استيقظ من حلم مزعج. ذهب إلى المرحاض. ثم خرج إلى الحوض وغسل وجهه. فتح الهاتف. الساعة تقترب من التاسعة والنصف صباحا. تأخر في النهوض من النوم. فتح الباب، ونزل السلم. لا يستطيع مقاومة أشعة شمس الصباح. لبس نظارته السوداء، وركب الدراجة متجها إلى (المخبزة). كاد يصدم امرأة تتشح بالسواد قطعت الطريق دون أن تلتفت. تأمل وجهها. رأى فقط البؤبؤ يتراقص بين رموش عينيها. عادت به الصورة سنوات طويلة إلى الوراء.
اللوحة 1
يحكي الناس في المدينة، والعهدة على الرواة، أنه في أواسط التسعينات من القرن الماضي، ظلت امرأة محجبة تستضيف صديقة لها تشبه القطط السوداء. في الأول بدأت الزيارات في أوقات متفرقة بالنهار، عندما يخرج الحاج إلى العمل. ثم تطور الأمر إلى المبيت بشكل تدريجي ليلة واحدة، ثم ليلتان، ثم ثلاثة في الأسبوع. وفي كل مرة تتعلل الزوجة بأنها ستنام مع صديقتها في الغرفة الثانية حتى الصباح. تستيقظ باكرا، وتهيئ الوضوء لزوجها، ثم الفطور، وتعود إلى الغرفة، وتوقظ صديقتها لأداء صلاة الصبح رفقتها.
في الأسبوع الثالث وقع ما لم يكن في الحسبان. وبينما المرأة قبل أن تنهض من الفراش لتهييء الوضوء، ثم الفطور لزوجها، حاولت أيقاظ صديقتها. نادت عليها باسمها بصوت مرتفع لإيهام الزوج، فلم تجب. حركتها من الكتف، ولم تستجب. بدأ الفأر يلعب في رأسها. أشعلت النور، حركتها بقوة، لم تستجب. رفعت يدها إلى أعلى، وأطلقتها، فسقطت فوق الفراش. لاحظت بأن اليد لا حرارة فيها، لمستها من جديد، فوجدتها باردة مثل الثلج. انفلتت منها صرخة عالية من غير أن تشعر. تلتها صرخات أخرى. تردد الحاج في البداية، ثم اقتحم الغرفة. تفاجأ بأن الشخص الذي ينام فوق الفراش ليس امرأة بل رجلا بشارب ولحية. جر زوجته من شعرها بيد إلى وسط البيت، ويلكمها باليد الأخرى، وهما يصرخان. أيقظه طرق قوي على الباب، وأعاده إلى الواقع. طلق شعرها، ومشى من غير وعي . فتح الباب، وجلس بجانبه، وأشار إلى داخل المنزل، ثم وضع يديه على رأسه. بعض الجارات اقتحمن البيت وأشفقن من حال المرأة، وهي تبكي، وشعرها منفوش على وجهها. طلبن منها أن تلعن الشيطان. سحبنها من وسط البيت، ودخلن الغرفة الثانية. وما أن رأين جثة الرجل فوق الفراش حتى عدن مهرولات إلى الوراء. بعد أن انكشف كل شيء. خرج أحد الجيران واستدعى الشرطة، قبل أن تقع جريمة أخرى.
اللوحة 2
صديقة للمرحومة استغلت الحزن الذي يخيم على العزاء، وأسرت لبعض قريباتها، بأن أمنية الفقيدة أن تغسلها يوم مماتها فلانة، وهي تسكن قريبة من الحي، فكلفوها بإحضارها. بدت الغسالة امرأة بدينة في سن الأربعينات، تشبه قطة سوداء، وتخفي جميع ملامح وجهها بخمار أسود داكن، تتراقص خلفه عينان زائغتان، لا تتوقفان عن الحركة. أطلق سكان المدينة في هذا الوقت على هذا النمط من النساء اللواتي يتشحن بالسواد، لقب (نينجا)*. دخلت الغرفة التي ترقد بها المرحومة.
بعد حوالي ساعة أنهت مهمتها، وخرجت تنتظر أجرها. كمن صفع إحدى القريبات، فتذكرت الحلي. دخلت وخرجت مسرعة. نادت على أخيها البكر، وأخبرته بما حصل. طلب من القطة السوداء إخراج الحلي، وتسليمها لأصحاب البيت. نفت في البداية وجود حلي أصلا. شتمها وهددها باستدعاء الشرطة. تنازلت عن نفيها السابق، واعتبرت الحلي رزقا وهبه الله لها. نزع الحقيبة من يدها بغضب، وأفرغها من الحلي. ثم رماها في وجهها، وضربها على مؤخرتها برجله، وطلب منها أن تنصرف قبل استدعاء الشرطة. خرجت مسرعة من الشقة، وهي تتمتم بعبارات غير مفهومة. لحسن الحظ وجدت سيارة أجرة وقفت لبرهة، فتحت الباب، ورمت جسدها في المقعد الخلفي، واختفت.
انتشر الخبر بسرعة بين الحاضرين، فتعجب الناس مما حصل. واستغربوا كيف تجرؤ امرأة متدينة تتشح بالسواد على سرقة امرأة ميتة؟
اللوحة 3
مدرس بقطاع التعليم، يؤطر ويصنع القطط السوداء. يتغيب كل جمعة عن العمل. يقضي اليوم ببعض الدواوير المجاورة للقرية، يعظ ويخطب ويؤم الناس للصلاة، ويتناول طعام الكسكس. لا يعود إلا بعد صلاة العصر، محملا بالخضر والفواكه.
جرت العادة في أغلب القرى المغربية أن تظل أبواب المنازل مفتوحة طيلة النهار.
نسبة البيت للمرأة عادة قديمة. سيدة البيت. بعض البيوت مثل العباءات السوداء.
زوجة الفقيه المدرس غريبة عن المنطقة، تنحدر من بلدة بعيدة، لا تعرف أحدا. بيتها لا تدخله امرأة، ولا تخرج منه امرأة. لا يُسمح لها حتى بالذهاب إلى الحمام، مثل باقي النساء. عليها أن تستحم داخل البيت صيفا وشتاء. لا تزور ولا تُزار.
يُخرج المفتاح من جيبه. يفتح الباب حين يدخل، أو يغلقه حين يخرج. قد يغيب يوما أو يومين أو أكثر، لكنه يظل مطمئن البال. الباب مُغلق بالمفتاح. والمفتاح في جيبه.
يأتي ضيوف من الرجال إلى بيته في فترات متباعدة. يستمعون إلى القرآن الكريم، ويتحدثون بأصوات عالية، ويضحكون. يشربون الشاي، ثم يتناولون طعام العشاء وينصرفون.
ظلت الزوجة وحيدة، لم يمنحها الله طفلا أو طفلة تؤنس وحدتها. لا تعلم إن كان الخلل منها، أو من زوجها. ربما هذا ما دفع بعض سكان القرية إلى التشكيك في فحولة الفقيه المدرس.
لكنه ظل يبالغ في التعبير عن عكس ذلك. كلما تمر امرأة بالقرب منه، يتتبعها بعينيه، يلتفت إلى المؤخرات، ويفحصها من فوق إلى تحت، وكأنه يقيس طولها وعرضها، وربما حتى وزنها.
اللوحة 4
هذه المرة قط حقيقي أسود سمين وغريب الأطوار. اعتاد في الليل أن يوقظ عمته بموائه، أو بجر ثيابها، لتفتح الباب لابنها قبل أن يطرقه. عندما يُغلَق عليه الباب وهو خارج البيت، يمدد جسمه حتى تصل رجلاه الأماميتان إلى (الخرصة)، ويطرق الباب.
كلاهما يكره الآخر، كلما وجده في طريقه ضربه برجله، وكلما ترك باب الصالة مفتوحا، وجد جواربه متناثرة في السلم.
وهو قادم من السينما مسطولا في منتصف الليل، بعد أن شاهد فيلما مرعبا، يحمل عنوان (طارد الأرواح الشريرة )، وضوء الدرب معتم بضباب قطرات مطر خفيف مع انخفاض درجات الحرارة، ماءت قطة سوداء بالقرب من القمامة، تداخل صوتها مع أحد مشاهد الفيلم، فقفز من مكانه مذعورا. كاد قلبه يخرج من صدره. فرك عينيه وفتحهما جيدا. رفع من سرعة خطواته. وقف أمام الباب، وتنهد حمدا لله على سلامته، ثم أدار المفتاح.
الخوف من القطط في الليل تسرب إلى وعيه الباطني منذ الطفولة، عندما سمع الكبار يؤنبون الصغار، بعدم التعرض للقطط السوداء في الليل، ويؤكدون أنها مسكونة بأرواح الشريرة.
مراكش 10 فبراير 2020