عندما سأل المعلم عبد السلام ماذا يريد أن يعمل في المستقبل؟ أجاب بعفوية بأنه يريد أن يصبح مهندسا معماريا. اختار هذه المهنة ليبني لنفسه منزلا جميلا، يتزوج ويربي فيه الأبناء. منزلا كبيرا يتسع لكل أفراد العائلة. الآن هو يتكدس مع ثلاثة إخوة في غرفة ضيقة.
أحب كرة القدم. عشق الفريق الذي يحبه أبناء الحي، ويتحدثون عن انتصاراته وهزائمه. عندما دخل الملعب لأول مرة مسته العدوى.
تمنى لو أصبح لاعبا كبيرا، لكن الله لم يفتح عليه.
عندما بدأ يكبر، ويميز نسبيا بين الصالح والطالح، طردوه من المدرسة، فتبخر الحلم. ابتلي بالمخدرات. البقاء في البيت الصغير يفرض عليه أن يعمل، لينام ويشرب ويأكل ويتخدر.
العثور على عمل مريح في المدينة ذات القلب الحديدي دونه سبعة نجوم. عليه أن ينحدر من وسط ثري ليفصلوا له عملا على مقاس العائلة. الشباب في سنه حصلوا على شواهد عليا، ولكنهم لم يحظوا بالحصول على هذا العمل اللعين.
والدته عز عليها أن يضيع الابن البكر من بين يديها، فباعت دملجين من الذهب، ظلت تحتفظ بهما للأيام السوداء. الحياة قاسية، ولا بد أن تساعده على فتح مشروع صغير. نصحه والده بشراء دراجة ثلاثية العجلات، وبيع الخضر والفواكه، حتى يجد ما هو أحسن. بعض أصدقائه أسرّوا له بأن دخل هذه التجارة لا يقل عن مائتي درهم. وقد يرتفع في نهاية الأسبوع إلى أربعمائة درهم.
بعد أسبوعين بدأ العمل. يمر عليه إبراهيم ولد الجيران الذي يشتغل هو الآخر كبائع متجول، ويوقظه في الرابعة صباحا. في الأيام الأولى اكتفى بمراقبة ما يجري، وترك إبراهيم بحكم تجربته يساوم الباعة، ويختار له الخضر التي تناسب المستوى المعيشي لزبائن الأحياء التي سيتنقلان بينها.
يتناول الفطور الأول رفقة إبراهيم أمام باب السوق، ويقضي ما بين ست ساعات أو أكثر متنقلا بين أحياء قريبة من بعضها، ثم ينتقل إلى رصيف الساحة المقابلة لباب المسجد الكبير عند صلاة الظهر. ورغم إتقانه لعبة القط والفأر مع أعوان السلطة، فلا بد إذا ما وقع في قبضتهم، أن يمد يده إلى جيبه، فيقتسمون معه ما جناه من أرباح بعرق جبينه. سيعود إلى البيت، إذا حالفه الحظ، وتخلص من بقايا السلعة في حدود الرابعة مساء.
في البيت تعوّدَ الاستحمام أولا، وبعده تناول طعام الغذاء، والنوم حوالي ساعة. ثم تأتي والدته، وتوقظه مدعية بأن النوم بعد العصر مضر بالصحة كما قال جده.
اتخذ من يوم الأحد يوم عطلة. وبعد شهر اقتنى حذاء رياضيا جديدا وقميصا أخضر عليه رقم لاعبه المفضل، وعلم الفريق. ليلة السبت سيذهب إلى الحمام، ويخرج ليقف مع أبناء الحي، يتداولون حول برنامج الغد.
التجارة بدأت تتراجع. الأسعار عملت أجنحة، وحلقت في السماء السابعة. والناس لم تعد قادرة على مجاراتها. أحس هذه الأيام بأنه يُعتصر مثل القمامة ليعيش.
عندما يدخل إلى الملعب، ينسى الغرفة الضيقة، والأسعار وبيع الخضر، ومطاردة أعوان السلطة. يجد نفسه مثل طائر يحلق في الأعلى وسط هذا الحشد الهائل من الشباب الذي يرتدي نفس الزي، ويردد بحب وحماس نفس الأهازيج والأغنيات.
في الملعب يُحس بأنه ليس وحيدا. يجهر مع هذه الحشود بصوت عال :
(أو أو أو أو
في بلادي ظلموني
لمن نشكي حالي
الشكوى للرب العالي …)
أمام تراجع أداء الفريق، قال عبد السلام لإبراهيم ولد الجيران:
ـ هؤلاء المسيرون لصوص وأولاد كلاب، لا يحترمون هذا الجمهور العالمي. بالأمس باعوا أمهر اللاعبين. قتلوا الفريق، لم ينتدبوا لاعبين جددا في المستوى.
رد إبراهيم بأسف:
ـ زد عليهم حتى الحكام، والمكتب الجامعي.
أضاف عبد السلام:
ـ الفساد عشش في البلد. كل شيء يسير عكس ما نحب ونتطلع إليه؟!
غمامة سوداء تغطي سماء الملعب، تغرس فيه صراعا حادا بين الأمل الأخضر الذي لا يدوم إلا ساعات معدودة، وشعور بالإحباط واليأس يتسع كل يوم أحد.
من وسط الدخان الرمادي للمفرقعات، ينبثق الحلم بالهجرة إلى ما وراء البحار. هناك لا بد أن ينصفه الله، وعشق الخضراء، ويعثر على عمل، ويجمع المال، ويحب ويتزوج من فتاة شقراء، ثم يعود لبناء البيت الكبير.
مراكش 13 أبريل 2023