قطفت ثمرتها قبل أوانها ، لتفارق أصلها الثابت، وتسكن على فرع أخر غريب لم تعتده ، قرأت كتب الأمومة قبل أن تختم صفحات الطفولة ..
غريبة تلك الأيام وقاسية ، التي انتهكت مشاعر طفولتها الغضة ، واستباحت جسدها الصغير ..
تضاربت مشاعرها بين ماضٍ تشربت حلاوته ، فارقته ، وبين حاضر لم تعتده ،لم تختاره ولكنه فرض نفسه عليها كطفل فطم قبل أوانه ..
بدأت تتلاشى من عينيها ، صورة ذلك الحي الذي شهد براءة طفولتها مع أقرأها ، ذلك المكان الذي كان مفعماً بالحيوية ،التي استمدها من ضحكاتهم ،صرخاتهم ،بكائهم !
لترسم مخيلتها صورة ذلك الكائن الذي بدأت تدب حركته في أحشائها ..
“ما هذا الشيء الذي يسكنني ؟ كيف سيكون يا ترى “
تساؤلات عدة تداهم أفكارها .. فتجيبها ألسنة عدة ” قريبا ستكونين أماً ..سيكون جميلاً مثلك ..”
مع ذلك كانت تغزوا مخيلتها من وقت لأخر تلك الألعاب البريئة التي هجرتها ، فتعيدها إلى عالمها المسلوب ( الكوفية الخضراء ، قطع الأحجار الصغيرة التي كان الوقت يمضي وهي تلعبها مع نظيراتها ، تقاطرهن خلف بعضهن مرددات بصوت عالٍ” توت ، توت ” وأجسادهن تتمايل يميناً وشمالاً لتتمايل معهن ضفائرهن الجميلة ..)
تذكرت عجوز الحي الشمطاء ..التي كانت تلوح بعصاها في وجوههن وتصرخ بصوتها المهتز ” كفاكن صراخاً ، أذهبن من هنا قبل أن أهشم رؤوسكن “
كن يهربن من أمامها ضاحكات ، وما تلبث أصواتهن في الارتفاع من جديد ، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها وهي تتذكر تلك الأيام الجميلة ، التي كان مباحاً فيها كل شيء ،الضحك ،اللعب ..أشياء كثيرة تفتقدها اليوم ! ولكن ابتسامتها لم تلبث أن اختفت خلف صراخها الذي كان يدوي في أرجاء تلك الغرفة البيضاء ، التي بدت ككفن مخيف وأدت فيه بقايا طفولة كانت تسكنها ، آلامها كانت أكبر من أن يحتملها جسدها الصغير ، صوتها يرتفع تارة ويغص تارة أخرى ، مرددة “ماذا فعلتي بي يا أمي” ؟
بعد ساعات من المعاناة يطل وجهه الصغير على دنياها، تحمله بيديها المرتعشة ، دقات قلبها تتسارع ، تتفحصه بعينيها الذابلتين ، تسأل نفسها هل هذا ما كان يتحرك في أحشائي؟ تتصارع مشاعرها بين الفرح والقلق والألم ! كيف سأتعامل معه يا ترى ؟
تتلمس بشرته الوردية الناعمة ، تداعبها بأناملها ، تشدها عيناه القمريتان اللتان بالكاد يفتحهما ، شعور غريب ينمو بداخلها ، يناديها ، يتجدر في أعماقها .
بعد ساعات يبدأ صراخه ..يطالب بحقه في الحياة ، تشق عن صدرها ، تقدم له ثمرتين لم يكتمل نضجهما بعد .