ما إن بدأ الفنان إسماعيل أغراي تقاسيمه على آلة العود، خط الفنان داود مكاوي أولى ألوان لوحته الحية على البياض، في مفتتح فقرة تجارب شعرية، والتي نظمتها دار الشعر بمراكش، مساء يوم الجمعة 25 نونبر بفضاء الدار. وجوه من عالم الثقافة والفن، شعراء ونقاد ورموز من المشهد الثقافي المراكشي حجوا في ليلة “حارس النبض” الشعري. افتتح الشاعر جمال أماش اللقاء، بورقة عميقة تؤسس لعلاقته بالشعر والكتابة والحياة، فتح لكوة على معالم تجربته ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي. في اللحظة، التي كان يواصل فيها الفنان داود مكاوي استغوار فضاء آثيري كوني على لوحته، كانت قصيدة من “اشتعال الثلج” تفتتح ديوان “الشاعر جمال أماش”.
اختار الشاعر أن يقرأ “حَجَرٌ في حِذاء”، “وثبٌ على حجَر الشعر، من أجل أثر ما. بحثا عن ضوء، عنْ شعاعٌ صغير نسيتْهُ الشمس..”. هكذا المسافات، يقول الشاعر أماش، “أقطعها، أعبر إليَّ منها، كلمات من جسد في روح. كثافة الزمن في لحظة تفجر ينابيع الشعر. عود أبدي دافعه إرادة الحرية في عالم محاصر، تنهشه ذئاب الجوع. يبحث عن شكل آخر في مجهول الكلمات.. هل أنا هو الكلمة مثلما أن كل مخلوق هو كلمة الخلق؟. إننا نعيش تحت سقف اللغة. وكل واحد منا يفضل تفكيك السقف الذي يوفر لنا حماية مشتركة بأن نزيل المدخل والمطل كي ننظر في الانفتاح. هل تبقى الكلمة الحقيقية عصية على الشاعر وحده؟ رغم انها تنتمي إليه؟…”.
“ليستْ كتابةُ سأمٍ أو معاناة مسافات/ ولكنها كتابة نداء/ كتابة سؤال يتألم/ رعشة موت/ وصرخة حياة”
اختارت الباحثة سالمة الراجي أن تستقصي معالم الكتابة الشعرية عند الشاعر جمال أماش، من خلال مقاربة لمنجزه الشعري ودواوينه الصادرة انتهاء ب”سأم المسافات”. فقرة “تجارب شعرية” التي تحتفي بتجارب شعرية من شجرة الشعر المغربي الوارفة، ضمن احتفاء خاص شهد تقديم مداخلات نقدية وشهادات وعرض فني تشكيلي حي، الى جانب المصاحبة الموسيقية. بعض استقصاء لتجارب الشعراء: محمد بنطلحة، أحمد بلحاج آيت وارهام، مليكة العاصمي، محمد الشيخي، ومحمد مستاوي، ومبارك الراجي، عادت تجارب لتفتح مسارات الشاعر جمال أماش وتجربته الغنية، لأحد الأصوات الشعرية المغربية التي أسهمت في ترسيخ أفق القصيدة المغربية الحديثة، ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي.
توقفت الباحثة سالمة الراجي، أستاذة التعليم العالي مساعدة والتي تشتغل حاليا بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مراكش آسفي، عند أهم سمات خصوصية الكتابة الشعرية عند الشاعر جمال أماش. سواء من خلال قراءة وتأويل بنية العتبات والعناوين، أو عبر سفرها وترحالها بين تيمات وموضوعات قصائد الشاعر، ضمن مسار قعد من خلال خصوصية لصوته الشعري. انتصار للشعر وأفقه وانشغال عميق بأسئلة القصيدة، ضمن مسار طويل فتح، من خلاله، الشاعر أماش لقصيدته أبواب تخييل خصب، على اللغة واستعارات المتخيل.
الشاعر جمال أماش، (مواليد 1957 بمراكش)، عضو المكتب التنفيذي لبيت الشعر في المغرب واتحاد كتاب المغرب، من رموز القصيدة المغربية الثمانينية، كما سبق للشاعر أن انخرط في مشروع “أصوات معاصرة”، وهي مجلة كانت مؤسسة في مرحلة عرفت حراكا لافتا على مستوى الإصدارات، بموازاة انخراط مجموعة من الأصوات الشعرية الجديدة، والتي تنتمي لجيل الثمانينيات، في حركية الشعر المغربي. من إصدارات الشاعر جمال أماش: «اشتعال الثلج» 1998، ثم «خطوات تتقدم الموكب» 2005، و«حارس النبض» 2010، و”سأم المسافات” 2022.
ونوه الشاعر والروائي والباحث حسن نجمي، وهو أحد الذين خبروا تجربة الشاعر أماش عن قرب، أننا أمام تجربة متفردة وحية لشاعر ظل منصتا “للصمت” ولنبض القصيدة وأسئلتها، لذلك قدم الشاعر نجمي مداخلة عن الشعر والشاعر والمكان، ثلاثية حدد من خلالها، بعضا من ملامح وعوالم نصوص الشاعر جمال أماش، في اختيار واعي الإنصات لنبض الحياة وأسئلة القصيدة. الشاعر أماش الذي جعل مراكش، تكتب قصيدتها، واستنطق مجازات أمكنتها. نفس المدينة، والتي ألهمت كبار المثقفين والشعراء والفنانين العالمين، الذين وقعوا في حب المكان، مراكش، فتركوا نصوصا باذخة عن سير الأمكنة وسحر الأثر.
شهادة الشاعر حسن نجمي العميقة، نسجت تفاصيل تجربة الشاعر جمال أماش، وهو ينسج من الشعر أفقه الخاص منصتا لسيرة قصيدته، تاركا مسافات، بينه وبين ضجيج العالم. وعبره، ومن خلاله، ترحال بين أثر المكان (مراكش) بسحرها التي استهوت أدونيس وسعدي يوسف وكلود أولييه وخوان غويتيسولو وألمانثا وادمون عمران المليح ومحمد بنطلحة وعبدالرفيع الجواهري ومليكة العاصمي…وآخرون. وبالقدر الذي ينسج الشاعر جمال أماش، علاقة بأفق الكتابة الشعرية وبوميض أثرها، أكد نجمي على خصوصيته هذه العلاقة الإنسانية، والتي جمعته بشاعر ظل وفيا لقيم الصداقة وأسئلة تقاطعت فيها وشائج العطاء المتبادل.
قرأ الشاعر جمال أماش، في مختتم تجارب شعرية، نصوصا قصيرة حديثة في التقاط ل”جوهر الأشياء” وعمقها. وأنهى الفنان داود المكاوي لوحته التشكيلية، في استدعاء لأحد “ساحات الفرجة” الخالدة والكتبية التي تضيء الشخوص والمكان. ليكتمل برنامج تجارب شعرية، لدار الشعر بمراكش، في حوار خلاق بين القصيدة والشهادات والتشكيل والموسيقى، وجمهور متفرد جاء ليضيء بدوره لحظة الشعر وديمومته.