مراهقا كنت عندما رأيته يجلس على الكرسي خلف منضدة تغطيها القصبات المحورة للخط واقلام الرسم والشفرات , ويعلق جواره صورة بورتريه لفتاة جميلة ,كان ذلك في مرسمه تحت فندق الكويت مقابل دائرة البريد بساحة ام البروم .
بعدها بسنوات كنت اراه منهمكا في مرسمه الجديد جوار صيدلية الشعب في شارع المغايز .. وحينما انتقل لاخر مرسم عمل فيه بعد عقود باحد ازقة البجاري قرب حسينية مهر الدين التقيته في ذلك الضحى الساطع ومكثت قليلا قبل ذهابي الى الصيد .. هناك قال لي بحسرة (لقد اجهز الحاسوب على فن الخط وحجم رزقي وصير الطارئين فنانين )..
مهدي البدوي مواليد البصرة 1943 تقاعد من الجيش وانتقلت عائلته لبغداد .. هنالك علمته امه الخط فقد كانت تعلم الصغار القران وتخط بريشة بطة وتدعوهم ليخطوا الايات .. اشترك بمعارض مدرسية في الكرخ والرصافة .يقول ( بتاثير من صديقي محمد الموسوي الذي كان يعمل في العراقية بالستينيات ..كنت اول من صمم لوكات للعراقية والفرقان والعراقية الرياضية .. اكثر من مائة لوكة وفتحت لي محلا للخط في الكرخ في عمارة عبد العزيز المؤمن قرب جسر الشهداء ثم انتقلت الى رزملي مقابل المتحف . وعملت في مجلة المتفرج خطاط مانشيت ومراسلا وعملت بصحيفة الفكاهة البغدادية والنجاح ثم انتقلت البصرة فزاولت العمل في صحيفة الثغر والبريد والنهار وغيرها وعملت بمطبعة حداد والادريسي ومحفوظ وصممت اغلفة كتب مثل بيادر خير للشاعر الغنام وتاريخ البصرة لابراهيم الرويح ودواوين الشعر للمؤرخ حامد البازي ) .
زجج البدوي لوحة البنك المركزي بكورنيش البصرة .. وتركز عمله على الحفر على مادة الليناليوم والاختام والشواهد والرسم .
كان البدوي احد المؤسسين لنقابة الصحفيين فرع البصرة سنة 1970 الذي تراسه حينها كامل العبايجي صاحب المطبعة باسمه .
التقيته من حوالي 4 سنوات كنا قصدنا بغداد لننتخب هيأة ادارية للصحفيين .. دعوته لنكون معا بغرفة واحدة اجاب (حسنا لكني سانام فورا ) .. لكنه لم ينم احسسته يطفو من الفرح .. كان حوارا عن الفن وتاريخه والبصرة وماضيها واثرت فيه ذكريات شخصية فتدفق كالمجرى المتسارع ولم ننم حتى طلوع الفجر .
لقد وضع في محله لوحة (انما الخطاطون والخياطون ياكلون من اعماق عيونهم ).. لكني قبيل كتابة هذه المقالة هاتفته وهو ببغداد باول يوم من رمضان (لا اغادر منزلي اكاد افقد بصري .. اجريت عملية فاشلة .. انا وحيد تماما احن للبصرة وسازورها فالتقيك ).
هل يتذكرك الاطفال الذين رسمت لهم بقراءتهم الخلدونية .. هل تتذكرك اللوكات التي ابدعتها والصحف والمطابع التي ازيلت واصحابها .. وهل تنفع حسراتك وانت ترى جمال الخط يتخلى عن رواده ومبدعيه ويستبدلهم بالحاسوب .
هناك اوفياء .. وسابقى كلما نظرت لخط فني لعنوان قديم اتذكر الايدي الماهرة وان لم اتعرف على مبدعيها ..
لن نكون محظوظين بعد الرحيل مثل اولئك الذين حفرت لهم شواهدهم على المرمر العصي .