حينما نذهب إلى قضاء أبي الخصيب وندخل قرية جلاب ونصل إلى جسـرها الكونكريتي ، نقف هناك لنسترشد من الجالسين على جدرانه الواطئة ، فنعلم أنّ نهر جلاب الذي يأخذ ماءه من نهر أبي الخصيب ، لـه امتدادات تتفرع منـــها ثلاثــــــة فروع ؛ أحدهـم يلتف ويضيع في منطقة بلد سلطان ، والثاني يتسابق مع أشجار النخيل ليدخل إلى هيكل السوق الكبير ، والأخير ينطلق فيــه الماء إلى منطقة آل أبراهيم … كان الشاعر مؤيـد العبدالواحد يتخذ مكانـــــه فيلهو بسنارة ــ شصه ــ ذي القصبة الطويلة ، فيصيد الســمك ، لكنـه في حينٍ من الوقت نجده يبتهج ، فتغمره سعادة حقيقية تطفو على عينيه بدفقات من الرؤى جامحة فياضــــة من نبضات القلب ، حينما تأتي تلك الكلمات المثابرة بإيقاعاتها العالية والواطئة النغمات ، يزداد إلهامــه لتنعكس إحساساته في منحى عفوي ، لكنــه خصب في معاني الذات ، فينهض مســـــرعا” ؛ يأخذ قلمه يضعه في دواة الحبر الأخضر ويخط أحرفه في قصيدة تمضي في خطها الرومانسي وفكرتهـا
بهدوء .. ويستمر ينشد الفجر منذ بزوغ الشمس فيحميه من هصر الجن والأشباح ..
أشجار النخيل تميل قليلا” على ضفاف النهر وأشجار العنب الباســـــــــقة تُعلق وتلتف حول جذوعها .. أشجار المشمش والتين والخوخ وأشجار السدر تتطلع إلى السمـــاء ، وكأنهـــا تُريد أن تقول شيئا” ، لكنها تنتفض وتُلقن الشاعر( مؤيد) بكل ما تريد أن تقوله…مؤيد شاعر أدركته الحيــاة متشــحة بالرومانسـية منذ كان صغيرا” ، يعمل ويكتب بهدوء ، منعزلا” عن كل نشاط أدبي أو ثقافي ، لكنه شاعر متميز ومجدد ، يتفاعل كثيرا” مع شعر التفعيلــة .. مواضيعه التي يكتبها تعبر عن أفكار عميقة ، وقـد أتخذ من الأسطورة منبعا” ثرَّا” في كتابة أشعاره ..
( تخرج من الأعدادية وتمَّ تعيينــه كموظف في مديريـــــة الشرطة ، لكنــه أنتقل بعد حين إلى الموانىء العراقية ، وسافر بأجازة دراســية إلى المملكة المتحـــــــــدة ، ليحصل على شهادة الدبلوم في الأحصاء ..)
قال عنـه الشاعر بدر شاكر السياب في مقدمة ديوانه ـــ مرفأ السندباد ـــ ( أتجه نحو التاريخ والأسطورة ، لا ليتخذ منهما رموزا” للتعبير عن فكرة ، لقـد جعل التاريخ والأسطورة موضوعـه ُ الذي يُعالجـه ُ ، لا لغاية غيـر غـايـة الشعر وحـده ، ولم يجد له حقلا” أخصب من تاريخ العراق القديم ، تاريخ سومر وبابل ، كما عرج على الأساطير العربيــــــة ، وأقول أنّ الشاعر كان ممثلا” جيـدا” للرومانسيـة الجديــدة في الشعر العراقي الحديث ) ..
ألتقى مؤيد بالسياب من خلال وظيفتهما في مصلحة الموانىء العراقيــــــة ، كما ألتقيــا في لندن عندما ذهب السياب إليهــا للعلاج ، وعاشــا سوية في بيت واحـد ، كما ألتقى بـه صدفــة في فرنسا … وأستمرت صداقته المتينة والطيبة مع السياب ، طالما أنهمـا يلتقيــان معا” في الأنتساب إلى مدينة أبي الخصيب في البصرة ..
طُبعَ لـه ديوان ( مرفأ السندباد ) من قبل دار مطبوعات مديرية الثقافــة العامــة في وزارة الثقافـة والأعلام ، كما أصدر ديوانا” آخر بعنوان ( الغريب والبحر ) ..
وُلـد مؤيـد في قريـة آل أبراهيم في أبي الخصيب عام 1938 ، وتوفاه الله بتاريخ 6 / مايس/ 2006 ، ودُفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير ..
مؤيد كان يعشق حبيبته كالخيــال أو كلهفـــة الروح ، وكما يحبها كنفحــة الهجيـــر في ليل ٍ صيفي ، ويزدادُ شوقا” ويتربع الحب في عرش القلب بسموٍ ومهابة التي يشده شـعاع يرجفــه ويطلق عنانه :
*من قصيدة الريح لا تجيد القراءة :
حبيبتي
كالظنِّ كالخيال
كلهفة الروح إلى المُحالْ
أحبُهـا
أحبُّ فيهـا لفحةَ الهجيرْ
ورعشة النهدين تسري في دمي ، تذوبْ
حبيبتي كالظَنِّ كالضميرْ
كالوهم ِ في حدائق الجنوب
أحبُّ فيهـا سكرة الحبِّ
وظمأةَ الشفاه للعروق
ألفُها بخاطري نجما” على دربي
يُنير ظلماء حياتي ، ينبضُ الشروق
أحبُهـا
أخبّىء الحبَّ عن البشر ْ
أودُّ أن تمزجنا الشموس ْ
أودُّ أن يرشقنا القدرْ
رُوحين في مجمرة الطقوس ْ
أحبُهـا
يشدني لحبها شعاعْ
ترجفه الدموعُ والوداع ْ
قارورة ُ الطّيب متى تؤوبْ
ظمئتُ للعناق
ظمئتُ من ترقّبِ الدروب ْ
ــــــــــــــــــ في شعره لغـة حيـة جديدة واضحة ، يزيل صبغة النفور وجدار الغربـــــة عن أرض ٍ معطاء فيهـا وجد التأمل ، فأرسى زوارقه في زمن تتبارى فيه الوجدانية والهيــام مع الأحاسيس والمشاعر … يلتحم مع الكلمة المتوثبة في نسج لغــة شـــعريـة أصيلـة … الرؤى والأمكنة لديـه من مقتربات الروح ، حينما يمسك من بدايـة أو وسط الكلمة في عالم قد يكون
غريبا” عن أرضية يتحدث بها ويقتربُ كثيرا” من مفردة النبرة المتزنة في التعبير والإنشــاد تحت سطوة دغدغة المشاعر من فيض المعاني والإنعطافات التي فيها قد تلوح الحيــــــاة من عذابات الأنسان أو في فرحه وشقائه .. *من قصيدة ( عاشق الليل )
ها أنتَ يا نُســيمةَ الســــحر …. تدقَّ أجراســـــا” من الزهــرْ
يا أنتِ يا أحلامُ لو ترجعين ْ…. يا دمعة” في النظرةِ السَاهمه
تجري فتُذكي ناريَ القاتمـه …. يا أنتِ يا أحــلامُ لو ترجعينْ
يا جـدولَ الأحزان في قلبي …. يا عاكســا” لي صُورة الحبِّ
يا أنتِ يا أحلامُ لو ترجعين …. آهٍ لــدربٍ فوقــــه تخطــرينْ
أحسُدُه ، أهواه ، لو تعلمينْ …. يا أنتِ يا أحــلامُ لو ترجعينْ
تأبى عيونُ الصبِّ أن تهجعا… سُهدي وظلٌّ منك باتا معــــا
يا أنتِ يا أحلامُ لو ترجعينْ ….سَكرانةٌ من دون خمَّــــــــار
هَتَّكَتِ الأشواق ُ أســراري …. يا أنتِ يا أحلامُ لو ترجعينْ
ــــــــــــــــــــــ جزء من قصيدة من ديوان مرفأ السندباد
النور عندي تراتيل وأدعيـــة والليـل عندي عبير جفَّ معناه
وللدجى شــــبح يزقو يمزقني وأوهم النفس إني لستُ أخشـاه
ذيل الغروب تود النفس لو لمست نهاية منــــه عن أفقٍ تعداه
وهاجت النفسُ آلام مقطعة كشـــارب الكأس تُذكيـــــه حماياه