جل المجتمعات الإنسانية في أقاصي الأرض و مغاربها و على اختلافها ، لكنها تجتمع في إشكالية واحدة ، وهي الاختلاف في الرؤى والتصورات عن الأفراد المحيطين مما يجعل “المغترب ” ، يتقوقع حول نفسه، ويتآكل في صمت وسط عالمه الهلامي بعيدا عن الواقع .