
انبثق إلهام القصّ عند المنذر المرزوقي من عمق أحاسيسه ونبض نصّه المفعم بالأمل والألم. وقد جاشت المعاني على شفاه قلمه، فجاس لفظه يحبك الحكايا ليضعها بين دفّتي مجموعته القصصية ” شجرة الأحلام العالية ” وقد سوّلت لنا النفس الأمّارة بالقراءة أن نكون من أهل هذا الكتاب لنقرأ كفرا تجلّى في ثنايا النصّ، كفر بالجمود المقدّس، وبالظلم والقهر والجهل وفساد الحكّام وخنوع العبيد، توجّسا من كلّ ثورة وجديد.
إحدى عشر نصّا على اختلاف عناوينها وتنوّع ما جاء فيها تصريحا وتلميحا مجازا وإلغازا مبنى ومعنى. حاول القاصّ أن يتوارى خلف روّاته فولج شعابا وعرة المسالك مؤدية إلى مهالك الذهنيات التي تكلّست وتسلّحت باللاّمعنى واللاجدوى، فافتضحت الأوهام والطلاسم فتجلّت المعاني والحقائق في قصّة ” شجرة الأحلام العالية ” .
تعالقت دلالات النّصوص في هذه المجموعة القصصية، على اختلاف الروّاة واختلاف سياقات السّرد حيث بدا الخيط الدّلالي موحّدا للنصوص مشدودا إلى راو: عاشق/ كاره. متأفّف، حاقد/ حالم ومريد. راو ذو بعد وجودي (قصة الشيخ والزهرة) وذو بعد واقعي (رقصة الطائر الحالم و طماطم الغولة) وذو بعد فلسفي اشكاليّ (وجه القطّ). تخفى الكاتب خلف شخصياته، منغمسا منهكا متهالكا، على إحراجات الذات المحبّة لذاتها ولله وللوطن وللحياة، داعيا للتمرّد عليها حينا والتّأمّل فيها حينا آخر لانتشالها من براثن الكره والقبح واللاّ معنى.
جاءت القصص مفعمة بأخيلة ذات سحنة جمالية تأسر القارئ وتجعله يتعاطف مع الشخصيات طورا أو ينقم عليها طورا آخر يهرب منها وإليها، ويصبّ عليها جامّ نقده وغضبه وحبّه. لم تخل نصوص المنذر المرزوقي من إيحاء وإمتاع وإبداع، لتكون إبداعية قصصية وليست اتّباعية سرديّة ممجوجة. جمعت بين الملهاة والمعاناة ولم تكن مجرّد ظلال للكاتب يتحكّم في مسار الأحداث ومصير الشخصيات، حتى تكون صداه في النصّ، بل خالف المعهود. فلم يساير الكاتب النمط الكلاسيكي في الكتابة السردية ولم تكن النصوص فنّا تخيليّا وثيق الصّلة بواقع مّا، وفقا لرؤية المبدع ونظرته، لتلبية حاجات القراءة الاجتماعية واللغوية والجمالية الشكلية. وإنما كانت خيالية متخيّلة مستلّة من نسيج الواقع والأسطورة والماضي والحاضر والموجود والمنشود، في الان ذاته.
ولعلّ ما يضاعف هذا الانفتاح على تعدّد القراءات ترجمة عديد النصوص من المجموعة القصصية إلى لغات أجنبية مثل الأنقليزية والفرنسية والايطالية، ايمانا من القرّاء بأنّ الكتابة لا وطن لها ولا مكان ولا تاريخ يمنعها من أن تجد صداها في ذهن كلّ متلقّ شغوف. وقد جاءت لغة القصّ سلسة وظّفت لإنتاج صور فنّية أوحت بالمضمون دون تصريح فجّ. لغة تجنّبت التّكلّف والتصّنع والاستعراض اللغوي، فمنحت المتلقي قدرة على تخيّل الأحداث واكتناه المعانى، رغم أنّ الكاتب خيّب أفق انتظار القراء بفنطازيا سردية طريفة (القصّة الأولى هي القصّة الأخيرة) حين كان البحث عن قصّة هو قصّة في حدّ ذاته. فجنح بنا الكاتب إلى عوالم متخيّلة غريبة حريّ بنا أن نتلقى هذا الحكي العجائبي ( اله الخيريّن اله الأشرار و عودة نرسيس) قصّتان تداخل فيهما الخيال بالواقع حتى ارتبك المتقبّل واختلطت عليه الحقيقة بالخيال، ولم يعد يميّز بين ماهو واقعيّ وما هو متخيّل. فإن كان الفعل المعجز أو العجائبي هو وقوع حدث خارق للطبيعة والانسان والحيوان، ولمنطق الزمان والمكان، فقد يقع حافر القصّ على حافر القصّ، لأن القصّ ميدان والقصّاصون فرسان يمكنهم أن يستلهموا من الموروث السردي من خرافات شعبية وقصص خيالية وأمثولات رمزية، لتوظيفها بأشكال مختلفة في الخطاب القصصيّ العجائبي فيصبح التناص في السّرد العجائبي فنطازيا سردية تتعالق مع الموروثات التاريخية والرمزية بإخراج مستحدث ( إله الخيريين إله الأشرار و صرخة الحشود).
مثلت هذه المجموعة القصصية فعلا إبداعيا حاول فيه الكاتب أن يخاطب قرّاء متنوعين مختلفين سنّا وثقافة ومرجعيات. فلم تستهدف النصوص شريحة عمرية معينة ولا نخبة مخصوصة،هذا ما يعكس رؤية الكاتب الانسانية ومشروعه الإبداعي الطّموح.
ولا يف قولنا حقّ المنذر المرزوقي في مجموعته القصصية “شجرة الأحلام العالية ” حيث كانت معانيها عالية و تقنياتها السردية محبوكة، تتفيأ أحاسيس وهواجس وأفكارا وأحلاما تجلّت على قارعة القصّ، فلم نجد عناء في استشفاف المعاني وفي تلقّي متعة النصّ وتلقّف لذّة القراءة. ومن نافل القول أنّنا لا نستطيع قول كلّ شيء في عمل إبداعي حمّال أقوال ودلالات ومعان في نصّ مثل نصنا هذا. لكن علّنا أشرنا إلى مسالك في القصّ وألمحنا إلى بعض دلالات النّصّ، تاركين للقرّاء فرصة الظفر بمتعة التلقيّ والنظر والنقد.