نشرت هذه القصة في مجلة “المجلة” المصرية عام 1970، العدد ( 164 ) بعدها احتوتها مجموعته القصصية (في درجة 45 مئوي ) مؤرخة ب 1970 \1977 .تنشطر القصة بخط مستقيم يفصل القسم العلوي عن السفلي ..ما اثارا استفسارات وجدلا … وقد سألت الكاتب ذات يوم عن القصة فاجابني بانه رغب بحذف القسم السفلي .. وقد شرح الكاتب اسباب التقسيم في توطئة (اقتضت دواعي الشكل في هذه القصة أن تنشطر الأحداث فيها إلى شطرين، شطر منها يحتل النصف الأعلى من الصفحة ويحتل الشطر الثاني نصفها الآخر، وكان لهذا الشطر دواع فنية في نظر الكاتب فإذا كان القسم الأعلى من الصفحة يمثل جريان الأحداث في الوقت الذي تحدث فيه حاضراً ضمن حدود الوصف والحوار فإن القسم الأسفل هو تعليق الشخصية الرئيسية في هذه القصة على هذه الأحداث اتخذ صفة مونولوج منظم ، أو حلم من أحلام اليقظة امتدّ على رقعة طويلة من الزمن، وهو بدوره يكشف عن علاقات أخرى تنمي حدث القصة وتدفعه لنهايته، وهكذا فإذا كان القسم الأعلى يمثل الأشياء المنظورة بحياد فإن القسم الأسفل هو إسقاطات الشخصية الرئيسية النفسية على هذه الأشياء. هذا ما يلاحظه القارئ من خلال التوازن المنتظم للقسمين والقصة بعد ذلك لا بدّ من أن تقرأ مرتين.).\محمد خضير , مجلة الكلمة .
كتب الكثير عن هذه القصة .. وفي فترة الثمانينيات انشغل نقاد وكتاب بلعبة الضوء والظل فيها ..فيما اصر عدد على ان محمد خضير ينهج (الشيئية )..ساركز على القسم السفلي من قصة منزل النساء ..
(فتاتي الضائعة، أصغر نساء المنزل، وغرفتها لها اسم كالباقيات.. (ما هي مهنتها?). أنا أجهل تماماً ماذا تعمل. لعلها عاملة في معمل خياطة، أو كاتبة طابعة. والمهنة الأخيرة تناسبها أكثر. 80 كلمة في الدقيقة، ولا كلمة واحدة لنفسها.)
(لم يخطر ببالي أني سأعثر عليها في مخزن الأمتعة. ما اختارت هذا المكان إلا لأنها تمر بواحدة من حالاتها الصعبة، تكون فيها كنملة في قزان فارغ كبير، وحيدة ونائية، تحت ناقوس زجاجي كبير، غير قابلة للمس أو الإسماع.)
<اسمي (علي) من مواليد 1945، أعزب، تسلمت قبل يومين عملاً في مصلحة نقل الركاب بصفة محصل تذاكر. تسرحت من الخدمة العسكرية قبل أسبوعين. إني ذاهب الآن، تحت غطاء هذا الليل الشامخ، إلى بيت أهملت زيارته طيلة الأسبوعين الماضيين .>.
اهم ما يميز هذه القصة هو الطاقة الايحائية للمفردات والايقاع الساحر للجمل والقاموس المكتنز والمتفرد ..سيل من الصور المتلاحقة لا تمنحك فرصة لالتقاط الاوكسجين ..لكنها بمجملها ترسم لوحات ومشاهد تتغلغل عميقا في الجو الريفي \الخصيبي غالبا \ وتشير لعادات وطبائع اهالي البصرة ومناخها وبساطة الاثاث ..ولون الطبيعة ريفا ومدينة ..
(أجدنى فيها جالساً على صخرة أو تل تراب، بين النخيل تتلامع فيها ليلاً فوانيس تبحث عن حلقات الرقص، في سوق مكتظ تكون جميع الأشياء فيه واقفة للأعلى، محشوراً في مقهى مطلى بدهان لامع وبرسوم الأزهار داخل مزهريات ذات عرى وبصور النساء المرتديات كوفيات وعقلاً وقد وشمن أحناكهن بوشم الحلاوة المغتلم، قابعاً في الأرائك على حصر متينة العيدان، منطلقاً في سيارة على التراب المتحجر تخض الطعام في بطني عند كل هزة مفاجئة من هزاتها،).
(كما كان للماء الموضوع في أغلفه الطلع الغضة المبردة في الظل رائحة الحياة. ثم كانت رائحة الحياة تنبعث من أواني الفخار المقبعة بطاقيات خوصية، من سلال الخيزران المنقوشة التي تحتوي على الملابس المتوارثة يرتديها الصغير بعد الكبير.).
الشخصية الثانية الاكثر اهمية هي \عوفة \تحتاج ان تنقب في الشطرين لتشكل صورة واضحة عنها فقد بعثرت بين السطور المتباعدة والمقاطع غير المتسلسلة .
<<عوفة >> :
1 ــ (لا يبدو أنها تهرم، وأنا أراها الآن كما رأيتها أول مرة، بعين صبي مندهش: امرأة عتيقة من مئات السنين، قطرة سوداء مشبعة بروائح حادة – روائح الأدوية المحلية وعتق الأقبية والتبغ الذي تمضغه أسنانها. حين أقترب منها يسد وجهها على المنافذ كخرقة يابسة أو كفلينة ذات مسامات مسدودة فلا يعرق أو يتنفس، ويبكي بلا دموع. كانت عوفه تبكي في بطنها. ولطالما كنت لصق جسدها، فلم يكن لي أول قدومي فراش لوحدي، فأرى ذلك الوجه القريب جداً من عيني تتموج طياته الرخوة باستمرار وتشكل ظلالاً قاتمة، ويتجه نحوي منخراه الواسعان وعيناه الغائرتان.)
2 ـ (محتويات غرفتها، صناديق عديدة مقفلة، حين فتحت أحدها بحضوري رأيت التعاويذ والمسبحات والأعشاب الطبية، وحينما التفت رأيت القناني الصغيرة التي لم تحركها يوماً من أمكنتها، مليئة بالأزرار المختلفة الحجوم والألوان وبالدبابيس والمسامير والخرز والوريقات المطوية والتبغ والرماد والخيوط، وبأشياء أخرى مجهولة،) .
3 ــ (تتجول عوفه في المساحة القليلة بين كراسي النسوة، تمسح يديها الجافتين باستمرار بجانبي فخذيها أو تمسك وركيها الضائعتين داخل طيات الثوب الأزرق الطويل ) .
4 ـ قالت عوفه للبنات المستاجرات لمنزلها (- تمتعن بليلكن ونهاركن. كل شيء زائل بناتى. زائل كالثلج. ولا يبقي أثر. لن ترحلن. أريد أن أتمتع برائحتكن طويلاً. كن قرب قلبى التالف. قلب عوفه. أنتن فتوتي الذابلة.. أنا الهرمة القبيحة.. أنا الواهمة القبيحة…).
5ـ عوفة سكنّا عشر دور أو عشرين قبل أن يكسب هذا البيت. كنت أغسل الملابس وأجمع الفضلات مقابل ليلة ننام ونأكل فيها ).
لا تسألوني كيف عرفته, كان له عشرة اسنان ذهبية في مقدمة فكيه خمسة أسنان ذهبية في مقدمة فكه الأعلى ومثلها في فكه الأسف.كان يدخل في معارك لا أعرف عنها شيئاً، ولا أراه بعدها عدة أيام. ثم غاب كالنجمة. كان يعرف كل شتائم الدنيا وكل الحلاوة في كلام الدنيا. وكل مفاسدها وكل صالحاتها. دعوني من تفسير ذلك.. كنا أحياناً نبيت في العراء. فوقك النجوم وتحتك الأرض , ليس لديك ما تخاف فقدانه أو ستره.).
اليس قدرا ان تزج الظروف ذلك الشاب الريفي بهذه المراة السوداء البدينة التي تتمتع بروح الفكاهة والتي تدعو الاخرين للمقاومة رغم احساسها بالهزيمة ..
ان القسم الاول من القصة كاميرا متفوقة تتحرك في زوايا متعددة ملتقطة صورا فريدة لبيوت الشناشيل من الخارج والداخل ..القسم السفلي تغلغل عميقا في دهشة الاشياء و المكان والارواح .
في لوحة فنية بلغت اقصى درجات الشاعرية والتاثير يرسم الكاتب لوحتين لامه , للمرأة الجنوبية (آخر وجه لأمي كان وجهاً غير واضح أتت على ملامحه أشعة الشمس النافذة من خلال أوراق العنب في بريق خاطف يؤجج الحمرة القاتمة في شفتيها المطليتين بصبغة (الديرم)، وخضرة سلسلة صلبان الوشم المنحدرة من عنقها إلى ثـدييها الضخمين المضخمين بعبير صابون (الرقى) الذي طالما عببته مع الحليب ومع العجب المبكر ومع الذعر من التوهج المباغت لفصوص الخواتم في أصابع يدها التي ترفع الثدي.).. ثم يتحول من المشهد الشكلي الى المشهد السيكولوجي (ولم يكن باستطاعتي منع غطسها المستمر في حوض الشيخوخة. كان شعورها المبكر بدفعات الحياة الخفيفة ثم القوية على ظهرها قد حول عادات الأمومة الرقيقة الثابتة لديها إلى مقاومة يائسة متقلبة نحو الخارج، نحو الحوادث الطارئة التافهة، نحو حرارة المطبخ وبرود الطقس ودقات ساعة الحائط المفزعة. ثم بدت أخيراً كحيوان عجوز متورم الأطراف، مسترخ في وقت الظهيرة دونما نوم، تلتمع عيناه بنداوة ذليلة.) .
هكذا تمكن الكاتب البصري محمد خضير في مجموعته (في درجة 45 مئوي وقصته/ منزل النساء) .. ان يتقدم على مجايليه مسافة يصعب الوصول اليها , ليس في العراق فحسب بل على امتداد الوطن العربي .