هكذا هي دائما؛ ترسم بوجهها الطيني ملامح أرضها الأسوانية الطيبة المسالمة، تمشي على استحياء، تبيع مناديل ورقية بيضاء كقلبها المتفتح على العالم لتطعم أهلها، تبتسم لمن تلتقي بهم على أرصفة المدينة القاسية وفي محطة القطار التي ألفت ضجيجها، لا تخيفها تقاطعات السكك الحديدية؛ ولا متاهاتها المعقدة التي يصعب على الصغار الخروج منها، ترسم القطارات القادمة من بعيد في روحها الشفافة عوالم مختلفة، تتمنى أن تصل إليها في أسرع وقت ممكن، تخطو برجلين حافيتين خطوات كبيرة كغزالة في البيداء لا تهاب الكثبان الرملية العالية، أو تتخذ من مناديلها أجنحة تبسطها في الفضاء كنسر ذهبي في الأعالي.
تحاصر عيناها الصغيرتان دموعها في كبرياء، تبحثان عن انتصار ما يسعد أمها في قبرها وينسيها ألم فراقها، ويزرع ابتسامة عريضة في وجه أبيها المثقل بالمتاعب، ويرفعها إلى ربوة المجد، تنظر من خلالها إلى الذين يشاركونها الصبر الطويل ليعودوا إلى أهليهم مسرورين ومستبشرين بعد أن يبيعوا أشياءهم البسيطة. تواجه المصاعب بكل عزيمة واجتهاد؛ يراها المرء كفراشة جميلة تصنع من عمرها القصير خلودا، تنتظر صفيرا أقوى من صفير القطارات وهي تسرع إلى المدى في يقين ودون خوف.
نظر إليها رجل الأمن نظرة إعجاب وهي تقلب وجهها يمينا وشمالا. اقترب منها ليسألها عمّا يشغل بالها، بيد أنه لم يستطع ترتيب أسئلته جيدا ؛ كانت تبدو كسيدة أسوانية محترمة عليها لباس التقوى تجلت في جمعة مباركة، عائدة من الصلاة؛ لم يجد صعوبة كهذه في عمله المكتظ بالأحداث من قبل. لم ينبس ببنت شفة، إلا أنه نفخ بقوة نفخة في صفارته الحديدية، فسمعه من في الطرف الآخر وسمعته هي كبلبل مغرد؛ جدد فيها روح البحث عن الفوز من جديد؛ رفعت رأسها كزهرة اهتزت وربت، سقتها السماء من بعد عطش طويل.
-سيدي، هل يمكن لي أن أسألك؟
رد عليها والسرور يملأ قلبه:
-نعم..نعم..يمكن أن تسأليني ..طبعا..ماذا تريدين؟ بماذا أخدمك أيتها الصغيرة المحترمة؟
– من هؤلاء؟ إني أرى تجمعا كبيرا في الميدان، أعلاما ترفرف كطيور تحاول التحليق، أطفالا فرحين بألبستهم الرياضية.
-إنه السباق، إنه ماراثون أسوان الخيري، وقد خصص عائده لأطفال مرضى القلب لمستشفى الدكتور مجدي يعقوب.
-سباق؟! ماراثون؟ عمل خير؟
لم تدر لماذا سمح لها بالمشاركة؛ قذفت في قلوب المنظمين نورا حتى فاضت بالرحمات، و سلكت بينهم أسلوبا فملأت عيونهم بالإعجاب؛ لم تكن مدعوة من قبل، ولا تنتمي لأي ناد من الأندية الرياضية، ولا تملك لباسا خاصا بالماراثون، ولم تسمع من قبل عن هذا النوع من السباقات، ولم تدفع مائتي جنيه، حقوق الاشتراك.
ما أطول المسافة! ألف مثر؟ إنها كحكاية طويلة بتفاصيل قاسية؛ تراقصت صورها المؤلمة أمام عينيها، زاحمت أمنياتها الجميلة التي رسمتها في لحظات أنس وهي تبتسم لطيف أمها. لم تلتفت للوراء؛ لا تريد أن تعرف المسافة والزمن اللذين بينها وبين الآخرين؛ ليس في قلبها ذرة حقد على أحد من العالمين؛ سيأخذ كل واحد منهم حظه في الحياة؛ ستكتب كل خطوة على جبين الماضي لنقرأ ها حين لا نستطيع أن نقاوم القسوة والألم.
أخذت نفسا عميقا، وأسرعت أكثر كقطار متجه إلى أقصى نقطة في مصر، بها أحبة ينتظرون اللقاء في أقرب وقت ممكن، ثمة شوق جارف؛ لم تبالِ بقدميها الحافيتين وهي تلامس أرضها الطيبة؛ صنعت من الفرح أجنحة رفعتها عاليا، أنستها ألم الحفاء.
تسارعت نبضات قلبها حين سمعت تشجيعا من الذين ملكت قلوبهم؛ فحملت مشعل أمنياتهم التي أخفوها سنين طويلة ليوم كهذا. ما أروع أن تجمع الناس حولك دون أن تصرف من مالك أو تقدم شيئا لهم.
-أسرعي مروة ..أسرعي..لم يبق إلا القليل..أسرعي..
تزاحمت كل الصور التي مرت بها في المحطات والشوارع ، اختلطت أصواتهم بصفير القطارات والحافلات. إنها قصة مكثفة أحداثها، اختصرت زمنها في ما بقي من خطوات معدودات إلى نقطة الوصول، صنعت دهشتها روحها الراغبة في الفوز، خاتمتها ميدالية عانقت صدرها، زادتها الأضواء جمالا على جمالها.
فازت مروة بالسباق كما فازت بقلوب الناس، ونادت روحها والديها، تبارك لهما والدموع تملأ مقلتيها.