مرت علينا قبل يوم ذكرى وفاة الشاعر العراقي الكبير سركون بولص (22-10-2007) ونختار قراءتين نقديتين عن منجز الشاعر مع بعض قصائدة. وسركون بولص(1944 -2007) شاعر عراقي ولد عام1944 في بلدة الحبانية. في سن الثالثة عشرة، انتقل مع عائلته إلى كركوك، وبدأ كتابة الشعر، وشكل مع الشعراء فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو و صلاح فائق «جماعة كركوك». في العام 1961 نشر يوسف الخال بعضاً من قصائده في مجلة «شعر».عام 1966 توجه إلى بيروت سيراً على الأقدام، عبر الصحراء. قصد المكتبة الأميركية، طالباً أعمال آلن غينسبرغ وجاك كرواك وآخرين، وأعد ملفاً عنهم في مجلة «شعر». في بيروت التي كانت تعرف نهضة ثقافية، انكبّ على الترجمة.عام 1969 غادر إلى الولايات المتحدة، وفي سان فرانسيسكوالتقى جماعة الـ«بيتنيكس» أمثال ألن غينسبرغ، كرواك، غريغوري كورسو، بوب كوفمن، لورنس فيرلينغيتي، غاري سنايدر، وعقد صداقات معهم.أسهم برفد المكتبة العربية بترجمات مهمة وأمينة لشعراء كثر ونشرتها بعض المجلات العربية مثل مجلة شعر ومجلة المواقف ومجلة الكرمل. أمضى السنوات الأخيرة متنقلاً بين أوروبا وأمريكا، وخصوصاً في ألمانيا حيث حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي. بعد صراع مع مرض السرطان، توفي في برلين صباح الاثنين الواقع في 22 أكتوبر 2007.
(المحرر)
مع سركون بولص في مدينة مهجومة
كتب: نبيل صالح :
“هذا الموتُ مسعورٌ
أقسَمَ يُطاردنا
أراهُ مِن شُباك حُجرتي
نَحيلاً عارياً بلحيةٍ رَمادية
يلهثُ حافياً وراء جدائل الفتيات
الصغيرات على أرصفةِ الشَوارع
ينتزعُ لعبةً من ذلك الطفل
وقلباً من تلك الأُم
رؤوسُ الأطفال الرضّع
تملأُ كيس خيشٍ على ظهرهِ
يقطرُ دماً علّم على كل
دروب المدينة
يلمحُني، بمحجرين خاويين
فأراهُ هنا
يتقرفصُ في زاوية الغرفة
ويقلبُ سجلاً بجلدٍ أبيض
أسألهُ، هل أنتَ نبي؟
يحملقُ بي
ولا يُجيب”1
وأسيرُ في بغداد، وحيداً، صامتاً، كقطٍ شاردٍ بين رجال الأمن وعَجلاتهم الرابضة على أرصفةِ أبو نؤاس، حيثُ يتقياُ باب بيتٍ حُطام البيت الذي لم يبق منه غَير البابِ، أسلاكٌ شائكةٌ تتدلى من السياج الخارجي، و”لا نأمةٌ. هل ماتَ من كانوا هنا؟”2 (أين الأزهار؟ أين قَمريات العنب؟)، أسيرُ، وفي رأسي تدوي انفجاراتٌ بعيدةٌ في حُجُراتِ الذاكرة المُدلهمة، شَظايا مَسعورةٌ تتطايرُ بين الصَّدغيّ والقَذالي، طنينٌ في أُذُني، شذراتٌ من أبياتٍ لسركون بولص: “جئتُ إليكَ من هُناك!”3، هُنا، هُناك، حيثُ تُرفرفُ بيارقُ الجلاوزة، يهيمُ الأطفال في الشَوارعِ يَبيعون ما لايُشترى: “لله يا مُحسنين!”، ويتبَولُ العرگچية قرب تمثال أبو نؤاس. يا ناس، يا عالم، الحسن بن هانئ الحكمي في بغداد مجهولُ الهُوِية!
ومن خَلفهِ النهرُ صارَ ساقيةً، كلابٌ سائبةٌ تتمرغُ في الطين، قنينةُ “فريدة”4 مطمورةٌ في الغَرين، رائحةُ البول، دخانٌ يأتيكَ مُتراقصاً من كومةِ أزبالٍ يتدفّأُ بها شيخُ سِكّير، “كالمُستجيرِ بالرمضاء من النار”5، وعلى الضفّة الأُخرى “الطاغيةُ في الحَمَّام، يُغني”6، أجئتُ في غيرِ موعدي؟
“ثقيلٌ بالماءِ شَعرُ الغريق
الذي عادَ إلى الحفلة
بعد أن أطفأوا المصابيح
وكوّموا الكراسي على الشاطئ المقفر
وقَيّدوا بالسلاسلِ أمواجَ دجلة”7
“خُذ نفطك أيُها العالم!” تقول الرسمةُ عندَ جِسر الجمهورية، هُناك، “على النهر مظاهرةٌ تسطعُ فيها قاماتُ لبنادقَ فجأةً لكن
لتهبطَ هذه المرّة
ثقيلةً كمرساة السلطة”8:
أرأيتُم كيفَ ذبحوا المساكين في الشوارعِ حتى لا تزيغَ العمليةُ السياسية عَنْ مسارِ البِناء والإعمار؟ أولئِكَ البَهاليل، سيدخلون الانتِخابات القادمة كالفاتحين، وبمُباركةِ المُجتمعِ الدَولي!
وأسيرُ في بغداد، وحيداً، صامتاً، كقطٍ شاردٍ بين رجال الأمن وعَجلاتهم الرابضة على أرصفةِ أبو نؤاس، حيثُ يتقياُ باب بيتٍ حُطام البيت الذي لم يبق منه غَير البابِ، أسلاكٌ شائكةٌ تتدلى من السياج الخارجي، و”لا نأمةٌ. هل ماتَ من كانوا هنا؟”
مَنْ يُحاسبُهم؟ مَن يُحاسبُ الأمُم المُتحدة على تجويعِ مئات الآلاف من أطفال العراق وحِرمانهم مِنَ الدواء حتى المَوْت؟ لماذا يَسرقُ سَليلُ المُستعمرين البيض لُقمتي؟ وهَلْ لَنا أن نَكتُب ونحنُ نخوضُ في هذا الرُغام، يا سركون؟ هل نَسلم مِن ضَربِ السَكاكِين؟
“إقتلعْ، أنتَ أيضاً
فَمَكَ أللَّعين…
ألقِ من النافذة بهذا القلّم “الرَّزين””9
ومن سيكتبُ إذاً، إنهم يُجيعون الأطفال حقاً، والكُوَيتبُ عِندنا يدأبُ على َفردِ الساقين لِمَنْ يَدفعُ أكثرْ؟
“وإذا ما صرخنا، إذا
ما أفصَحنا عن أصواتنا الأخرى
فحتّى الملائكة
ستُخفي رؤوسَها تحتَ أجنحتها الثقيلة
لئلا تسمع الصرخة”.10
مُسمرٌ هنا، في عتمةِ حُجرتي، أمامَ شَاشة الكومبيوتر، أُحْصي أعداد مُنتحرين لا أعرفُ أسمائهم، “صامتاً وفي نيّتي أن أصرخ”11.
“عبوةٌ صوتيةٌ تستهدفُ دارَ مواطن”.12
“إنقاذُ فتاةٍ حاوَلَتْ رَمي نَفسها مِن أعلى جسرٍ وَسطَ بغداد”.13
هذا ما تزفّهُ لنا العناوين هذا المساء.
“أطفئ هذا الصندوق المليء بقيء “الأخبار”
تسقطُ فيه أمَمٌ كاملةٌ، وتنهضُ في مكانها الأشباح.
جياعُ إفريقيا، هياكلُ العظم، الذُباب والصُبّار.
أطفالُ العراق في أراجيح الموت
تُهدهدهُم يدُ التنين الآتي
ليشرب الذهبَ الأسودَ النابع من قلب الأرض”.14
وأبي ثابتٌ أمام شاشةِ التلفاز، يُدخنُ سيجارتهُ الألف هذا المَساء: “تُعرف شگد گصوا من راتبي هذا الشهر؟ ستميت ألف دينار!”.
أيُها الأوغاد! والشَظايا؟ ومُطارداتُ البَعثيين؟
كَوَّموا حواجزَ الكونكريت على جِسر الأحرار، وصَادَروا مياه النهر مِن تَحته. النخلات يولولنَ على الشاطئ، حيثُ تسبحُ علبةُ سَردين معقوچة، ودائماً ما يستعدُ مُنتحرٌ ما للقفزِ إلى قاعِ النهر، أينَ عَلقتْ جُمجُمةُ جَارهِ التي ثُقِبَتْ بالـ Hammer Drill لأن أمريكا هكذا شائَت.
هذا ما فَعَلوه بنا، ويَجزمُ مَجنونٌ سادرٌ يَقطعُ شارع الرشيد أنَ اللُّصوص قَد شَمَّروا عَنْ سَواعدهمِ، والوَيل لنا في قادمِ الأيام.
هذا العراق، “إنه الليل. نَمْ، أيّها الشاعر. نَم، أيّها الصديق”.15
***
1- قصيدة للكاتب، “ضيفٌ على المدينة”.
2- سركون بولص، قصيدة “أنا الذي”، من ديوان “عَظمة أخرى لكلب القبيلة” (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
3- سركون بولص، “جئتُ إليك من هناك”، المصدر السابق.
4- بيرة محلية الصنع.
5- سركون بولص، “التوطئة”، من ديوان “الحياة قرب الأكروبول” (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
6- سركون بولص، “جسدٌ قريبٌ”، نفس المصدر السابق.
7- سركون بولص، “مرثيّة إلى سينما السندباد”، من ديوان “عَظمة أخرى لكلب القبيلة” (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
8- سركون بولص، “حياة الميكانيك عبد الهادي من باب الشيخ”، من ديوان “الحياة قرب الأكروبول” (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
9- سركون بولص، “جسدٌ قريبٌ”، نفس المصدر السابق.
10- سركون بولص، قصيدة “لغة نحيا عبرها”، ديوان “عَظمة أخرى لكلب القبيلة” (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
11- سركون بولص، قصيدة “لحظات في الحديقة”، من مجموعته الشعرية، “عَظمة أخرى لكلب القبيلة” (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
12- https://www.almirbad.com/detail/78095
13- انقاذ فتاة حاولت رمي نفسها من أعلى جسر وسط بغداد
14- سركون بولص، قصيدة “نيران”، من ديوان”عَظمة أخرى لكلب القبيلة” (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
15- سركون بولص، قصيدة “محمود البريكان واللصوص في البصرة”، المصدر السابق.
———–
سركون بولص بين المغامرة التجريبية والكتابة بالشرايين
كتب: شوقي بزيع (الشرق الأوسط)
لا ينتمي الشاعر العراقي سركون بولص، وهو المولود في منتصف أربعينات القرن الفائت، إلى الجيل المؤسس للحداثة الذي مثله السياب ونازك والبياتي وأدونيس وعبد الصبور وغيرهم. إلا أن ما دفعني للكتابة عنه هو رغبتي الملحة في الوقوف على العناصر الفنية والجمالية لهذه التجربة التي احتفى بها شعراء الحداثة ونقادها أيما احتفاء. فمعظم الذين كتبوا عن سركون، في حياته وبعد رحيله، يُجمعون على كونه واحداً من أهم رموز قصيدة النثر العربية وأحد آبائها المؤسسين. وهو أمر لا يمكن أن يؤخذ على محمل الحقيقة البديهية، بل يحتاج إلى تدقيق وتمحيص وقراءة نقدية متأنية، خاصة أن الجمال الشعري والفني بوجه عام هو أمر نسبي وحمّال أوجه، وأن نقاداً وقراء آخرين لا يجدون في نتاج صاحب «الحياة قرب الأكروبول» ما يتوافق مع ذائقتهم ومفهومهم للشعر. وقد يكون دافعي الآخر إلى الكتابة متصلاً بحياة الشاعر الحافلة بالمشقات وروح المغامرة والإخلاص للكتابة، بحيث بدت هذه الحياة كما لو أنها قصيدة سركون الموازية، ونصه الأبلغ والأصدق.
منذ مطالع صباه في كركوك بدا بولص متعلقاً بالشعر ومقتنعاً تماماً بأنه حبل خلاصه الشخصي وسط شعور ممض بالغربة والانسلاخ عن محيطه الاجتماعي والسياسي المثخن بالعنف والفوضى العارمة والصراع الدامي بين الإثنيات والعصبيات القومية والآيديولوجية. ولكن قتامة الواقع العراقي آنذاك لم تجد ترجمتها في شعره عبر اللجوء إلى الصخب الخطابي والكتابة السياسية المباشرة التي اعتمدها الكثير من شعراء تلك المرحلة، بل ذهب منذ بواكيره الأولى إلى خيارات أكثر تعقيداً ومقاربات للعالم يتقاطع فيها الرفض الرومانسي مع التعريفات المقتضبة للكائنات والأشياء والحالات التي يكابدها. ولم يواجه بولص بمفرده محنة الانفصال عن واقع بلاده البائس، بل وجد نفسه وسط مجموعة من الشعراء الشبان الذين يشاطرونه المحنة ذاتها ويخوضون إلى جانبه مغامرة الحداثة والانحياز إلى النص الجديد، من أمثال صلاح فائق وجان دمو والأب يوسف سعيد، وكثيرين غيرهم ممن أطلقت عليهم تسمية «جماعة كركوك»، وعُرفوا بنزوعهم الوجودي العدمي وسعيهم الدؤوب لتقويض اللغة السائدة، ورؤيتهم إلى الشعر لا بوصفه غناءً وسيولة إنشائية، بل بما هو تقصّ معرفي وعراك مع اللغة وسفَر في عوالم الداخل.
ولعل قرار سركون في أوج شبابه بمغادرة العراق وقدومه إلى بيروت، التي قصدها سيراً على الأقدام قبل أن يغادرها لاحقاً إلى الغرب الأميركي، هو الذي وفر له سبل الانخراط فيما يمكن تسميته بمشروع الحداثة الثانية، التي حمل لواءها يوسف الخال عبر مجلة «شعر»، والتي شهدت انطلاقة قصيدة النثر على يد أنسي الحاج وأدونيس وشوقي أبي شقرا والماغوط وآخرين. وقد وجد الشاعر في ذلك المناخ الإبداعي المنفتح على الثقافة الغربية، فرصته الملائمة للتجاوز والتجريب الأسلوبي والبحث عن آفاق مغايرة للكتابة، ناشرا نصوصه في «شعر» و«النهار» و«تحولات»، وصولاً إلى «مواقف». ومع ذلك فإن الشاعر المسكون بالقلق والمفتقر إلى الطمأنينة، لم يصدر عمله الشعري الأول «الوصول إلى مدينة أين»، إلا بعد أن تجاوز الأربعين من عمره. كما أن ريبة سركون المرَضية إزاء الحقيقة الشعرية، جعلته يعيد النظر مرات عدة فيما يكتبه، الأمر الذي يفسر اقتصار الأعمال التي نشرت في حياته على الخمسة، وهي: «الوصول إلى مدينة أين» و«الحياة قرب الأكروبول» و«الأول والتالي» و«حامل الفانوس في ليل الذئاب»، و«إذا كنت نائماً في مركب نوح». أما الأعمال التي صدرت بعد رحيله، مثل «عظْمة أخرى لكلب القبيلة» و«سيرة ناقصة» و«رسالة إلى صديقة في مدينة محاصرة» فيعود الفضل في جمعها واستخراجها من بطون الصحف والمجلات، إلى صديق سركون الشاعر والناشر العراقي خالد المعالي. كما أن الحديث عن المنجز الإبداعي لصاحب «عاصمة آدم» لا يستقيم بأي حال دون الإشارة إلى ترجماته المميزة للشعر الأميركي وسواه، والتي لا يعود تميزها إلى إتقان الشاعر للغة الإنجليزية فحسب، بل إلى مواءمته الحاذقة بين دقة المعنى وجمالية التعبير عنه. وهو ما يظهر جلياً في ترجماته لأودن وجبران وألن غينسبرغ وتيد هيوز.
وإذا كان سركون بولص مديناً بشهرته الواسعة إلى أعماله التي تندرج في خانة قصيدة النثر، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل نصوصه الموزونة، والتي نُشر معظمها في ديوان «سيرة ناقصة» الذي صدر بعد رحيله. ومن يعود إلى بواكيره الأولى، لا يتأخر في الاستنتاج بأن الشاعر يمتلك كافة الأدوات التي تستلزمها قصيدة الوزن، إضافة إلى أن تجنبه للتقفية يبعد عنها شبهة الافتعال والتعسف. وإذا كان سركون يتجنب الإنشاد التطريبي في معظم المقطوعات فلأنه منذ بداياته يرى الشعر بوصفه حفراً معرفياً، وتعبيراً عن قلق النفس وتمزقاتها. وإذ تكشف بعض نصوصه عن حضور «فاقع» للأفكار، كقوله: «طول الليل ترنّ الحافة من ضجرٍ \ تدعو العقل إلى تفجير فقاعته الجلدية»، نعثر في نصوص أخرى على مواءمة ناجحة بين الإيقاع والمعنى، كما في قوله: «أصعقيني يا قصيدة \ أسْقطي وجهي وعرّيني، أفيقي \ في زمان ساحرٍ في مدنٍ لا أعرفها \ تسحر البحر كأعمى \ بنسيج الأبدية \ آه عرّيني اتركيني نائماً \ أسمع العالم يبكي في المفاتيح \ وأصغي لأنين الأبجدية \ اردمي عاصمتي فوق قناعي \ اردميها واقتليني يا قصيدة». وما يستوقفنا في هذا المقطع المميز هو الخلل الوزني الذي يظهر من خلال أداة النفي «لا» في السطر الثالث، دون أن نتثبت من كونه خطأ مطبعياً أو نقصاً في حساسية الشاعر الإيقاعية. وإذا كنا نعثر في القصائد الموزونة على الكثير من حالات الزحاف وعلى غير خلل عروضي، فإن من الإنصاف القول بأن سركون كان قادراً، بموهبته الفطرية ومعرفته الواسعة بالتراث، على خلق نموذج تفعيلي لا يقل تميزاً وجدة عن نماذجه النثرية.
في أعماله اللاحقة يحاول الشاعر استكشاف مناطق جديدة للكتابة، يستطيع من خلالها أن يوائم بين رغبته في العثور على نموذجه الحداثي المغاير، وبين الاحتفاظ بحرارة اللغة وحمايتها من وطأة التكلف والبرودة التعبيرية. وإذا كان الشاعر قد نجح أغلب الأحيان في تحقيق هذه المعادلة، فإن بعض نصوصه تفتقر إلى التلقائية وتشي بثقل الجهد المبذول لإنجازها.
ففي بعض قصائد مجموعته «إذا كنت نائماً في مركب نوح» تبدو النصوص أقرب إلى الحذلقات السردية المفتعلة، أو المعادلات الذهنية الشكلية، منها إلى التوهج الروحي واللغة النابضة بالحياة، كأن نقرأ مثلاً: «كأن كل شخص، منتصباً على قدميه المشرئبتين في زوج من الأحذية، هو مجهر كبير مغطى بالثياب. وهو مطلق فريد من أصوات هيارية وانبجاسات، مشيرة إلى مناطق التحرك». أما مجموعة «عظْمة أخرى لكلب القبيلة» التي يقارب عنوانها بسخرية ماكرة فكرة العظَمة الأميركية، فهي محاولة الذات المنفية، في الحياة واللغة، لتعقب ملامح الأماكن والحيوات الآفلة واللحظات المتقطعة، قبل انحلالها النهائي.
ومع أنني لا أميل إلى الاعتقاد بقدرة الشعراء على الاستشراف والتنبؤ بالمستقبل، فلقد لفتني إلى حد بعيد قول سركون «على أرضية الصمت \ أي نوتردام مشيّدة من الأخطاء \ تنهار على رؤوس عُباّدها بضربة من ناقوس الأيام الدخيلة؟». على أنني أميل إلى الاعتقاد بأن مجموعة الشاعر الأولى «الوصول إلى مدينة أين» هي من أكثر أعماله صدقاً والتصاقاً بروح الشعر، وتعبيراً عن معاناته القاسية في الوطن وخارجه. ورغم أن رحلة الشاعر المضنية بحثاً عن الخلاص، والتي لا ينجح الحب وحده في وضع حد أخير لمتاهاتها المحيرة، تذكّر برحلة قلقامش بحثاً عن عشبة الخلود وبرحلة عوليس الشاقة في أوديسة هوميروس، فإن البعدين الميثولوجي والفلسفي للمجموعة لم يفضيا إلى حجب ملموسية الحياة الحقيقية ولم يخففا من حرارة اللغة وتوهجها: «هذه الغيمة التي عدتُ بها من أسفاري المتقطعة \ وثني المسروق من غابة البرابرة \ شعركِ خيمة سأنام فيها ليلة \ أصغي على جدران وصولي إلى الأيام \ إلى أيام معينة \ بعضها بتردُّد يحتويني \ وحبنا الخاطف سيكون الشرارة». وفي «الحياة قرب الأكروبول» يبدو الشعر بوصفه محاولة يائسة للقبض على الزمن وتثبيت لحظاته الهاربة عبر تعقّب المرئيات والحيوات التي تتصارع مع مصائرها المحتومة. على أن البعد الديني في تجربة الشاعر، المنتمي إلى أقلية مسيحية في شمال العراق، يخلي مكانه في المجموعة إلى عالم ما قبل ديني، حيث بعيداً عن ثنائية الخير والشر، المقدس والمدنس، يستعيد الجسد ألقه القديم والحواس مشروعيتها التلقائية. إذ إن «أقصى ما يمكن أن يحدث هو الواقع \ لا معجزة تُجترح من الهواء \ لا اختراقات غير معقولة لحجاب المعروف \ في اللحم، في اللحم يا صديقي \ أنت بحاجة إلى الخطيئة».
وقد لا يكونون مجافين للحقيقة تماماً، أولئك الذين يرون أن سركون بولص هو شاعر الغربة والمنفى بامتياز. وفي اعتقادي أن الشاعر الذي حاول ما أمكنه التصالح مع واقعه الجديد، لم يستطع إحالة أماكنه الأولى إلى النسيان، بحيث بدت أعماله برمتها ثمرة ذلك التمزق بين العالمين.
وهو ما يجد تمثلاته الواضحة في مجموعته «الأول والتالي» حيث تتجاور بشكل لافت قصائد عن النابغة والسياب وكركوك وعمر بن أبي ربيعة، مع قصائد أخرى عن أثينا وسان فرنسيسكو والحي اللاتيني. وحيث تفتقر الروح إلى ظهير صلب أو نِصاب مكاني، تتحول الحياة إلى لحظات متناثرة ويتعقب الشعر نثار الأماكن والأرصفة والحانات ومحطات السفر. إذ ذاك يهتف سركون بمرارة «تمشي فتدفعك الريح من الوراء \ باردة كأنفاس مقبرة \ وتقرأ بعض العناوين عن أرضك البعيدة \ حيث الحرب لا تنام \ صيحات المسافرين ما زالت ترنّ فارغة بين الأنفاق \ لكن تحت دمائك عاصفة من صيحات أخرى \ لا تكفّ عن الانقصاف». إلا أن هذا الوضع الفصامي ما يلبث أن يتحول في «حامل الفانوس في ليل الذئاب» إلى نوع من الاستسلام القدري للواقع. فما دام العبث هو المحصلة النهائية للمصائر، وما دامت «كل وليمة أخرى ستكنسها الريح، وما دامت المدن الفاضلة مجرد حفنة من غبار في قبضة الوهم، والتاريخ سيتعب يوماً من النوم في المجاري»، فإن سركون ينسحب من المواجهة غير العادلة مع الوجود ليقيم على أرض السخرية والحياد واللامبالاة. وهو تبعاً لذلك يهتف بسلفه اللبناني جبران خليل جبران «هنا نعيش \ لكننا نحيا هناك \ أعطني الناي أو لا تعطني الناي \ سيان أن أغني أو لا أغني في هذا الهدير \ هنا نشتري المغني بدولار \ وهذه ليست أورفليس».
من قصائد الراحل سركون بولص نختار:
(1)
قصيدة مرثية إلى سينما السندباد
—
هناكَ طريقٌ
ترصّعها سقوفٌ قرميدُها
غسلته الذاكرة
حتى ابيضّ تحت سماء بلغت
أوجَ حُرقتها
حيث كلماتي
تُريدُ أن تعلو مثل أدراجٍ
مثل أصوات ترتقي
السُلَّم الضائع
في دفتر الموسيقيّ الذي ماتَ
في السجن، نوطة بعد أجرى.
أعثر على ذاك المبنى
وأفتح باباً
على المهْوى:
كل آثار حياتي
الغابرة، يسمّي ذاتَه
بأسمائه، هناك.
ساقيةُ المواضي
مازالت تجري في الحُفر
لكن أمواجَها
أبطأُ من نبض السلحفاة.
زماننا وكيف ضيَّع تذكراته!
قالوا لي…
إنهم هدموا سينما السندباد!
يا للخسارة.
ومن سيُبحر بعد الآن؟
من سيلتقي بشيخ البحر؟
هدموا تلك الأماسي؟
حجرًا على حجر؟
قمصاننا البيضاء، صيف بغداد
حبيباتنا الخفراوات حتى
التجلي…
سبارتاكوس، شمشون ودليلة
فريد شوقي، تحية كاريوكا،
ليلى مراد؟
وهل يمكننا أن نُحبّ الآن؟
كيف سنحلمُ بعد اليوم
بالسفر؟
إلى أي جزيرة؟
هدموا سينما السندباد؟
ثقيلٌ بالماء شعرُ الغريق
الذي عاد إلى الحفلة
بعد أن أطفأوا المصابيح
وكوموا الكراسي
على الشاطئ المقفر
وقيّدوا بالسلاسل أمواجَ دجلة.
———
(2)
قصيدة هذا السيد الأمريكي
—
الموت
هذا سيّدٌ
من أمريكا
جاء ليشربَ
من دجلةَ
ومن الفراتَ.
|||
الموت
هذا سيدٌ عطشان
سيشربُ كلَّ ما في آبارنا
من نفط، وكلَّ ما
في أنهارنا
من ماء.
|||
الموت.
هذا سيَّدٌ جائع
يأكلُ أطفالنا بالآلاف
آلافاً بعد آلافٍ
بعد آلاف.
|||
هذا سيّدٌ
جاء من أمريكا
ليشرب الدم
من دجلةَ
ومن الفرات.
———-
(3)
قصيدة لم يبق من بياض
—-
طردتِ الأرضُ النادلَ الكبيرَ
لتدخل شيخوختها بأمان.
فلتكن هناك..
أقصد جالساً بين الجبال.
فآخر نهرِ،
سيمرُ بكَ محمولاً على عربة ٍ
تعمل بطاقة الأنين.
كن هناك..
أقصد ُ ظلاً يتفشى على سبورةٍ
يقيمُ عليها خطُ الاستواء.
أو تعال.
ترى المناجمَ فارغةً.
الطيورَ بوالينَ بغاز العزلة.
الكتبَ مُجمدّات لهوائيات الدماغ
فيما ستكون الأمشاط ألسنةً
للذكريات.
القطار الأخير،
بعد ساعة ودون سكة هذه المرة.
النبعُ،
زجاجةٌ فارغةٌ دون إقامة
بعد اليوم.
يا للهوّل..
أن يصبح الوداعُ متقاعداً.
أن تدخل التفاحة المشرحة َ.
أن يصبح الليل فروّة محترقة.
مقال في غاية الروعة