كنت في التاسعة من عمري حينما أُغُشى علي لأول مرة، لا أعرف ماذا حدث ولكني أستفقت وجميعهم حولي…أبي وأمي والدموع تملأ أعينهم، سألتهم ماذا حدث ف أخبرونى بأنني نمُت قليلاً وحسب، كنت صغيرة لا أعرف ما معنى أن يُغشي على من الأساس؛ بدأ الأمر يتكرر مراراً فأخذني أبي وهرع إلى الطبيب لأول مرة، حينها كانت أول مرة أرى دموع أبي تسيل على وجنتيه، دخلنا غرفة الطبيب ثم جلست على سرير عليه بعض المفارش باللون الأبيض ثم بدأ الطبيب بعمل الأشعة وما شابه.
بعد فترة من الوقت سمعته يقول لأبي بأن أبنتك مصُابة بثقب في القلب، لم أعي ما يقول ولكني وجدت أمي تضع يدها على فمها وعيونها تجحظ ثم سقطت الدموع أنهاراً، سألت أبي ما معنى ذلك فاخبرني حينها وقال أنه يقول أنكِ بخير يا عزيزتي…بخير، قال ذلك ثم أنهمرت دموعه هو الأخر.
خرجت أنا وأمي ومازال أبي بالداخل، سمعته يحدث الطبيب ويقول له كم هي تكلفة العملية فرد عليه الطبيب بمبلغ كبير لا أذكر كام كان هو…ولكنه فوق طاقة أبي أن يتحمله، ذهبنا إلى المنزل، لم تكف أمي أو أبي عن البكاء، خرجت وعانقت أمي ثم قلت لها…
-لماذا تبكين يا أمي؟
هل فعلت شيئاً يغضبك أنتِ وأبي؟
ضمتني أمي أكثر إلى صدرها ثم أجهشت في البكاء أكثر، نظر لنا أبي وبكى ثم تركنا وخرج من المنزل، بعد عدة أسابيع بدأت في الشحوب والأرهاق أكثر، نفسي يضيق وأشعر بأختناق لا أقوى على مقاومته، كنت أبكى وأبكى ولا أعلم ما سبب ذلك، يحاوطنى أبى وأمى وهم يبكون ولا يستطيعون فعل شئ، في نفس اليوم الذي حدث فيه ذلك دخلت على أبي غرفته مساءاً ف سمعته يحدث أمي قائلاً…
-المبلغ أكبر من أن أتحمله…لجأت للجميع ولم يعرنى أحد أنتباهه من الأساس، لا أستطيع رؤيتها تتعذب هكذا ف أنا أموت لرؤيتها وهي كذلك.
بكت أمي أكثر ثم أرتمت ف أحضانه قائله…
-لن يُضيعنا الله، تحلى بالصبر يا عزيزى وحوقل.
بكى أبي…بكى كما لم أراه من قبل، بكى لعجزه عن علاجى بتلك الأموال الطائلة التى لا يملكُها من الأساس؛ أستمر الحال هكذا وانا صحتي تتضائل كل يوم عن اليوم الذي قبله، حتى أتى يوم كنت حينها ف الثالثة عشر من عمري، كنت ف المدرسة وحان وقت الرحيل، الطلاب يهرجلون ويتخبطون يميناً ويساراً، كان من عادتي أن أجلس وأخرج أخر شخص من المدرسة لعدم تحملي تلك الهرجلة الطفولية، دخل أحد الأساتذة فرأني أجلس فسألني بغضب قائلاً…
-لم تجلسين هكذا؟
أجبته بأنفاس لاهثة…
-أنتظر رحيل الجميع لأنني مر…
لم يدعني أكمل ما كنت أود أن أقوله، دفعنى بقوة بأتجاه باب الغرفة فوقعت ولم أستطع النهوض، عنفنى بشدة وقام بجذبى من الأرض ودفعني للمرة الثانية، بكيت…أنفاسي تقطعت، عيناى بدأت تدور وبدأت أرى الأشياء أثنين، مازال يعنفنى وأنا لم أسمعه، بدأ العرق يغزوا وجهي وانا أبكي ومازلت لا أستطيع إلتقاط أنفاسى…سقطت مُغشياً على وأستيقظت فى المستشفى.
أستيقظت لأجد أبي وأمي من حولي، هما فقط، أمي تصرخ…أبي يبكي…فتحت عيني فأقبلوا على بفرحة عارمة، أتى الطبيب وأخبرهم بالأبتعاد عني قليلاً لأتنفس جيداً ثم نادى أبي ووقف بعيداً عنا قليلاً ثم قال له بصوت منخفض ولكنه واضح…
-لا أعرف ماذا أقول…أبنتك في حالة حرجة ويجب أتمام العملية لها.
أمسك أبى بذراعه مستنجداً به ثم قال له…
-الأمر فوق طاقتى يا سيدى، أخبرنى ماذا على أن أفعل أو إلى أين أذهب، فتكاليف العملية تحتاج مني دهراً من العمل.
بكى أبى فوضع الطبيب يده على كتفه مهدءاً له ثم قال…
-أعلم أن الأمر مكلف للغاية ولكنه الحل الوحيد الذي نملكه، أبنتك ليس أمامها الكثير من الوقت.
ليس على أن أقول ماذا حدث بعد هذه الجملة، الأمر يرهقني حينما أتذكره، أرتمى أبي أرضاً وعيناه شاخصه في الفراغ، لا يفعل شئ ولا يُحدث أحداً و…لا لن أكمل.
بعد عدة أيام بين أدوية مؤلمة وأنابيب الأكسجين رحلت إلى المنزل، جلست في غرفتى لا أعرف ماذا أفعل، أبي بالكاد أراه، يعمل بالأيام في الخارج لتوفير أدويتي فقط، وأمى تداوم على مباشرتى كل دقيقة، بدأت في ذلك السن أكتب فقط، ليس على أن أفعل شئ سوى الكتابة وحضور مدرستي بعدما تم فصل المدرس بالطبع، أتى أبي ذات يوم ثم جلس بجانبي وضمني إلى صدره وقال…
-أعذريني يا عزيزتى، أعذريني لأني لم أستطع توفير لك الأدوية أو تلك العملية المكلفة، ليس أمامى سوى اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شئ، أريد منك أن تسامحيني على عدم مقدرتي لتوفير لكِ أبسط الأشياء وهو العلاج.
بكيت على حال أبي، أرتميت في أحضانه أكثر ثم قلت له…
-لا تقول ذلك يا أبي، أنت ونعم الأب، علمتنى من صغرى أن الله إذا أحب عبداً أبتلاه، وأن الله يبتلى الأنبياء فكيف له بألا يبتليني؟
ألم يحبنى الله يا أبي؟
أجهش أبي في البكاء قائلاً…
-بلى يحبك يا عزيزتي…الله يحبك وينتظر منكِ أن تقولي يارب فقط، سأروي لكِ شيئاً، كانت أمي تقول لي في صغري أن الله إذا أحب عبداً فأنه يقول لجبريل عليه السلام “يا جبريل إني أحبُ فلان فحبه، فينادي جبريل في أهل السماء قائلاً يا أهل السماء إن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء” إن أهل السماء يحبونكِ يا عزيزتي، فقط قولي يارب.
أبتسمت لما قال أبي بشدة، أجتاحتني السعادة من كل أتجاه لمجرد تخُيلي أن الله يحبني أنا، توضئت وسجدت بين يدى الله، بكيت…بكيت خشية من تقصيري له، بكيت حباً له، دعيت الله كثيراً أن يشفيني وأن يستخدمنى في الخير دائماً، دعيته بأن يجعلنى طبيبة لأعالج الناس بالمجان.
مرت بضع سنوات، كنت فيهم أداوم على الكتابة كأنها جزء من روحي، كتبت روايتى الأولى بعد دعم أبي وأمي وتم نشرها، لم يعنفوني أو قالوا بأن دروسي أهم وذلك جعلنى أهتم بكلا الجانبين، حققت روايتى الأولى مبيعات لم أصدقها فكتبت الثانية فالثالثة، حصدت بعض الجوائز وبعض الأموال التي جعلتني أتابع مع أمهر الأطباء في ذلك الوقت، كنت أتخذ أبي كقدوة لي هو وأمي دائماً فرغم ذلك النجاح لم يكف أبي عن العمل بالأيام لتوفير الأدوية، تحسنت صحتي قليلاً وهذا ما جعل الأطباء يتعجبون ولكنى أعلم السر…السر هو الله…هو دعاء أمي وبكائها