إن وطناً مثل العراق الذي يعتبر شعرائه بعدد نخيله الباسقات، وللمرأة العراقية مساحة واسعة من الشعر، تحتلها بين كل الاجيال الشعرية التي رسمت على خارطته، شعراً ونثراً ، ولأني أجد من نافلة القول، ومن الواجب الاشارة اليه في هذا المجال، الى نخبة من الشاعرات العراقيات: كالشاعرة نازك الملائكة ورباب الكاظمي وعاتكة الخزرجي ولميعة عباس عمارة وآمال الزهاوي، وغيرهن الكثير من الاجيال اللاحقة، هذا اذا ما قلنا، هن الجيل الذي حمل رسالة الشعر العربي الحديث، وكان لهن الفعل الكبير في الوسط الثقافي بين قمم الشعراء الذين كانوا من جيلهم من الرجال ايضاً .
فضلاً عن، ما لحق من اجيال شعرية متعاقبة بعد مرحلة الخمسينات والستينات و السبعينات وما تركن اولئك الكوكبة الابداعية من تأثير في المرحلة التي عاشوها، وما كتبن عن الظروف التي أحاطت بهن سياسياً وثقافياً واجتماعياً.
اذا اردنا ان نحدد مرحلة الاجيال الشعرية، فهذا موضوع نتركه في وقت آخر، ولكن ما نسعى به اليوم هو الغوص في القيمة الابداعية للشاعرة الكبيرة نازك الملائكة والتي نقدم قراءتنا لقصيدتها، ( أنا ). والحقيقة إن الشاعرة نازك الملائكة واحدة من الجيل الذي واكب رواد التجديد من بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري في العراق وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور في مصر.
إلا إنها تبقى للشاعرة الملائكة خصوصيتها في منجزها الشعري وما جددته في الشعر الحديث، فضلاً عن مساهماتها الاكاديمية التي دافعت عن القصيدة الحديثة بمقالاتها وأبحاثها الاكاديمية وخاصة عند صدور كتابها ( قضايا الشعر المعاصر) الذي كان لصدوره صدى واسعاً ليس في العراق فحسب وإنما في عالمنا العربي.
إن المنظور الشعري القائم في منجزها الابداعي، يستند على ثقافة الشاعرة، بما في ذلك الصور الشعرية واللغة الابداعية التي ترسمها في نصها الابداعي الراقي، فالمخيلة لدى الشاعرة تتمتع بذخيرة عالية من المفردات التي تمنحها الدفق السحري في بناء نصها الابداعي، ذلك من خلال رسم الخط البياني إن صح التعبير الذي يرتقي بالجملة الشعرية عندها، نحو صوراً جمالية لها تأثيرها لدى المتلقي، والشاعرة نازك الملائكة غنية عن التعريف بأرثها الشعري وعمقها الدلالي في كتابة الجملة الشعرية المتميزة فضلاً عن القصائد الاخرى التي أحتوتها دوواينها الشعرية منذ بداية حياتها الادبية والابداعية في الاربعينات من القرن الماضي.
لقد أصدرت الملائكة العديد من الدواوين وكانت لها صداها في العراق وفي الادب العربي وحتى العالمي، حتى وفاتها في مصر ودفنت فيها، وكنا أقمنا حفلاً تأبينياً بالذكرى السنوية الاولى لوفاتها بالقاهرة، وقد أخترت نموذجاً من قصائدها وهي قصيدة ( أنا ) التي شكلت أنعطافة في بلاغة الرؤية الفلسفية وعمق الدلالة والرمز والموروث، وكيفية توظيف الأسطورة في نصها الابداعي.
عندما نقرأ هذا المقطع الأول من قصيدة ( أنا ) الذي تقول فيه:
( الليل يسأل من أنا
أنا سرهُ القلق العميق الأسود
أنا صمته المتمرد
قنعت كنهي بالسكون
ولفقت قلبي بالظنون
وبقيت ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرون
أنا من اكون )؟
ان الشاعرة تسعى في إعادة تشكيل عناصر النص بلغة درامية، ولملمة الكلمات التي تتقبل التفاعل بين الحسي والمرئي، فالاشياء موجودة حولها وكلها قابلة أن تُنقل على هيئة حدث شعري، ولكن ليس كل الشعراء لهم تلك الامكانية الشعرية في نقل الاحداث الشعرية التي يصوغها داخل ثيمة النص، فالشاعرة تعطي لنا صورة بين المحسوسات الشعورية، ثم تنقلها الى صيغة جمالية تسكن البيت الشعري او الجملة الشعرية.
فالانسان الذي يعيش في أحداث تفاصيل حياته اليومية، غير ما هو يعيش في شخصية الشاعر، في حين نجد ان الحدث الشعري عندها، يختمر وله كينونته في المخيلة، فالبعد التخيلي عند الشاعرة نازك الملائكة انها استخدمت اللغة استخداماً خاصاً من خلال رؤيتها الفنية، وتقنياتها الذاتية، وثقافتها المعرفية، وطاقتها التجديدية، وأعلى درجة الاحساس داخل جملتها الشعرية التي تمنحها أعلى درجات الطاقة والوقود العاطفي.
ثم تقول في المقطع الذي يليه:
( أنا روحها الحيران أنكرني الزمان
أنا مثلُها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا آنتهاء
نبقى نمرُ ولا بقاء
فإذا بلغنا المنحنى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ)
أن عنصر الدهشة والغرائبية والصدمة الشعرية التي تتوزع بين سحرية المفردة الشعرية لدى الشاعرة نازك الملائكة، هو تحرير الذات والنص، ليشكل بعدها عمق المنظور ليمنح المتلقي احساس يتناغم ويتفاعل مع أجزاء جسد النص اذا ما قلت معظمها.
فالشاعرة تعرف كيف تدخل الى الحواس الانسانية، مستخدمةً أدوات شعرية في ذهنيتها وتجربتها الشعرية، وهي ليست أبنت الحياة فقط، وإنما جالت نظرتها في زوايا الحياة الغامضة، لتقدم لنا تجربة ذات نكهة خاصة، لا يتحلى بها الآخر، مهما أعتلت أدوات الشعر لدى الغير.
فالشاعرة الملائكة، تستعمل ألفاظاً ابداعية، تعتمد على مراوغة اللغة من خلال إعطاء هذه الالفاظ دلالات جديدة عن طريق تجاوزها وتوزيعها داخل النص.
ثم يلي المقطع التالي من القصيدة ؛
( وأعود أدفنه أنا
لأصوغ لي أمساً جديد
غده جليد
والذات تسأل من أنا
أنا مثلها حيرى أحدق في ظلام
لا شيء يمنحني السلام )
هي تعمل بتنسيق مكوناتها للقصيدة، فمن خلال العنونة ( كما أطلق عليها الفرنسيون) حيث يعد العنوان بوصفه التاج الاعلى، والذي نضعه عادة في قمة القصيدة كي يملك المفتاح للدخول من الباب الشرعي للقصيدة، لتذهب للتفاوض بين الحس المرئي المادي للحياة والحس اللامرئي لذات الشاعرة وهي تقتنص اللحظة الابداعية لصياغة جملتها، فيكون الانتصار للبيت الشعري.
نحن امام شاعرة تمتلك من ادواتها الفنية واللغوية وتوظيف اللغة على المستويات الزمنية والمكانية والدرامية، فهي تعرف كيف تصيغ وتتجاوز داخل بنية النص.
لاشك، إن ما نسعى اليه في هذه القراءة لشاعرة تحمل هم الانسان والوجود، وتتفاعل مع مكوناته بكل تفاصيل الحياة، وتعطي للابداع شكله الآخر، الذي يفجر فينا أحساساً للتضامن مع قضية الانسان وصراعاته الوجودية حيثما نكون او يكون، فهذا يعني أنها أمتلكت بزمام القصيدة وجسدها وهيكلتها، وعرفت كيف توظف السحر البياني واللغة والخيال والموروث والدلالة والرمزية، ليكون نتاجها شعراً غزير المعاني والقوافي وهي جزء من هذا الوجود الانساني الذي تكابده في كل لحظة، فضلاً عن العمق الفلسفي الذي يذكرنا بقصيدة إيليا أبو ماضي ( نسي الطينُ ساعةً إنه طين) ذات العمق الفلسفي عن خلق الوجود، وما يقترب من قصيدة ( أنا ) لشاعرتنا الملائكة.
وهنا تسترسل في المقطع الأخير من قصيدتها ؛
( أبقى أسائلُ والجواب
سيظل يحجبهُ سراب
وأظلُ أحسبهً دنا
فإذا وصلتُ إليه ذاب
وخبا وغاب )
لقد استطاعت نازك الملائكة أن تمتلك من ناصية نصها أو جسد قصيدتها الكامل والاحساس الداخلي في الجملة الشعرية، ذلك انها تمتلك من ضبط تقنية البناء في وحدة القصيدة، فهي توازن وتعرف كيف ان تمسك بقبان الميزان حتى توازن بين الصوت القديم والصوت الحديث والمعاصر للحياة في شكل القصيدة الحديثة.
وإذا أردنا ان نبحر في عالم قصائدها الاخرى، فلكل منها وحدة بناء خاص وعالم يتمحور بين عالم الاشياء المادي وبين فلسفة الحياة وروح العصر، فهي تشكل القاسم المشترك لقصيدة الحداثة المعاصرة.