– لا تقلقي لن يقتلوه..
ذلك ما قلته لها، كنت واثقا، لم أتردد أمام تلك الفاتنة!
لكن كيف وصلنا إلى تلك الحادثة المفارقة؟
في البداية، أحسست بالخطر، ولما لم يبادر أحد، ارتديت سترة عسكرية، وضعت قبعة تشبه قبعات الشرطة أو الجيش، حملت سيفا، بحثت عن غمد أحكمت شده إلى حزام سروالي ثم سرت بخطوات الأبطال نحو ضفة النهر، صعدت على صناديق متراكمة قديمة، صحت بأعلى صوتي:
أيها الناس، أنا سأنقذكم من الحرائق التي عمت المدينة، هلمّوا إليّ ولننطلق إلى أرض آمنة.. سفينتي راسية هناك..
بعد لحظات، جاء منصور العجوز الأعرج، ثم الشاب المجنون المشرد الذي لا نعرف له اسما، نناديه مبروك. قدمت السمينة فاتنة تحمل بين ذراعيها ابنها سعيد، بلغ الثامنة من عمره وما تزال تعتبره صغيرها الذي لا يكبر أبدا ولن يكبر..
كان هؤلاء هم الناس، كنت أنا القائد والقبطان.
السفينة المزعومة عبارة عن مركب متوسط، وقفت عندها على ضفة النهر، أشرف على صعودهم، أفكر في إسناد المهام المطلوبة إليهم حتى نتوفق في رحلة الإنقاذ.
بسرعة كلفت المجنون مبروك بإحضار بعض السندويتشات الجاهزة، عجين التمر، الآيس كريم.. اختار منصور تحمل مسؤولية الشراع، التصق به كما لو كان شابة وافقت على الزواج منه وهو في أيامه الأخيرة لتحيي عظامه. فاتنة ظلت مثل كرة ضخمة وهي تتشبث بولدها تضمه إليها. فيما بعد أكلفها بتدبير الطعام..
توجهت كقبطان متمرس إلى مقدمة سفينتي، أشرت إلى منصور لكي ننطلق، فك حبال الشراع فارتفع، لكنه سرعان ما طار بعيدا، لم يكن مربوطا إلى الصاري. لا يهم..
– لا تخافوا.. سننطلق بأي ثمن..
جرف النهر الخردة، أمرتهم بالتمسك جيدا بما يضمن سلامتهم، تمسكت فاتنة الممتزجة بسعيد بأحد الأطراف حتى أشرفت بوجهها على صفحة ماء النهر، صدر منها هدير كما لو كانت محركا، لتعكر صفو النهر بقيئها الحار، لم يسلم وجه طفلها، انخرط في بكاء صاخب متقززا مما أصابه من استفراغها..
– إنها أمك.. اصمت، لقد خرجت من بطنها، كنت قريبا من معدتها وتغتذي منها.. صاح العجوز..
لم يشغلني في الأمر سوى أن فاتنة ستجوع قريبا وليس معنا مؤونة كثيرة بسبب الحمولة. أنا القبطان، يجب أن أرى أبعد وأفكر في الحلول لهذه الرحلة الطارئة.
***
انطلقنا حتى لفظنا النهر صوب البحر الشاسع، كان أزرق تتلاعب أشعة الشمس على وجهه الغادر الهدوء. بالتأكيد ستأتي العاصفة. أشرت إلى مبروك لاتخاذ التدابير، أخذ يترنح يمنة ويسرة في المركب الصغير كما لو أنه يقوم باللازم. بدل الشراع، سلمت سترتي للعجوز في مراسيم إيثار وتضحية من الزعيم حتى يثبتها ويربطها إلى الصاري لكي تساعدنا الرياح على الإبحار بسرعة، لم أكن بالقائد الضخم الجثة، سترتي متوسطة، خلت أنها بعزيمتنا وبالتحدي ستفي بالغرض. أوثقها بالحبل ثم هم يربط الحبل حول الخشبة المهترئة، رجوت ألا تطير هي هذه المرة. المسكينة بقيت في مكانها. ما حدث هو أن العجوز أفلت الحبل من بين يديه، حلقت سترة القبطان واختفت بسرعة قياسية..
– لا تخافوا.. الرياح قوية، ستدفع المركب.. تكتلوا جيدا..
بعد مدة، جاعت فاتنة، وجاع ابنها. فكلفتها بمهمة توزيع الطعام. وقفت مجددا في الوسط لكي أشرف على مراسيم تسليم الطعام بين مبروك وفاتنة، أخرج من تحت قميصه كتالوج مركز تجاري مشهور..
– خذي يا فاتنة.. اختاري لنا طعام اليوم..
نسيت أن مبروك مجنون، لم أراقب مهمة توفير الطعام. أنا الذي أخطأت. والماء؟ أنا الذي أغفلت أمر الماء..
ولكن منشور مبروك كان يحوي الكثير من ماركات الماء، منها العالمية والوطنية، من فئة نصف لتر إلى خمسة لترات..
– لا تخافوا.. سنصل إلى اليابسة قريبا.. للجسم مخزون لا نراه، جاء في برنامج علمي أن..
لم أتم عبارتي حتى خرجت علينا سفينة ضخمة من خلفنا، لم ننتبه أبدا لوجودها قبلا. كانوا قراصنة. لم يكن قبطانهم يعصب عينه، رايتهم كانت بيضاء تتوسطها جزرة. قال العجوز بأنه تمويه فقط لأن الجميع يعرف كيف يكون القراصنة!
ماذا تراهم سيفعلون بنا؟ ليس معنا سوى كتالوج إشهاري لمواد غذائية وغيرها..
أشار رئيسهم إلى سعيد، أسرعنا جميعا إلى فاتنة، كادت تخنق ابنها خوفا عليه. اقتربت فاتنة، ليست فاتنة السمينة أم سعيد. بل فاتنة تريد تنفيذ أمر القرصان المتخفي. سحرتنا الفاتنة، لا بد أنها من الحوريات اللواتي تغوين البحارة بأصواتهن. مهلا هي لم تتكلم أصلا.. لكنها أغوتنا والسلام..
– استيقظ.. استيقظ..
– ماذا؟ ماذا حصل؟ هل أخذه القراصنة؟
– استعذ بالله من الشيطان الرجيم، لقد غفوت يا رجل. الممرضة تريد موافقتك لكي تحقن سعيد بالجرعة السادسة ضد كوفيد ثمانية وأربعون.
حملقت في الممرضة بابتسامة بلهاء وعلى غير العادة كانت فاتنة، لا ليست فاتنة زوجتي التي أيقظتني، بل فاتنة التي أمرها القرصان بإحضار سعيد..
– نعم، نعم.. لا تقلقي لن يقتلوه.. انظري إلى ابتسامتها، أنا متأكد.. لن يقتلوه..