إلى روح القاص والروائي رياض الاسدي الذي استشرى المرض في جسده ومنعه من إكمال مشروعه الإبداعي حافات الدانتيلا
تحتفي مجموعة القاص رياض الاسدي ( حافات الدانتيلا دار تموز – دمشق -2013) بالمهمش من الشخصيات ، وتفرد لها تاريخا حافلا بالحزن والأسى العميق على ذلك الضياع والتشرد والحياة الجافة التي عاشتها شخصياته البائسة وما تعرضت له من أحداث مأساوية .
في هذه القصص المعبرة الدافقة بالحياة ،يحتفي القاص بشخصياته الهامشية ويعطيها حقا بالحياة وبالتعبير عن حياتها التي بقيت على الهامش دون أن تدخل التاريخ العام للبشر ،على الرغم من محاولاتها المتكررة بالارتفاع بحياتها إلى المتن ليكون مصيرها الفشل دائما ، فأبطاله تعيش فردية قاتلة ، دون معين ، وهي تسرد ماساتها بلغة خاصة استطاع القاص تطويعها لتعبر عن هذه الفردية والتهميش والإقصاء عن مجرى الحياة العام ، ويتضح ذلك بتهميش دور السارد ، ضمن تعليقات أو تمهيد يرسم جوا أو يصف حالة ثم تسرد الأحداث من قبل الشخصيات نفسها التي لم تألف سرد الحكايات ، بالطريقة التي تؤلف بها القصص ، هنا يعطي المؤلف شخصياته ،حقها في الكلام الذي يأتي على وفق حياتها وثقافتها وعلاقاتها ، فيختلط سرد الحكاية بتفوهات الشخصية القصصية :نقمتها وتعاستها ،آمالها البسيطة وشكوكها بما يحيط بها ، جهلها وتساؤلاتها التي لا تجد لها جوابا ، كل ذلك باستثمار تقنية الكلام الشفاهي المباشر الذي يعني أن الحكاية تسرد في أوانها وان الزمن فيها يتداخل فيه الحاضر والماضي والمستقبل في حركة تذهب إلى الماضي وتعود إلى الحاضر والى المستقبل بنفس الوقت ومن خلال هذا الكلام المباشر وهي تقنية استطاع القاص الاسدي ان يديرها بذكاء وقدرة عالية على الانجاز .
في قصة ( الزعيم لا يعرف البمبر)تسرد الزوجة حكاية زوجها ( تفيس أبو خنه ) ذي الأسماء المتعددة :الأسود الطويل ،او شرموخ أو تفيس المطمطم أو اسمه الحقيقي الذي لا يناديه به احد:(عبد الله مرزوق)،الذي فصل عن عمله في مكبس التمور دون أن تعرف سببا لذلك ، ثم مغادرته إلى المجهول من اجل (ربما قال ذات ليلة انه سيعبر الحدود إلى الكويت من اجل فرصة عمل أفضل لنا ، ولسوف يأخذنا معه (…) كان أبو خنه يفكر بتحويل ( الخص) الذي يجمعنا إلى بيت لبن : رجل يفكر بالمستقبل يوووووووووه ص10)
في سرد هذه الحكاية تعمد الزوجة إلى تاطير حكاية الزوج بمجموعة من التفوهات التي تلخص تاريخا لعلاقتها به : زواجها منه وهي ابنة ثلاثة عشر عاما ،روحه الضاحكة دوما ،لم تحب غيره طيلة حياتها،اختفاؤه دون سبب ، ثم القضية (الكبرى التي واجهتني بعد اختفائه بأربع سنوات، هي دخولكما إلى المدرسة يا آآآآآآآآآآآآآآآآآه كم كان ذلك مؤلما لي فقد وجدت ذلك شبه مستحيل(….) ولد وبنت بلا شهادات ولادة و(ملجه) شفهية غير رسمية …ص7) ثم تخاطب ولديها :(ناظم جبر علو هذا اسم الفورمن في مكبس التمور الذي ( استقعدني)عشر سنوات ليمنحكما اسمه فقط ص8).من خلال هذا الحوار مع النفس يمكن تحديد المروي له ، فهو حديث توجهه الزوجة مرة بلسان الأب الغائب :(سأذهب على مود المستقبل )ومرة على لسانها الذي يلهج بالحرمان فتخاطب الرب (يعلم الله بكل مصائب البشر شكرا له مرات يمد يده ليساعدنا ومرات يفضل مراقبتنا ، أنا لم يساعدني مرة واحدة وهو يعرف ذلك ص10).
باب مفتوح على أفق مجهول
إن تقنية الحوار الذاتي الذي يرد في قصص كثيرة من هذه المجموعة يعطي انطباعا بتحقق القص أثناء الكتابة انه ينفلت من التدوين باتجاه الشخصية حتى أن القصة تبدو حوارا يشبه الهذيان وهو في صيغته التي وردت في المجموعة إعلان عن إلغاء المسافة بين السارد والمروي له فكلاهما يحضران في جلسة واحدة تخترق الزمان باتجاه تأسيس علاقة يشترك فيها السارد والراوي له كما أنها تسمح باختراقها من قبل أصوات أخرى مساندة أو معادية ،ويتضح في هذه التقنية تحقير الشخصية لذاتها على الرغم من كل المصائب والمأساة التي تحيط بها ،فهي ومن اجل الانفلات من اسر هذه المصائب ، تتصاغر أمام الآخرين وتبدو أمام المروي له ذاتا ممحوة لا قدرة لها على اتخاذ قرار آو الإسهام في الشأن العام فزوجة (تفيس العبد) تبيع ( السويكة)وتصف نفسها (أنا مجرد امرأة سيئة الحظ ولا الحق بالنساء دائما :عوبة عوبة إلا أني يتيمة وصغيرة حدث لي كل ذلك ص12) وفي قصة ( سعال ديكي) تعمد المرأة الصابئية التي فقدت زوجها في الحرب إلى التستر على ابنها المريض كي لا يقاد إلى الحرب واصفة إياه بكل الأوصاف التي تحط من شخصيته:(هذا الولد غبي مربع لكن يتوجب علي أن أخبئه قبل أن افقده مثل أبيه .طرن حتى سابع ظهر ، كلهم هكذا (…) اوي شنو أنا متعلمة على الطيحان حظ ؟وطول عمري خوثة، عبالك انا فهيمة يمعود داعيتك طرنه بنت طرن مثلهم ويمكن أكثر ص62) ولا يتحدد الأمر بالشخصيات الشعبية التي لا تملك وعيا بالحياة بل أن ذلك يمتد ليشمل شخصيات إشكالية كشخصية بطل قصة (بخفة الورقة أو اقل قليلا )الذي يعلن منذ بداية القصة انه أصبح (ورق مختبر شفيف ، يمكنك أن ترى أجزائي الداخلية بعد التعري ناتئة من وراء الجلد .فقد قضيت قسما كبيرا من حياتي في السجون ص86)بعد أن فقد أحلامه وتطلعاته وأصبح ( شيئا لا قيمة له) بسبب الفشل الذي أصاب كل طموحاته (فلا البروليتاريا انتصرت في العالم ، ولا حزبنا امسك بالسلطة ، ولا الفقراء نالوا ما يتمنون ، ولا امتلأت الأرض قسطا وعدلا…) باستحكام اللاءات في خطابه ،لكن الأمل يظل عالقا في ذاته على الرغم من كل الكوارث التي عاشها .
القصخون يعرف كل الألسن
في قصة (تخت رمل) تتناوب أصوات عديدة في سردها وكلها تسرد حكايات وتفوهات تتخذ من تاريخ الدولة العثمانية مركزا قصصيا لها ، وخلال تلك الحقبة المرتبكة يبدو الخيال والحقيقة ، الأكاذيب والجنون ،الانفلات والتمركز كل ذلك في قصة واحدة يرويها ( قصخون) الكذب عنده ( طريقة للعيش ، مطيرجي أو قصخون سيان كلاهما مهنتا قص في قص 38)وهو بنفس الوقت (يضرب تخت رمل )ويسرد عليهم ( اليوم الحكاية عن أولاد المزابل كانوا أولاد مزبلة واحدة أعاذكم الله الموت في الطرقات وقطع اللحم فتات السواد بعد سواد سور بعد سور وطرون في اثر طرون ص40).وتسرد خديجة خاتون اليهودية معاناتها :(أصبحت مسلمة عام 1948،واسكن الطاطران (…) انا شنو وإسرائيل شنو؟؟اشقد دارت علي الدوائر عبالك متريليوزاووووووي!غيرت اسمي أخيرا لكي أنجو بجلدي..ص41).
إن مغزى الأحداث التي يرويها رواة لا يمتلكون الصدق أو قوة الشخصية ، تكشف عن عالم مفكك تتحكم فيه أهواء المشعوذين والسحرة وقطاع الطرق من أمثال (سليمو نقاش)الملقب (جريو) وهو من ( الشقاوات الشقندحية المعروفين من قطاع الطرق على الحكومة وسلامة الناس وسكونهم ص45)الذي يمتلك أسلحة نارية وسيوف وخناجر والدجنات والسكاكين ، وهذا العالم المستدعى من سجلات التاريخ يشبه إلى حد كبير عالم بطل قصة (بخفة الورقة أو اقل قليلا) المعاصر الذي يسرد فيه ضياع الأمل في وسط عالم تحكمه ذوات تتفوق في (كتابة تقارير ورقية ضدي من أناس لا اعرفهم ورق ورق ولا شيء غير ورق).
وحافات الدانتيلا ، التي تمثل الرقة البالغة والتوشية التي تضفي الجمال على ملابس النساء ، تمثل هنا جموعا من الناس الذين فقدوا إنسانيتهم ، فأنكروا على أنفسهم صفاتهم الإنسانية ، واتصفوا بأسوأ الصفات من اجل النفاد بجلودهم من محرقة تأكل الأخضر واليابس ،وسط عسف عاصف يضع أبطال قصص هذه المجموعة القصصية في عزلة صارمة تجعلهم يتحدثون مع أنفسهم في هذيان متصل تغيب فيه المسافات بين الذات وبين متلقي خطابها الآسر المعبر عن الأسى والخوف من الحاضر والمستقبل.