ربما لم يكن من المفيد أن أسترجع ذكرياتي التي مضت ، والأيام التي عشتها وعاشتني في زمن طويل . حياتي الماضية لا شيء فيها يستحق أن أتذكره . كلها أيام كانت خالية من الحياة ،إنها مجرد أيام مليئة بالحزن والمآسي . لم يكن فيها فرح سوى نادرا . من العبث أن يتعلق الإنسان بما هو مضى ، لا فائدة فيه ، ولم يعد له وجود . الناس يتذكرون حياتهم الماضية كي يتعظوا ، وبعد ذلك يتجنبون الأخطاء . أما أنا فأتذكر حياتي الماضية باستمرار . أسترجع الذكريات وأبكي . أعيش ما عشته من جديد
غادرت المكان الذي يذكرني بما عشته . لكن الذكريات ظلت عالقة بذاكرتي ، ومن حين لآخر تغزوني ، وأتحسر على أيام لم أعشها ، وعلى أخطاء إرتكتبتها . الذكريات تنغص علي الحياة التي أود عيشها ، وأحلم بها . ربما الأحلام لا تتحق ، بل نصير ما كناه في الطفولة . لقد سمعت مرارا من الناس يقولون :
-من أباه فقيرا يصبح الولد فقيرا أيضا ، الفقير يلد الفقير ، والغني يلد الغني
جلست في مكان بعيد عن المدينة . هربت من البشر . في كل وجه طفل صغير فقير يذكرني بطفولتي . هربت لعلي أتخلص من الوجع الذي يلاحقني . حاولت قتل الذكريات ومحوها من الذاكرة . لم أمح أي شيء . ظلت ذكريات أخرى تتولد من جديد ، وتحضر بذهني . كل شيء ضدي . ربما الحياة ، أو قوة أخرى مخفية ، هي التي تفعل بنا ما تشاء ، وتجعلنا لا ما نريده .
رآني شخص لا أعرفه ، حينما إلتقت عيني بعيناه ، تبسم في وجهي قليلا . بدأ يتجه نحوي بخطى مسرعة . نظرت في وجهه قليلا ، تفرست ملامحه وملابسه . بدا لي شخص قادم من الزمن الغابر ، أتى من عصر مضى ، غير العصر الموجود . خمنت أنه يشبهني . لا يعيش حاضره ، ولا يتنبأ لنفسه بأي مستقبل . إقترب إلي صافحني ، ثم سألني قائلا :
-ماذا تفعل هنا ؟
لم أفكر في الجواب كثيرا ، بل أجبته بعد أن سألني فورا ، قلت له مبتسما :
-أتيت إلى هنا لأتجدد ، أريد أن أمحو الذكريات السيئة . إنها تجعلني أعيش صراعا بين نفسي . أتعذب كل يوم ، وأنطفئ .
حدق بي قليلا ، ثم أجابني وهو يضحك :
-لم أكن أتوقع منك جوابا مثل هذا . لكن هذا شيء يهمك . أنت تريد أن تنسى الذكريات ، وأنا لا أريد شيئا ، سوى أن أعود للشخص الذي كنته.