في السنة الماضية سافر احميدة وفاطمة الى مدينة الصويرة. قضيا بها خمسة أيام من الاسبوع الثاني من شهر شتنبر. هذه السنة قررا الاستغناء عن السفر. الامكانيات المادية لا تسمح بذلك. لا بد من الاستعداد للمولود القادم عن طريق الاقتصاد في المصاريف إلى حد ادني، وتوفير الفائض للأيام القادمة التي لن تكون سهلة.
اتفقا على الخروج كل (ويكاند)* إلى باب الجديد. يمران عبر شارع محمد السادس . تغير اسم الشارع، وتغيرت معالمه. الجمهور ايضا تغير. سرق لقب (شوفوني) من بقية الشوارع الأخرى بكثرة فنادقه، ومقاهيه الفاخرة، وعلبه الليلية. تحول الرصيف الذي يتوسطه الى ما يشبه حديقة تتخللها كراسي متفرقة من الحديد، تفصل بينها عشرات الامتار، وكأنها خصصت للعشاق الأجانب. ابتعد البسطاء عن عشبه الذي لم يعد مسموحا بالجلوس فيه.
اوقف دراجته عند نهاية الشارع. نزلت فاطمة، دار على اليسار، وسار قليلا. انتقى مكانا بعيدا نسبيا عن بعض الاسر التي تجلس بنفس الفضاء تحت أشجار الزيتون. أوقف الدراجة، وفتح القفة، وأخرج فراشا بسطه فوق العشب، ووضع بجانبه كأسا وقنينتين، إحداهما ماؤها مثلج، والثانية ماؤها دافئ. تمددت فاطمة فوق الفراش. لوى الجزء الفارغ من القفة حتى أصبحت تشبه مخدة، ووضعها تحت رأسها. وجلس بجانبها يتبادلان الحديث.
نهض من مكانه، وابتعد قليلا. اشعل سيجارة. كان يدخن، وينظر إلى بطن فاطمة. ثم سرح به الخيال بعيدا. تخيل اذا ما جاءها المخاض! هل يخبر أمها أم أخته؟ لكنه لا يمكن أن ينتظر حتى تأتي إحداهما من أقصى المدينة. سيلزمها ساعة ونصف او ساعتان، قد تلد فيهما فاطمة. اذن عليه أن يتصرف. أحمد صديقه وعده بأنه يمكن ان يضع السيارة تحت تصرفه، يكفي فقط أن يتصل به. عليه أن يرتب هذا الأمر، ويضع له خطة محكمة في المستقبل باتفاق مع فاطمة. رمى عقب السيجارة، وعاد إلى جانب زوجته.
فتح هاتفه، وأطل على صفحته في الفايس، ثم قال وهو يتمدد بجانبها على العشب:
ـ لا أحد من ثوار الفيسبوك يحس بما نشعر به من حب وألم وخوف. البعض ينشر صورة لك وأنت تتألم، او تحتج دون إذنك، ويدون أسفلها شارك يا مواطن حتى تصل لأكبر عدد من المشاهدين. والبعض الاخر لا يخسر عليك أكثر من (لايك) إعجاب.
في كل مرة تنسى أن تسأله عن (اللايكات). قالت له:
ـ هل يتقاضون أجرا على (اللايكات)؟ غريب أمر البعض الذين تحولوا إلى شحاذين. لا يطلبون طعاما ولا مالا. يستجدونك فقط أن تضع لهم (لايك) إعجاب، أو تشارك ما ينشرونه مع معارفك وأصدقائك.
سكت احميدة قليلا وأجاب:
ـ في الحقيقة لا أعرف. لست متخصصا في الإعلاميات. اسمع الناس يقولون بان الفايسبوك فيه صفحات بالمجان، وصفحات بمقابل. ربما تحولت (اللايكات) إلى مجرد إدمان مثل السجائر او المخدرات.
بعد منتصف الليل أخرجا عشاءهما. غسلا ايديهما. وكانت فاطمة ترشد أحميدة، ضع هذه هنا، اخرج تلك، هات الخبز. أنهيا تناول وجبة خفيفة. أخرج بطيخة صغيرة من القفة، وفتحها ونقاها من الزريعة، وقطّعها أطرافا صغيرة، ووضعها في صحن من البلاستيك.
طلعت حلوة مثل السكر. التهمت فاطمة بنهم أكثر من نصفها. تموت في البطيخ.
أشعل هاتفه، وتصفح شريط الأغاني وضغط على أغنية، وسألها:
ـ حاجيتك آش من اغنية هذه ؟
أجابته وهي تبتسم:
ـ القلب المسكون، رائع يا احميدة، لم استمع لهذه الاغنية منذ مدة طويلة، الهَمُّ انسانا الاستمتاع بالفن الجميل.
أغمضت عينيها ثم بدأت تردد بصوت دافئ مع مجموعة جيل جيلالة :
يا قلبي طاوعني
ياك انا مولاك
علاش الغير يسكنك
لله أقلبي جاوبني
آش ندير معاك
حيرني أمرك ….
انتظر حتى انتهت الاغنية، وجمع البقايا، ووضعها بجانبه في كيس من البلاستيك، وتنحى جانبا. دخن سيجارة أخرى. ثم اتكأ بجانب فاطمة، سألته هل لا زال يذكر كيف أحبها لأول مرة ؟!
عادت به الى الوراء أكثر من خمس سنوات. لم يستغرب طرح السؤال لأنها تعرف الجواب. أحس بأن فاطمة في حاجة هذه الايام الى عناية أكثر. فقال لها وهو يبتسم:
ـ في البداية لم أكن اشعر نحوك بأي شيء. كنت أنظر اليك كباقي بنات الدرب وكصديقة لأختي. بعد الحادث الذي تعرضتِ فيه للاعتداء من طرف ذلك الوغد، عندما وضعتِ رأسك على صدري، وأنت ترتعشين من شدة الخوف، وأنا أهدئ من روعك. أحسست معها بتيار دافئ يتسرب الى روحي. منذ ذلك الحين بدأت أسأل عنك اختي، فتحكي لي عن شهامتك وطيبتك، و تضحك معي، وتسألني بمكر: هل أخطبها لك؟ وفي كل مرة أحاول مراوغتها بأي طريقة. هكذا بدأ اهتمامي بك. وقد حكيت لك ذلك من قبل بالتفصيل الممل.
أحست بدبيب خفيف في دمها، ثم قالت وهي تبتسم:
ـ أموت في اليوم الذي وضعتُ فيه رأسي على صدرك، وأنا أرتعش من شدة الهلع. أحسست لحظتها بالدفء والأمان. شيء غريب لا اعرف ما هو تسرب ايضا الى روحي، وظل يسري فيها إلى اليوم. نحن النساء يا احميدة نعيش قهرا مزدوجا في مجتمع متخلف. لولا الحب لدخل أغلبنا مستشفى المجانين. أحس وأنت تحكي كأني أسبح في جزر هايتي!
غدا ستصبح أبا يا احميدة، وأنا أما، وسيصبح هذا الملاك الذي في بطني ثالثنا، سنقتسم معه نفس الحب الذي عشناه، أو أكثر.
قد لا يسمع، لكنه سيحس بكل هذا الحب الذي أكنه له. لا أريده أن يشعر بالألم والخوف والغضب الذي يسكنني من حين لآخر. اريد ان أعيش هذه الاشهر والأسابيع التي تفصلني عن الولادة بسلام.
تدحرجت كرة صغيرة حتى لامست ركبة فاطمة. مالت قليلا لالتقاطها من فوق العشب. وقف طفل صغير ينظر إليها، وينتظر على بعد مترين رد فعل فاطمة. حاولت استدراجه وهي تبتسم. اقترب الطفل أكثر حتى أصبح على مرمى من يد فاطمة. اخذته في حضنها، وقبلته ثم سألته عن اسمه فقال بصوت متلعثم: مجد. ناولته الكرة. قذفها برجله في الاتجاه المعاكس. واختفى بين أفراد أسرته.
فجأة وقف شرطيان بدراجة نارية فوق راس احميدة. وقبل أن يسألا عن البطاقة الوطنية والعلاقة التي تربط بينهما، فتح أحدهما (التولكي وولكي)*. نظرت اليهما فاطمة باشمئزاز، وناولت الشرطي القريب منها بطاقتها الوطنية، ونسخة من عقد الزواج.
عندما تقف عليك الشرطة في المغرب لا تشعر بالأمان، رغم انك لا تفعل اي شيء مخالف للقانون.
الشرطيان اللذان وقفا على احميدة وفاطمة خانهما الحدس. (ضربا النقب وخرجا في دار الوضوء)*. اعتذرا لهما، غادرا والخيبة تبدو على وجهيهما.
قالت فاطمة وهي تتنهد، وتقف لتجمع أغراضها رفقة احميدة:
كل شيء في البلد يسير بشكل مقلوب و الناس يرونه عاديا.
المعجم:
ـ الويكاند : عطلة نهاية الأسبوع
ـ شوارع شوفوني : مجاز شعبي أطلق على الشوارع الفاخرة بأكر المدن المغربية في ثمانيات القرن الماضي، حيث يتجول الناس في هذه الشوارع ويتباهون بما يلبسونه من ثياب فاخرة.
ـ ضرب النقب وخرج في المرحاض : مثل شعبي يعني الخيبة أي أنه ثقب الحائط لكنه بدل من أن يجد الصندوق المليء بالأشياء الثمينة، وجد نفسه في المرحاض.
مراكش في 12 غشت 2018