لم يكن هناك أنترنيت، ولا فايس بوك، ولا واتساب، ولا ياهو، ولا انستغرام. حتى الصحف والإذاعات المشهورة في ذلك الوقت كانت تتجنب تغطية أخبار الجرائم، أو الإشارة إليها.
امرأة اختلف الناس في تحديد سنها. البعض قال بأنها في الأربعينات، والبعض قال بأنها في الثلاثينات، لكنهم اتفقوا على أنها قوية الشكيمة، وأن لها قلبا من حديد. وأضاف فريق ثالث بأنها مغرمة بقراءة روايات (أغاتا غريستي).
اتصل الحارس مرآب حافلات النقل بمدينة الجديدة بالشرطة، بعد أن فاحت رائحة كريهة من صندوق قادم من مدينة مراكش، لم يأت صاحبه لتسلمه. حدث ذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي.
بدأت التحقيقات بالاستماع لمساعد سائق الحافلة حول من قدم له الصندوق. وضع يده على رأسه، وبدأ يسترجع صورة المرأة التي قدمت له ورقتين من فئة عشرة دراهم ك(بقشيش)، مقابل الاعتناء بالصندوق، حتى يسلمه للشخص الذي وصفته له بالتدقيق وقالت بأن اسمه عبد القادر بن أحمد. لا يمكن الوصول إلى المرأة من خلال أوصافها الخارجية، وهي ترتدي جلبابا، وتضع نقابا لا يكشف عن ملامح الوجه. لا بد من البحث عن الحمّال الذي جاء رفقتها بالصندوق إلى المرآب. خلال ساعتين أو ثلاث عثرت الشرطة على الحمّال، وقادها إلى الحومة والدرب، ثم البيت الذي أخذ منه الصندوق.
تم اعتقال المرأة وزوجها. قيل بأنها انهارت بسرعة في التحقيق، وحكت للشرطة الخطة التي طبقتها من طقطق إلى السلام عليكم*. ذاع الخبر في جميع أنحاء المدينة. بدأ الناس يتخيلون تفاصيل هذه الخطة، وينسبونها إلى جهات عليا في الشرطة والقضاء، لتكتسب مصداقية عند من يستمع إليهم.
روي عباس عن صديق له ـ سمع عن شرطي حضر التحقيق ـ بأن القاتلة تعرفت على الضحية في الحمام، وتبادلتا الحديث. والكلام يجر الكلام ، حتى نشأت بينهما ألفة ومودة.
قاطعه مصطفى :
ـ لا يا عباس، المجرمة لاحظت بأن المرأة التي تجلس بجوارها تنتمي إلى أسرة ميسورة، وظهر ذلك من خلال ثيابها النفيسة التي أخرجتها من الحقيبة في جلسة الحمام.
قفز إبراهيم وقال:
ـ إنهما تعارفتا في الطريق أثناء العودة إلى منزليهما، وأن المرأة الميسورة وجهت دعوة كاذبة لزميلتها لتناول كأس قهوة معها في البيت، فتلقفت الثانية الفرصة، واستجابت للدعوة بسرعة لم تتوقعها المضيفة.
علق عباد السلام على كلام صديقه :
ـ لو كنت مكانها لفطنت إلى أنها شريرة، فكيف تقبل دعوة وجهتها لها بدافع الحياء؟
اختلف الرواة حول توالي عدد الزيارات بين المرأتين اللتين أصبحتا صديقتين. البعض رأى أنها ثلاث، والبعض قال أربع حتى تطمئن القلوب لبعضها. لكنهم اتفقوا على أنها سبق أن استلفت منها قفطانا، قالت بأنها ستلبسه في عرس ابنة خالها. وردته إليها كما هو، فكان مجرد طعم، لأنها لم تستعمله أصلا. مع تبادل الزيارات بدأت الطريدة تقع في الفخ. وكانت الخطوة الموالية هي دعوتها لحضور عرس شاب من العائلة.
جاءت الضحية بعد الغذاء، ترتدي القفطان والفستان تحت الجلباب، وتتزين بكل ما تملك من حلي نفيسة. وهي تدخل معها غرفة الضيوف، أغرقتها بالمديح :
ـ يا لروعة القفطان! الثوب واللون والخياطة ستجعل منك نجمة العرس بلا منازع.
ردت عليها المسكينة شاكرة، وهي تبتسم :
ـ ربي يخليك* .
الآن أصبح كل شيء جاهز. في انتظار أن ترتدي ملابسها، ناولتها كأس ليمون بارد، وضعت فيه جرعة قوية من المخدر، والبعض قال بأنه كأس شاي. داخت المرأة، واتكأت على مخدة بجوارها، فنامت نومتها الأخيرة.
نزعت المجرمة كل الحلي من رسغي اليدين والعنق والأذنين والحزام ثم القفطان وباقي الملابس.
ما حدث بعد ذلك لا يمكن وصفه. جرّت جسم الضحية إلى المطبخ بمساعدة زوجها. وضعت العنق فوق قطعة مستديرة من الخشب بعلو ثلاثين سنتمترا، ونزلت عليه بساطور حادّ حتى طار الدم على صدرها ووجهها. ارتجفت يدها. في المرة الثانية أمسكت الساطور بيديها الاثنتين معا. ثلاث ضربات متتالية، وبقوة انفصل الرأس عن الجسد. شتمت زوجها، وصرخت فيه أن يترجل، وينظف الرأس، ويضعه في كيس بلاستيكي، وإلا قطعت رأسه هو أيضا. لم يعد هناك مجال للعودة إلى الوراء. المرأة الآن فارقت الحياة. كلما بقي عليها هو أن تُسرع في تقطيع بقية الأطراف كما يفعل الجزار مع الذبيحة. طلبت منه إفراغ الأمعاء والمعدة في المرحاض، وتنظيفهما جيدا. سمعته يتقيأ، فذهبت إليه، وصفعته بقوة على قفاه، فانضبط وباشر العمل، ويداه ترتعدان. هدّدته بقطعهما. أخذ منها تقطيع الجثة ثلاث ساعات. أحست بالتعب. شربت كأسا كبيرا من الماء، وغسلت وجهها، ومسحت رأسها بالماء البارد حتى تستعيد حيويتها.
أخفت الأطراف بعد أن غسلتها داخل أكياس بلاستيكية، وأغلقتها بإحكام، وأمرت زوجها بوضعها بين قطع ثلج كبيرة حتى لا تتعفن، وتنتشر رائحة الموت في المنزل، وطلبت منه تنظيف المكان بمسحوق الصابون، وجهزت الصندوق، ووضعت قفلا فوق غطائه.
دخلت المرحاض، تخلصت من الثياب التي تلطخت بالدم. أفرغت عليها دلو ماء بارد. نظفت أطرافها، ومسحت جسدها بالمنشفة، ولبست ثيابا نظيفة. طلبت من زوجها أن يغتسل ويغير لباسه. جمعت الثياب المتسخة في كيس من البلاستيك وقالت له عندما يهدأ الوضع ستحرقها بجانب المقبرة. لم تشعر بالجوع اكتفت بتهييء براد من الشاي.
لم تستطع إغماض عينيها في الليل. لا تسمع سوى طنين الذباب. لا تستطيع أن تخفي أطراف جثة عن الذباب مهما بلغت من الذكاء الإجرامي. باتت روح المرأة القتيلة تطاردها في كل أركان البيت. أمرت زوجها في الصباح الباكر أن يخرج للمناداة على حمّال ستذهب رفقته إلى مرآب حافلة النقل. ضبطت حتى الوقت الذي ستخرج فيه الحافلة. أنجزت مهمتها بإتقان، وبرودة أعصاب.
قال عبد السلام :
ـ في مساء نفس اليوم ذهبت إلى الصاغة*.
قيل بأنها باعت الحزام مقابل مبلغ مالي، اختلف كذلك حوله الرواة، البعض حدده في ثلاثة آلاف درهم، والبعض زاد ألفا على ذلك.
لم يتفق عباس هذه المرة مع عبد السلام على ما وقع في الليل. عبد السلام قال :
ـ المجرمة نامت بشكل عادي، وكأن شيئا لم يقع. وزاد من فرحتها المبلغ المالي الذي حصلت عليه بعد بيع الحزام.
عارضه عباس مضيفا :
ـ لم تنم إلا بعد أن تناولت كأس شاي وضعت فيه بعض الأعشاب المهدئة مثل (الجوزة) و(الغيطة)، وقليلا من نبتة (السيكران)*.
تدخل مصطفى، وخالف الاثنين، وافترض :
ـ إنها لم تنم، لأن الروح عزيزة عند الله، والأعشاب المخدّرة إذا صح أنها تناولتها، فستزيد من هلوستها وخوفها.
وقد وافقه الرأي بقية المستمعين.
في اليوم الرابع، وهي تستعد للذهاب إلى الصاغة*، سمعت الباب يُطرق بقوة. ارتبكت وأخفت الثياب والمال، وما بقي من ذهب تحت الفراش، وطلبت من زوجها أن يفتح الباب، ويرى من الطارق.
كل الروايات أجمعت على أن الزوج شخص ضعيف لا حول ولا قوة له، وأنه مشارك في الجريمة كمنفذ وليس كمخطط.
بمجرد ما فتح الباب دفعته الشرطة إلى الداخل. اقتحم ستة أشخاص أقوياء المكان رفقة الحمّال، الذي أشار إلي المجرمة بأصبعه، وتذكر أنها ترتدي نفس الجلباب، فألقوا القبض بسرعة على المرأة وزوجها. وعندما أخرجوهما مقيدي اليدين من البيت، وقف أغلب الجيران أمام منازلهم يتساءلون في حيرة عن سبب اعتقالهما ، خاصة وأنهما حديثي العهد بالسكن في الدرب؟!
المعجم :
ـ ربي يخليك : عبارة تدخل في باب المجاملة، وتعني ربي يحفظك.
ـ من طقطق إلى السلام عليكم : تعبير محلي يعني من البداية إلى النهاية.
ـ الصاغة : مجموعة من المحلات التي تتاجر في الذهب وتكون تكون معزولة داخل فضاء أوسع له باب يغلق بعد العشاء ويحرس من طرف شخص يسمى (البيات).
ـ الجوزة : جوزة الطيب .
ـ الغيطة : نبات يشبه الماريخوانا .
ـ السيكران: نبتة مخدرة ذات بذور سوداء أو بنية اللون .
مراكش في 21 / 07 / 2020