عرفت الاسدي الشاعر الإنسان الذي كنت على صلة وثيقة به وما زلت حتى يومي هذا فهو بمقدار ما درّس أكثر من جيل، كنت أنا تلميذه على مدى الأجيال، والمطلع الأول على خباياه والمتوغل في كنوزه الشعرية الدفينة فكان يطلعني أولاً بأول عن كل كلمة يكتبها وكل بيت جديد يشدو به مسامعي التواقة للاستمتاع بترانيمه المنسابة كالزلال لقلوب حرى، لم تكن بالنسبة إليّ مجرد شعر بمقدار ما كانت أمثولة وحكمة، وأنموذج، فأن كان هناك من يقرأه فأنا اشربه وأتلذذ بشهد مشاهده الصورية والحسية المتدفقة بمختلف أبياته وقتذاك.
ولا اخفي على القارئ الكريم بأني وإياه قد هربنا من واقعنا المرير سوية إلى المجلات الخليجية المكان الأنسب للتعبير عن آراءنا بصراحة وصرامة بعد إن كان النظام السابق يصادر الكلمة الحرة لننشد الغزل الحقيقي ـ الرمز البديل لعالم السياسة المتهرئة ـ الذي جعل من خناجره بين حناجرنا ليعترض كل كلمة لم تمجد قادة العروبة، وشخص قائد الضرورة، في وقت كانت المجلات الكويتية هي المتنفس الوحيد، فانطلق التلميذ مع المعلم، بعد إن حفّزني على إظهار قصائدي بكل قوتها بدون مواربة أو تذبذب وعلمني أن يكون الشاعر امة في رجل ينشد للعالم والتاريخ لا أن ينشد لنفسه والعوالم السياسية الضيقة المصالح والحقيرة المقاصد والمبتغى.. فكانت كلماته تردد على مسمعي:
حتى أرى بعض النساء ترجلت/ وكما أرى بعض الرجال نساءا.
وحتى لا يفوتني الذكر، فأن الاسدي قد سجل رقماً قياسياً في نضوج القصيدة العاطفية التي امتازت بالعفوية والتلقائية، قلما سبقه شاعراً عراقياً بهذا المنحى، حيث كانت تتضوع منها عذوبة الكلمة وسلاسة المنطق الذي سرعان ما يحفظ وينحت في أخاديد الذاكرة، ولا احد يمر على قصائده حتى يؤنس بعالم الاسدي المليء بالتفاؤل والاستبشار بظهور صبح جديد يلعن ظلام الطواغيت على اختلاف ممالكهم الهزيلة.
والأجمل في شعره انه لم يتوقف عند حد معيّن، ولم ينتكس رغم قساوة الظروف الصعبة بل استغل الزمن العصيب ليربح بذلك شهادة الدكتوراه، ويصبح علماً بالأدب المقارن وأستاذاً مساعداً في كلية التربية قسم اللغة العربية.
واليوم وبعد زوال الغمة عن الأمة العراقية تابع الاسدي إصدار مجموعته الشعرية الثالثة الموسومة بـ (لا شيء غير الكلام) بعد مجموعتيه (محاجر الغسق) و(خيمة من غبار) وهي مجموعة راقية بكل ما تحويه من حس ومعنى وان كانت الأخيرة كثيراً ما تختلف عما عهدته في أشعاره سابقاً إلا إن الحس هو ذات الحس المرهف، والموجع في زمن يبحث به المثقف عن أيلاج طرق السلامة وإشعال أنوار المستقبل للأجيال القادمة، فكان الاسدي ينبئنا بأسلوبه التصاعدي الرافض لحالات التخندق وراء الضباب بقوله:
ثمة كبش فداء في تابوت الموت؟؟
إما أنت وإما أولاء الخرفان.
ولم ينأى بعيداً حتى يعرّف الشعر لدى الشعراء وان كان بالاصالة عن نفسه تعبيراً مجازياً بلسان الحال: الشعر لا يقال للنفاق/ الشعر دم المرء مهما غابت الآفاق. وفي موقف آخر قال:
من يحرمني من خوفي..؟
أخاف واعرف أن طريق الشعر إلى النكبات.
فهو ما زال ينبض بهذا الدم الإنساني النبيل، ليقول أن الشعراء أصحاب هدف سامٍ ورسالة إنسانية نبيلة، عليه أن يبذل المهج في سبيل تحقيقها متجاوز حدود اضعف الإيمان ولقلقة اللسان لذلك عندما يستفهموه عن سبب إعراضه عن المشاركة في المربد، تراه صارم الجواب بقوله:
لكل أديب هنا مربد
وان الحسين أنا مربدي.
لذلك كان لا يكف عن تقديم نفسه بشاعر الحسين أو خادم الحسين، بعد إن جعل من الإمام الحسين قدوة وأسوة يوقد كلماته من حرارة مصابه الفادح الخطب في قلوب المؤمنين لينفثه شعراً كالسم في وجوه العابثين بمقدرات الأمة.
ولان هذه المجموعة هجرت الغزل بشكل كبير، ولم يشكل عنده أي هاجس يذكر وهو يلوح بيديه:
وكبرنا وتقربنا من درب القبر
ووجدنا الأحلام المدفونة في هذا الطين.
لذا قلت أن صدام الاسدي يحرث في مزارع الآخرة، وان كنت لا اشك البتة بأنه زرع دنياه بزروع طيبة خلفت الذكر الطيب والصيت الحسن، فلا احد يعرفه عن كثب إلا ويجده إنسانا طيباً متواضعاً متواصلاً مع كل أصدقائه وطلابه وان ما يشغل جل وقته هو التركيز في مهام عمله وأبحاثه، لذلك انك تلمس في قراءتك لهذه المجموعة تساؤلات يمكن تسميتها بأسئلة مبللة في زمن الجفاف وهو يصدح بقوله:
نحن كتبنا أول حرف فوق الأرض/فكيف نسينا الكلمات ؟/نحن فجرنا أول بئر للنفط/ فكيف نعيش حفاة؟
تظل أسئلة عقيمة، الكل يسألها ويعرف أجوبتها، لكن هناك تجاهل رسمي على ما يبدو وان كانت هناك من حلول، فهي واهية وضعيفة وقصيرة العمر، ليرجع هذه المرة بإيماءة خجلى من قصيدته بعنوان/ أومئ بكفك للسراب، وهو يصرخ:
ألف شهر يمر/ وما زال ماء الفرات يباع/ألف حكم يمر/ وما زال في خارطة الدهر قوم جياع.
وقد يشكل الماء عند شاعرنا الاسدي أكثر من علة، فهو كثيراً ما يعكف على هذا الموضوع ويثيره بشكل مستفز، لأنه الحياة، ولأنه ملحمة العطش التي فتكت بسبط وذرية الرسول الكريم (ص) ولأنه كل شيء ودونه العدم، كان يشير لهذا المعنى بقوله:
الشجرة تلوي الأغصان/والثمرة تسقط من عطش قرب النهران/ والنهر يئن من الماء المالح في كل الأزمان.
ولم يذهب بعيداً ليرجع بنا محثاً ومحفزاً ودافعاً على إن نجتاز مرحلة الصمت ونتخطى عوالم الوهن والوهم بإشارته البليغة:
الشمس لا تنزع ثياب النار في صمت الحجر/ والريح كم تلتاع في عز المطر.
وبالتالي فإن من دواعي سروري أن أخوض في غمار هذه المجموعة أكثر فأكثر ولكني اترك المجال للمتخصصين، ليميطوا اللثام عن ما وراء المعاني بشكل أدق وأرحب مما تطرقت له، وإنما ما حاولت كشفه مجرد التفاتة بسيطة يمكن أن اسميها قراءة عابرة لأستاذ فاضل عزيز على قلبي أدين بكبير الفضل إليه في أكثر من مجال؛ خاصة متابعته لأكثر أعمالي.
وفي الختام أقول الحمد لله أن بقي الكلام يا سيدي الفاضل، أخاف أن يأتي يوماً لم يعد للمتكلم ما يتكلم به في ظل زمن طغت عليه نعرة المغالطة والاستهتار بالقيم؛ ما دعا إلى إن نلبس الصمت ثوباً ونأتزر بمآزر الخنوع لنواري سوءة الألفاظ وتعابير النفاق المدجج بالمصالح والبقاء.